الأماني في رواية ليلى قصراني: "سهدوتا"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
القصة أو الرواية بمفهومها العام رؤيا ذاتية لواقع الحياة ، مستنبطة مضامين أحداثها مما يتراءى للقاص أو الروائي بما حوله ليسبغها بالشكل الذي تحدده أفاق تخميناته ، أو بما يستلبه ويستله من مكامن الخيال ليؤنس وينعش ويُرشد القارئ بخلجاته وبما يهدف اليه ، مستأذناً رؤاه بما تمليه عليه المخاطبة بمنهج ال "أنا" للشخص المتكلم أو هو وهي وهم ، فإن كانت صيغة الأنا غالبة على السرد وكأن بطل القصة أو الرواية قد عاش ما يرويه بتجارب متعاقبة يكون القاص/الروائي والحالة هذه قد استلهم ما يتفاعل في خياله ، أو من أشخاص يتفوه بأسمائهم وما عاشوه من أحداث ووقائع بمعالجة سلوكهم.
من خلال بعض ركائز هذا المنطلق أطلت علينا بغتة في ميدان الساحة الأدبية القصصية والرواية مبدعة آشورية عراقية ، خزنت في ذاكرتها وعقلها الباطن ما وثقته بخيوط الذكريات الطفولية والشبابية ، وفيما بعد تسلحت بمعرفة جديدة لتضيف إلى خزانتها الآشورية والعربية والإنكليزية اللغة الفرنسية ، لتزيد من قوة الإستذكار والإسنتباط بالتحصيل المعرفي المتمثل بقمم شعراء وكتاب الآداب الفرنسية ، مستلهمة من تجاربهم ما يُمَكّنها أن تتجرأ على حمل اليراع بين أناملها مجسدة ما تفاعل وما فتأ يتفاعل في ذاكرتها بعنفوان المرأة الناضجة والمتسلحة بتجارب جديدة ، بحكم المراحل الزمنية وما تمليه التقنيات الحديثة ، وفي عصر تجاوز سلبيات الماضي الأليم مقارنة أياها بتلميحات ما يفرضه واقع اليوم ، بالرغم من وجود ثمة شوائب لا زالت تتغذى على قيم وتقاليد وأعراف المحيط القروي والمدائني الآهلة بالسكان ذات القيم والأخلاق السائدة بإثراء نصوصها كي تمهد طريقاً للمتلقي على المتابعة واستنتاج ما ترمي اليه.
تحلت الروائية ليلى قصراني بجرأة نادرة ، قلما تتحلى بها المرأة الشرقية كعراقية ، وبشكل خاص المنتمية لشريحة مجتمع متحفظ بقيود وأحكام عادات وتقاليد متوارثة عن الآباء والأجداد ، أو ما يفرضه الإنتماء العقائدي من أعراف ، كأنثى اشورية ترعرعت في مجتمع عربي محافظ توارثت بعض الشئ ـ نوعاً ما ـ مما هو عليه في محيط نشأتها وتزاملها ، رغم التحرر النسبي الذي يتمتع به مسيحيو الشرق وتأثيرات أجواء ومعايشات العالم الجديد في ديار الإغتراب. ومن جراء ذلك التحرر النسبي حاولت ليلى أن تتجرد من بعض الإعتبارات التي لا يُستساغ الإفضاء عنها والإفصاح عن مكنونها إلا بسرية وعلى نطاق محدود ، قد يكون محصوراً على بني جنسها فقط ممن يكونوا على مقربة وموضع ثقة ، لكنها تتخطى تلك السرية لتؤكد حيويتها بصراحة وانفتاح حداثوي لشيوعه وانتشاره في مسار الآداب الحديثة وعلى وجه الخصوص الغربية منها ، مؤكدة مقولة لا حياء في الدين ، ولا حياء في كشف الحقيقة ، طالما كفة ميزان الحقيقة هي المنفذ لإثبات لغة واحدة لا يتقنها إلا من أضحى جاهداً بفهم وادراك معانيها.
