ثقافات

السودان بين شماله وجنوبه في رواية لشامة ميرغني

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

هيثم حسين: تسعى السودانيّة شامة ميرغني في روايتها الموسومة بـ"زمن الموانع وجوزيف مُلاح البنات"، "الغاوون، بيروت 2011" إلى تقديم صور من حياة السودانيّين الذي وجدوا أنفسهم تائهين بين شمال وجنوب، ولاسيّما في هذه الفترة العصيبة المفصليّة من تاريخ السودان الذي يشهد انفصال جنوبه عن شماله، إثر الاستفتاء الذي صوّت فيه غالبيّة الجنوبيّين على الانفصال. تنقّب ميرغني في أعماق المجتمع السودانيّ، تطرح إشكاليّات الهويّة والانتماء، تستعرض جوانب من الابتزاز والاستغلال والتهكّم والانتقاص الذي كان يتعرّض له بعض السودانيّين لمجرّد انتمائهم إلى هذه المنطقة أو تلك. تقارب خطوط الاشتباك والتداخل، تحرص على عرض الطقوس والأعراف والعادات الخاصّة بالمناطق التي تتّخذها مسرحاً لروايتها.
تشتغل ميرغني على أزمنة عديدة متسلسلة، حيث الموانع تستولد بعضها بعضاً، تفكّك بنية الممنوع والمرغوب والمُشتهى، المحلّل منه والمحرَّم، تنتقل بين الألم والأمل، تودّ فضح زمن الموانع لتعمّم زمنها المأمول، الزمن الذي يسود فيه التعايش والسلام والأمن والعلم والقوّة بعيداً عن الإقصاء والتهميش والعنف والقتل والاستغلال. تسرّب رؤاها وتحليلاتها عن الواقع السودانيّ عبر شخصياتها؛ النسائيّة والرجاليّة، فشخصيّاتها تنتمي إلى أجيال ثلاثة، جيل الأجداد وجيل الآباء وجيل الأبناء. تتتبّع المتغيّرات التي كانت ترافق أو تسبق كلّ مرحلة جيليّة، وكيف أنّ تلك المتغيّرات تؤثّر على مختلف جوانب الحياة.
بالنسبة لشخصيّاتها النسويّة تكون حاجة السرة ممثّلة للجيل التأسيسيّ القويّ الحديديّ الذي لا تنال منه النوائب، ولا ينساق وراء الأقاويل، تبقى الجدّة قويّة تشكّل مرجعيّة لأبنائها وأحفادها، جريئة لا تخشى من التصريح برأيها، تحاجج الجميع بمنطق سليم، مع شيء من العناد الذي لا يسيء إلى الآخرين بقدر ما يبدو أنّه يخدمهم، هي التي تظلّ مستمرّة في الزمن، لا تحدّد لها الروائيّة نهاية معيّنة، تُبقي مصيرها مُعلّقاً، كأنّها بذلك تبقيها فاعلة ومستمرّة عبر الزمن، لشدّتها وصلابتها وموسوعيّتها وتجذّرها وانتمائها، وكأنّها تودّ تعميم نموذجها الذي يبقى بعيداً عن المقاربة من قبل اللاحقين، في حين يتشكّل الجيل النسويّ الثاني من الأمّهات، علويّة وفريدة وغيرهما، تكون علوية زوجة الحاج قسم السيد أمّاً لبضع بنات، إحسان، سلوى، اعتدال، أحلام، تخشى على بناتها، تبالغ في فرط حرصها، فتؤثّر بطريقة سلبيّة عليهنّ، ولا تتنازل عن فكرة تعليمهنّ تعليماً عالياً. تكون علوية همزة الوصل بين الجيلين، يلازمها التوتّر والقلاقل، لا تستقرّ على قرار، تغدو ضحيّة خشيتها ومحبّتها الكبيرة، إذ ترفض الذهاب مع زوجها إلى الجنوب حين كان يعمل في التجارة هناك، لأنّها كانت تحرص على عائلتها، وتخشى من الأوضاع السيّئة التي كانت تعمّ الجنوب.
كما تحضر فريدة كركن رئيس من أركان الجيل الثاني، تمنحها الكاتبة حرّيّة السرد، تسلّمها زمام الرواية، تنفرد بفصل كامل من الفصول الأربعة، تروي فيها حكايتها مع خطّابها وأبيها، هي التي خُطبت ثلاث مرّات، ووقعت ضحيّة سوء تفكير وتدبير والدها الذي كان غير متوازن وغير دقيق في اختياراته، مَقوداً كلّ مرّة بأفكار تُؤَرجحه، وتكون فريدة الضحيّة في كلّ مرّة، تختار فريدة مصيرها بعيداً عن أبيها، تتحدّاه أكثر من مرّة، تهرب مع حبيبها عمر ابن حاجة السرة، تقرّر رسم مسار حياتها بعيداً عن اختيارات أبيها الفاشلة، وبعيداً