قراءة في ديوان "وطن" لمفيد عزيز البلداوي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يظهر لنا مفيد في هذا الديوان انه شاعر له نهجه الخاص وشخصيته المييزة ولغته القوية، وتعبيراته وتشبيهاته واستعاراته وصوره، وأيضا يملك علم الشعر والقلم والفكرة، ويملك خزينا وقاموسا؛ توزعت قصائد الديوان تحت العناوين التالية : غابة اليقين (هذه القصيدة أهم ماجاء بها الديوان)، أتخيل ظلي، نعلك باقية (وهذه من القصائد المهمة جدا)، الأغاني لمنتظر الفرج الرباني، قيامة صغرى، أزرع حروفك تنبت سنابل، أفعال ناقصة، أول الليل، العيد عيدك، المهرب والأربعون مغفلا (وهذه القصيدة هي عبارة عن قصة حقيقية، سنقف عندها طويلا)، أصغر أو تكبرين قليلا، أمل في التأمل، عثرات (توزعت على خمس)، بهجة الأزمات.
يستهل الشاعر ديوانه بقصيدة " غابة اليقين " وهي أهم قصائد الديوان بل أجملها، وسنكتفي من قصائد الديوان تلك بهذه القصيدة وقصيدة " المهرب والأربعون مغفلا " ؛ حيث تتميز هاتان القصيدتان بسمة فنية على صعيد المحتوى والبناء، فهما تنتميان أو تقتربان من فن الأداء القصصي في الشعر، وإننا إذ نتحدث عن قصيدة " غابة اليقين " فإننا نتحدث عن قصائد الديوان، كون هذه القصيدة مثلت ما بعدها و أشملت وأوجزت بالوقت نفسه محتوى ومتن الغربة، وعلى ما يبدو (ونعتقد كذلك) بأن هذه القصيدة على الأرجح اخر ما كتبه الشاعر من قصائد الديوان، فالقارئ يدرك إن هناك فارق وتطور في القيمة الفنية، يدل على نضج شعري أدى إلى كتابة هذه القصيدة المهمة، وكذلك تطور في بناء القصيدة عن سواها من القصائد، فاختار لها بداية قوية لغويا وشعريا واعتنى كذلك باختيار التفعيلة التي يبدأ بها / مستفعلن /.
لملم حروفك ثم بعثرها ونم في غابة اليقين
قالوا : كوكب المريخ مائي.. فارهبني العطش
أعتمد على بداية تنتمي بصورة أو أخرى الى معطيات الفن القصصي، فهناك خطاب / لملم حروفك..... /، وحوار / قالوا : كوكب المريخ مائي..... /، وهذا ينبئ عن أحداث قادمة، برغم الاستهلال البطيء للدخول والاقتراب من مقاطع ذات سمات قصصية، يطمح من خلالها الشاعر إلى خلق قصة، بيد أنه لم يعتمد عنصر الحكاية واكتفى بظاهرة الوصف والتكثيف والاستفادة من عناصر التعبير الدرامي، صراع، حوار، لوحات، أشخاص، فيكتب مقاطع تقترب من السرد القصصي، فيها حديث مباشر عن حياته، وفيها عودة إلى الماضي وحتى تسليط الضوء على طفولته، وترجمة حبه للوطن ترابا وماءً // كانت هواياتي ملخصة بحب الطين //.
وحدي حملت حقول قريتنا
غزوت مسلة الإسفلت
في زوادتي عشب وأحلام
لكن الشاعر حاول الخروج من أسر النزعة الرومانسية (الأحادية - الحالمة) ولم ينفك عن شراكته مع الآخرين، فهو يؤدي الفكرة من خلال مجموعة من الأصوات، // قالوا (هم)، // كوكب المريخ (هو)، // قوافل الفقراء.. // والناس.. (هم)، لملم حروف أسمي.. // تصبح أيها النائي.. // سنعبر فيك.. // (أنت)، // نكون أسرة مائية.. // نأمل أن يرانا الله.. // نشتري بالصمت.. // (نحن)، // كل صحراء.. (هي)، بيد انه نجح في التعبير بشكل متماسك جدا واهتم بالهيكل والبناء الفني، وعمد على خلق جو للقصيدة من خلال ممارسة الحياة التي يصورها (حلم جماعي) يعود من خلاله إلى رومانسية مشتركة هذه المرة، // نكون أسرة مائية... // بمعنى أنه يعيدنا إلى قول تشيكوف في مسرحية " طائر البحر " : // يجب تصوير الحياة لا كما هي، ولا كما ستكون، بل كما تبدو في أحلامنا // ؛ ولايمكن التغاضي مطلقا بأي حال عن قيمة الإطار الفني للقصيدة من حيث عدم وجود تغلغل أو فجوات، بيد أنه تدرج شيئا فشيئا إلى الصورة الكبرى للنص، وقد حاول الشاعر أن يسحبنا إلى فلسفة الاغتراب وليس الغربة (الهجرة) قد تكون الهجرة منظمة وتتضمن العودة إلى الأوطان، لكن الاغتراب هو البحث عن وطن ؛ وهذا ما قام به النص من إضافة عنصر استفزازي يثير قوة الخيال لدى المتلقي، كون الأدب لابد أن يكون ممتعا، وإلا من أين يأتي الإبداع وعنصر الجمال.