هذا ما اتضح لي وتبين عن كثب في الوهلة الأولى من قراءتي لأولى صفحات روايتها الموسومة " سهدوثا " باللغة الآشورية أي بمعنى الشهادة بالعربية والصادرة هذا العام 2011 عن دار الغاوون في بيروت. قاصداً بتلك الجرأة على مجموعة لا تحصى من عبارات الجنس العابرة ، الواضحة المعالم والمستوحاة من طبيعة وظروف المجتمع الملبد بالكبت والحرمان ، الظمأ الجنسي والعوز المادي ، والتي قلما نجد لها مثيلاً في النتاجات الروائية أو القصصية العربية المحدودة ، قياساً بما أقدمت عليه ليلى قصراني وفي باكورة اعمالها الأدبية في حقل الرواية، وبما نُشِرَ ويُنشر في البلدان العربية رغم ندرته ومحدوديته الورقية بوازع التحفظ من خلال الصراع مع التقاليد التي تمليها قيود الأعراف الإجتماعية ليقدم العديد من الروائيين والروائيات على الإختفاء خلف ستار الحياء والخوف والإلتزام بأسماء مستعارة تشهد عليها الصحافة الألكترونية الحرة التي مهدت الطريق على كسر القيود والإنعتاق من سلطة سيوف الرقابة المملة وما يترتب عنها من سلبيات ومآخذ متعمدة.
ليلى قصراني بجرأتها وتحررها ومعايشاتها وتجاربها تجاوزت كل تلك الإشكالات ورسمت لها الطريق الصحيح والفكر الصريح غير آبهة لإية ردة فعل ممن لا يرتضي اسلوب الصراحة المطلقة التي تتمثل بإجلاء الحقيقة مهما كان فعل تأثيرها لكون قناعتها بإقتحامها هذا المجال هو بمثابة الكنز الذي لا يفنى.
لذا حاولت قصراني في بداية سردها بعملية الجذب المغناطيسي أن تُشوّق القارئ بعرض يثير الدهشة والإستغراب مباغتة أياه بفعل لم يكن مألوفاً حين تنطلق في بدء روايتها بعبارة " لم أرَ أحداً قط يشرب البترول سوى أبي. فعندما أراد التخلص من الديدان الشريطية العالقة بأمعائه. طلب من جارنا أحمد السائق كأساً من البنزين....." وبعد أن تستطرد في وصفها تعود مرة ثانية لتشد القارئ بتكرار ذات البداية ، ولكن هذه المرة بنصيحة أمها وبمداواة علاجية أغرب من قبلها حين تزدي نصيحتها بمقولة " كانت أمي قد نصحته أن يُجمّدَ قطعة رفيعة من اللحم النّئ ويدخلها في إسته لتتجمع الديدان حولها......" والأدهى من كل ذلك ، ونحن لا زلنا نتابع الوصف أن ينتفض الأب ربما بدافع ما يعانيه أن ينتقم من ديك الجيران بتسلله الى الحديقة الخلفية لبيت أم كرومي جيرانه وإقدامه على " سحب عنق الديك الغبي بعصبية ، وكسره ، ثم تركه خارج القضبان بعدما وضع بعض حبات حنطة بجانب القفص كي يبدو كلّ شئ وكأنه مجرد حادث ".
تستمر ليلى على هذا المنوال مستدرجة بأحداث بعض الحكايات الشعبية الواقعية التي تضاعف من همة القارئ لتنقله في أجواء أكثر جاذبية متمثلة بالعديد من عبارات المفاهيم الجنسية من فعل المعاصي لتُكملها مواقف الخلافات بين أفراد العائلة على الموروث ، مواقف الجدة صاحبة القرار ، عبرة الأساطير وغيرها ، متجاوزةً حدود الساحل لتمخر عباب الدوامات المتمثلة بالتأزمات والصراعات الدينية والإجتماعية والآراء الشخصية المتزامنة مع العديد من شخوص الرواية ، كونها أكثر عمقاً وأبرز تعقيداً لتتراءى العقدة / العُقد بمحاولة كشفها والتخفيف من شدة صراعاتها تدريجياً بغية الوصول الى مرفأ النهاية. وكما أشرنا قد تكون واضحة المعالم أو أن يجهد القارئ نفسه في إيجاد ما يتوصل اليه من حلول.
ولكي نكون أكثر وضوحاً من معالم عبارات الجنس المكثفة التي عمدت اليها الكاتبة ، وتمثلت بجرأة نادرة وهي تصف حالات العديد من طبائع شخصيات شرائح المجتمع الشرقي والغربي ، نجدها قد غطت صفحات الرواية ، فيجدها القارئ على سبيل المثال لا الحصر في حكاية عشتار ص 18 وما يليها بما ينتاب الملك اخشيورش من طموح شهواني يؤدي لهجر زوجته "وشتي" ليحظَ بإبنة عم مردوخ "هدسة" اليتيمة لتنتحل اسم عشتار وتغوي الملك بجمالها وفتنتها وأساليب استمتاعها المباحة للملك التي جعلتها تتسلط على هيبة القصر الملكي والمملكة.