أما قصيدة " المهرب والأربعون مغفلا " وهي قصة حقيقة لمجموعة تحاول الهجرة عبر البحر إلى دول أوربا، (ايطاليا بالذات) وتفشل، ويحاول من خلالها (الشاعر) أن يدين عصر قاس ملتاث وضنين ؛ عادت به الأوطان إلى التنقل على ظهور القوافل وتهتز فوق الإبل !! ؛ في قصيدته " غابة اليقين " حاول الشاعر إن يخلق قصة أو يقترب منها، لكن في هذه القصيدة (المهرب.......) القصة موجودة وواقعية، صحيح إنها قصيدة حدث، لكن لم تتضح الوظيفة من خلال الأبيات التي تصور هذه القصة، فكانت المعالجة شعرية وليس سردية، ولكونه شاعرا وليس قاصا أصلا فقد عانى كثيرا في كيفية كتابة قصيدته، أو من أين يبدأ، فأستهل قصيدته بمدخل تصويري للمناخ العام :
روما تحدق في عيون النازحين على القوارب
ثم يكثر من الاستطراد في جمل شعرية سريعة ومتلاحقة، واتصفت هذه الجمل بالاختصار والتكثيف في العبارة في محاولة الدخول إلى أجواء القصة :
يا روما نحبك لا لأنك أجمل المدن الصبايا
بل لأنك أقرب الورقات
نلعبها لنربح ما خسرنا أو لنخسر ماتبقى، فاقبلينا
فبداية القصيدة لم تكن موفقة، وموحية ومكثفة، ولم تضعنا أمام مواجهة الحدث بشكل مباشر، أنه لم يحاول أن يرسم شخصيات داخل القصيدة ويخلق من خلالها قصة لها ما يميزها من أجواء وحدث، و تكون لها بداية قوية ومعبرة، كما في القصائد التي اعتمدت الحكاية وفن القص، ولعل قصائد كثيرة كان لها التأثير في تجسيد الأحداث قصصيا، منها قصيدة " الرجل الذي كان يغني " للشاعر عبد الوهاب ألبياتي، التي تتميز بطاقة إيحائية عالية :
على أبواب طهران رأيناه
على جبهته جرح فارغ فاه
يغني، أحمر العينين
كالفجر بيمناه
رغيف
مصحف
قنبلة كانت بيمناه
وداعا قالها
واختفت في فمه الآه،
فالبياني هنا منذ البداية يقدم لنا الحدث والشخصية وموقفها، دونما استفاضة أو استطراد غير مبرر.
وبعد الاستهلال الطويل نوعما، واسترسال الشاعر بالتصوير تبعا لرغباته وليس لمتطلبات موضوعه، يقدم لنا الشاعر مفيد جملا تحمل صفات القصائد ذات الأداء القصصي، ويبدأ في سرد الأحداث :
ووضعت في كف المهرب ألف دولار
ليصب في كفي من ناري،
لكن الشخصيات بما فيها شخصية البطل، بقيت مسطحة بلا سمات و مجردة من الملامح الواضحة، بالوقت الذي عني به بظاهرة الوصف الخارجي للأحداث، حتى عند ملامسته بدقه أجواء الحدث وقد أتى من الشواهد ما يكفي وهو يخاطب روما، الذي وجد فيها ثنائية الحوار مستغنيا عن الشخصيات الأخرى في بناء القصيدة :
دقت نواقيس الخسارة
هرب المهرب وانتفضنا هاربين وخاسئين
طلع الصباح
المال راح
وبقيت أنت هناك من فشل الضحايا تضحكين.
وهذا هو منظوره للقصيدة في تأييد قضيته، لكنه قبل كل ذلك أعتمد على أسلوبه في الشعر كونه متمكنا حقا من شاعرية فنية ، بينما تأتي القصة بالنسبة له وسيلة تعبير لا غير.
بغــــــــــــــداد