وفي ص 52 تستعرض الروائية حالة العوز المادي لعائلة سعاد التي تضع النقاب وتمتهن البغاء من أجل أن تنقذ أولادها من ضيق العوز والجوع. استدرجت الكاتبة مباشرة بسرد ارهاصات الحاجة الجسدية من خلال العجز الجنسي لدى سمير المقعد في كرسي ذي عجلات لأكثر من عشرين سنة بسبب تعوقه في الحرب ، وبالتالي كيف يحاول من تخفيف أزمات الحالة النفسية ، حيث يتسنى له وبفكرة ارتجالية بوردة بائسة أن يبدد ما يعانيه وما تعانيه زوجته ليلى التي ضحت بشبابها من أجله.
وفي ص 75 وما يليها تنقلنا الروائية لفصل آخر تدور أحداثه في ديار الهجرة حين يحتضن يعقوب المهاجر بلاد الإغتراب وملاقاته "ميليندا" ، امرأة من أصل ايرلندي في إحدى الحانات ليبادلها الحديث ومن ثم مصاحبتها والسفر معها الى مدينتها تكساس رغم فارق السن بينهما، مساعدة اياه في الحصول على عمل ، وبعد قضاء فترة معها وإشباع رغباتهما ، تشاء الصدف أن يلتقي فتاة اثيوبية في محل لبيع الأحذية ، وبتردده الدائم لملاقاتها تتوطد علاقة الحب الشهواني بينهما ، لتدعوه يوماً بزيارتها مساءاً حيث تتواجد أمها معها ليتناولا وجبة اثيوبية ، وبعد أن تخلد الأم في نوم عميق ، تمتعا بحرية المداعبات ليكون ختامها في المقعد الخلفي من سيارة "لوام" الإثيوبية في المرآب المغلق ، تاركين المحرك دائراً ، وهما يتداعبان ويتنفسان بصعوبة ليتملكهما النعاس ويرحلا بالتالي في نوم عميق الى الأبد بفعل انتشار عادم السيارات وكثافة الدخان. وباستيقاظ الأم صباحاً اكتشفت جثتين هامدتين ومتلاصقتين لتلعن الضيف الذي كان جثة هامدة وصاحبته أيضاً بقولها: " يا ابن الحرام! ليتهم يدفنوك مثل سنجاب ضربته سيارة في الشارع ".
هذا غيظ من فيض مما ورد في الرواية عن الأحداث الجنسية ، وعلى هيئة حكايات متداخلة، اشرت لها للدلالة على تلك الجرأة التي تحلت بها الروائية لتكشف طبيعة الرجل الشرقي والمرأة الشرقية وما يحملانه من مفاهيم سلبية تعشعش في أحكام المحرمات ، ومتى ما بسط كابوس الشهوات سلطنته أعدت من المسموحات سراً وليس علناً.
ومن ايجابيات الرواية اعتمادها على شخصيات متفاوتة الثقافات من كلا الجنسين من متفاوتي الأعمار ، ومن رجال الدين إلى تفاوت الإنتماء المذهبي والعقائدي أو العشائري ، أساسية وثانوية في سياق الرواية ، ودور كل واحد منها في إدارة دفة امور الأحداث بإختلاف الآراء كحصيلة للتناقض وأساس التطور. فالرواية بشكل عام هي من محيط المدرسة الواقعية في إطار الحياة الإجتماعية لتجسيدها مراحل متفاوتة من البعد الزماني بحكم التنقلات من وقت لآخر ، والمكاني ما بين القرية والمدينة ، الوطن الأم وديار الإغتراب.
ولكي لا ينسرح قارئ عرضنا وتحليلنا على أمثلة يتصورها من الأدب الفاحش أو الجنس الفاضح ندرج فيما يلي ما تميزت به الروائية في نصوص روايتها.
ـ جرأة في الطرح ، مستمدة مقومات الرواية من واقع المجتمع الآشوري في عالمين متفاوتين يتمثلان بالوطن والمهجر.
ـ استذكارها للعادات والتقاليد والاعراف لدى الاشوريين ومن يجاورهم من شرائح المجتمع العراقي واستخدام التنويع في فقرات العرض ، وكأنها متعددة الأحداث في استخلاص واستنتاج ما تصبو اليه.
ـ التزام الواقعية في طروحاتها المتمثلة بشخصيات آشورية مستقاة من أحداث ووقائع الحكايات الشعبية المألوفة وكأنها من صيغ مغامرات الإثارة.
ـ تطعيم السرد بالمأثورات الحكمية المنقولة والمتوارثة.
ـ دعم الأحداث برموز مستوحاة من جذور أعماق التاريخ وأصالة التراث الرافديني ، وأقل ما يمكن الإشارة اليه رواية عشتار في بداية عرضها للأحداث ، مروراً بقدسية جبل سهدوثا ووصولاً لصلوات وروحانيات الرهبنة في الصوامع والهياكل والأمثال الشعبية المتوارثة.
ـ عرضها للعديد من الأفكار بإقتضاب من خلال استدراجها الوصفي بسرد عبارات على شاكلة الاقصوصة أو القصة القصيرة جداً بتزامنها مع سرد الأحداث في الرواية متمثلة باستطرادات قصصية متداخلة لراوٍ واحد أو اثنين بتجسيد المقومات السردية الرئيسية المتمثلة بالحدث وعنصر الشخصيات بشكل مكثف لإثارة الدهشة والإستغراب كي يتفاعل القارئ منذ بداية الحدث وتدرجه بتطوير الموقف بتسلسل جزئي يؤدي إلى نهاية الموقف أو الحدث.
من خلال هذا الإستطراد يتضح لنا في بعض الإنعطافات وكأن العرض ينقل لنا خبراً خال من مقومات الإقصوصة المتداخلة في الرواية لخلوها من نقطة التركيز أو التنوير النهائية التي تكشف خيوط البداية والوسط ، كونها محصورة في مجال واحد غير متعدد الجوانب ، مقارنة بما هو الحال في السرد الروائي المتسع بتسليط الضوء على زوايا متعددة التفاوت في الشخصيات والأحداث والمعنى المقصود بالرغم من اعتمادها على متنوع من الحكايات.
ومتى ما صنفنا المضامين الكلية لأحداث الرواية نجدها تلتزم بالواقعية المستمدة من الأحداث والمعايشات اليومية للحياة في القرية والمدينة بتشابك المداخلات التي تمليها نوازع الإستشارة والإمتثال لما هو برأي الأكبر سناً كما تمليه الجدة الطاعنة في السن أو الأم وفي العديد من المواقف والإشكالات من خلال نصائحها وارشاداتها المطعمة بالأمثال الشعبية المتعارف عليها ، وكأنها المرجعية الرسمية لتدبير ما يحدث من أمور يُستصعب حلها ، وذلك بحكم صفات الإنصياع الأخلاقي من احترام وتقدير والولاء لمشورة الطاعنين في العمر.
ـ إضافة لما نوهنا عنه تنقلنا الروائية في أجواء متفاوتة مما يعتري العائلة الآشورية منها الصراعات والإتهامات التي تفرضها عوامل طموح الفرد في السيطرة والهيمنة بإستغلال بعض الظروف السلبية كمصادفات حالات الحزن والإهمال والعوز كما يتضح من خلال مناوشات طفيفة فيها من الجدية لنيل حصص الأرض الموروثة عن الأجداد.
ـ تحكم المرأة أحياناً من خلال ضعف شخصية الرجل مثلما تشيرلواقع عائلة موشي بإتخاذ زوجته قراراتها دوماً لما ترمي اليه.
ـ كشف اسرار وخفايا الماضي بحكمة وبإسلوب هادف بغية الإتعاظ من التصرفات الأليمة التي تطغي على العديد من المواقف ، بإعتمادها على نهج التطور الحضاري لعملية التقويم وتجريد الأفكار البالية من الفكر الآشوري الحديث.
ـ بقي أن نعرف بأن البناء الرمزي لبعض مقاطع الرواية المبوبة بأحداث معينة ينتابها الإبهام كما هو الحال على سبيل المثال في ص 105 وما يليها بسردها عن نقيضين مبهمين بإقحامها حوارات ذات منظق فلسفي ممزوج بالروحانيات بين من يلتمس المغفرة متوسلاً للعفو عن معصية بإستلهام من هيبة قدسية جبل الشهادة ، وبين من توسد وتألب فيه من أصحاب الصوامع بشذوذ البعض منهم قولاً وفعلاً وتخيلاً.
بالرغم من أن الأحداث الأساسية تتجذر في الوطن الأم ، إلا إنها تتجاوز ذلك لتنقل القارئ الى عالم آخر متمثلاً بديار الغربة وانتكاسات الهجرة متمثلة بهجرة يعقوب وما تصادفه من إشكالات وصعوبات بنهايته المحتومة قبل وقوفه على ما يعانيه أخاه ابراهيم الذي سبقه في الهجرة مع زوجته وابنه رامي مع ابنته مريم في اتخاذ قرار العودة للوطن الأم من جراء ازدواجية الصراع النفسي الحاد في المعيشة وممارسة العادات والتقاليد وغيرها من الأنظمة المفروضة على المهاجرين.
من هذا المنطلق وعلى ما يبدو دونت قصراني روايتها بالعنوان الرئيسي " سهدوثا " لتلحق به العنوان الفرعي بجملة " حكاية شعبية " والتي هي بالأحرى مجموعة حكايات شعبية متداخلة ، لتبرهن بأنها تستل تفاصيلها من أحداث واقعة فعلاً في جو آشوري أصيل وكنف عائلة اشورية ، لكي لا تجعل القارئ يرحل بعيداً بأن ما ترمي اليه هو تلك الخرافات أو التخيلات الطاغية على السرد الحكواتي الشفاهي المتوارث والمألوف بالحكايات الشعبية التقليدية بلغتها العامية. ومتى ما صنفنا الرواية نجدها تنحى منحى ما جرى وأقدم عليه رواد الرواة بتصويرهم وتجسيدهم الأوضاع الإجتماعية والدينية والإقتصادية في التحكم بمصير الشخصيات المعنية بمعالجة سلوكهم وطباعهم كما هو الحال في روايات العديد من الرواة الفرنسيين على سبيل المثال لا الحصر من أمثال ، ستندال ، بلزاك ، فلوبير وغيرهم من الأوربيين.
بقي أن نشير ونستدرج تلك الصبغة الطهرية التي تضفيها الروائية على جبل سهدوثا بتقديسها له وكأنه شارة السر والمكمن أو الملجأ الذي يدع الإنسان أن يغفر عن خطاياه بشهادة تألب الكهنة والرهبان والعلمانيين في قمته ، بدلالة نعوتها ووصفها له في العديد من العبارات التي مفادها من روحانية التأليه والتقديس مثل قولها: " قمة الجبل المقدس " ، " جبل سهدوثا المقدس " ، " سحابة صلوات ترتفع كل يوم فوق قمة جبل سهدوثا " ، " استشهد فارس فوق جبل سهدوثا " ، " هو الأرعن الهارب من لعنة أبيه التي تطارده حتى في جبل سهدوثا " ، " نحن لا نمزح فوق جبل سهدوثا " ، " بإمكانك أن تهرب من الناس لكن فوق سهدوثا ستواجه الله " ، " أن أصعد إلى قمة سهدوثا وأتطهّر ". وغيرها من التعابير الرمزية الخاصة بذلك.
ان الصفحات التي تفرزها الكاتبة لتُكثر بما يدور في هذا الجبل على ألسِنة رجال الدين يبدو وكأن المسحة الجبرانية قد طغت على عملية السرد بمفاهيمها المكتظة بالوعظ ومغبات السلوك والإستشهاد والإعتراف بتقريبها التسمية مما عمد اليه جبران في " نبيه " من خلال مدينته التي استنبط تسميتها من نسج الخيال مشيراً اليها بمدينة اورفاليس.
هذا الإستنتاج يقودنا الى ما أشارت اليه قصراني في ص 41 من خلال الشجار الدائر بين نجيب وسامي وعدنان والجدة عن وراثة أرض اسلافهم حين يقول سامي: " لكني ذات يوم سأصعد الى جبل سهدوثا المقدس ، وتكفيني قطعة أرض صغيرة هناك ، ثمنها مدفوع مقدماً". ثم يردف قائلاً: " سأتنسك في الصومعة ، جبل سهدوثا حياتي ". فيجيبه نجيب قائلاً: " ستصعد إلى جبل سهدوثا الذي لا وجود له ، أنت تعيش في الخيال ".
حبذا لو كانت الكاتبة قد ألمحت بشكل واضح ورؤى أوسع عن شغفها بهذا الرمز المقصود لتكون أقرب من مدارك وتأملات قارئ الرواية ، لكي لا يتيه في متاهات التخمين ، بالرغم من تألقها بأجنحة لغةٍ ذات خيال جامح وهواجس انفعالية ذات مضامين هادفة ،رغم تيقنها الشخصي مما آلت اليه.
وفي الختام نأمل أن نكون قد دوّنا فكرة واضحة عما ذهبنا اليه ، آملين للروائية ليلى قصراني مزيداً من النتاجات بإجلاء ما تراه مناسباً للمجتمع كدلائل توثيق والمسار الأدبي. وفي خاتمة المطاف يمكننا تتويج روايتها بين نوادر الأجناس الأدبية الإبداعية كأول نتاج روائي تعيشه الكاتبة ليلى في عالم الإغتراب.
التعليقات
عاشت أناملك
سيمل -عاشت أناملك يا ليلى وشكراً للأستاذ ميخائيل ممو على هذه المراجعة الجميلة سلام جبل سهدوتا المقدس ... سلام أرضي آشور