عن تسلّطه عليها وتحكّمه ومتاجرته بها، تمثّل نموذجاً مختلفاً عن أمّها المسلوبة القرار وأختها الضائعة في زحمة الإنجاب غير المدروس من ابن عم متسلّط، يودي بها الجهل في قرية تعيش أسوأ حالات التخلّف الاجتماعيّ. ثمّ يأتي الجيل الثالث، جيل العلم والمعرفة والتمرّد الواعي والثورة المُمَنهجة، تكون رندة ابنة فريدة وعمر هي الأكثر بروزاً هنا، تتمتّع بجمال فاتن، تستحصل شهادة عليا، تتحدّى التقاليد والأعراف المكبّلة لحرّيّة المرأة، تعبّر عن رأيها بحرّيّة، تغدو ناشطة في مجال حقوق الإنسان، تحاول الإمساك بدفّة التغيير، لا تتوانى عن الصمود بحثاً عن التغيير المنشود. تتسلّح بالعلم والعناد والعزم والجرأة.
أمّا الشخصيّات الرجالية، فتكون مشابهة لنظيراتها، تتوزّع على ثلاثة أجيال مقابلة لها، يكون الخليفة زوج حاجة السرة الجذر الذي يتفرّع منه الباقون بطريقة أو أخرى، يكون عالماً قاضياً معتدلاً، ثمّ يكون ابنه عمر مثالاً للابن المتعلّم والزوج الوفيّ والأب المتفهّم، يقابله نمط والد فريدة المستبدّ المتحكّم، ثمّ الحاج قسم السيد زوج أخته الوحيدة علويّة. في حين يحضر جوزيف أو يوسف كما يناديه الحاج قسم السيد في كثير من الأحيان، ليكون النقطة الإشكاليّة في الرواية، الحامل الأهمّ للخطاب الفكريّ للرواية، إذ يفاجئ الحاج قسم السيد زوجته وبناته بقدوم قريب له من الجنوب ليدرس الطبّ في جامعة الخرطوم، يحتفي به الرجل أيّما احتفاء، يعرّفه إلى ابنته اعتدال، يطلب منها أن تعامله كأخ، وألّا تتحرّج في التعامل معه، يسعد حين يجمعهما معاً، ثمّ يدخله إلى بيته، ويتكفّل بكامل مصاريفه، وتكون المفاجأة المريرة بالنسبة لعلوية، والسعيدة بالنسبة للبنات، بأنّ هذا الغريب الوافد الذي أصرّت على نعته بالعبد، تبخيساً لقدره وتحقيراً له، هو ابن قسم السيّد من زوجته الجنوبيّة ميري، التي كان قد تزوّجها أيّام مكوثه في الجنوب.
تلك البنوّة المكتشفة تكون نقطة الدهشة والصدمة للجميع، وكلّ بحسب نظرته وتأثّره. وحين يشبّ الابن جوزيف، يحاول الأب تعويضه عن سني الحرمان والحاجة واليتم التي تركه فيها مع أمّه التي رحلت وتركته، يكون جوزيف نقطة الجذب واللغط والالتباس في الرواية، في الجنوب يكون ابن الشماليّ غير المرغوب فيه، وفي الشمال يكون ابن الجنوبيّة التي تنعت بالعبدة، يكون لونه دليلاً على الإقلال من شأنه، في حين أنّ علمه يفرض على الآخرين احترامه، يكون المنقذ والضحيّة في آن، ولاسيّما حين يحقّق إنجازات كبرى، ويتفوّق في اختصاصه. يغدو الوافد غير المرغوب فيه الطبيب المداوي، والأمل اللائح في الأفق. يتوّج بزواجه الإشكاليّ المغامر من رندة، بعد طول تردّد وتأخير يصل حدّ الاستحالة، العلاقة المنشودة بين الشمال والجنوب. يتزوّج رندة التي كانت تتمسّك به وتدافع عن حبّها له، وتغامر في الزواج به، ساعية إلى التغيير في النظرة العامّة إلى الجنوبيّين وتبديد الشكوك إزاءهم، وتتلافى الانتقادات والاستهزاءات التي كانت تتمادى في النيل منهما.
تسعى ميرغني إلى شدّ أواصر القربى بين شمال السودان وجنوبه، وتكون نهاية روايتها المنتقاة رغبويّة أكثر منها واقعيّة، باعتبارها تختار نهايات سعيدة لشخصيّاتها، تفضّل رؤية سودان موحّد، وعلاقات اجتماعيّة سليمة واعية، كأنّ القارئ يختتم قراءة قصص مبشّرة بنهايات مُؤمثلة متحايلة على بؤس الواقع، يسود فيها السلام والأمان والاطمئنان، ويعيش الأبطال في سبات ونبات، يخلّفون الأبناء والبنات، دون أن تلتفت إلى الشرخ الحاصل في الواقع. أو كأنّها تقرّ باستحالة إكمال الرحلة دون آمال، حتّى وإن بدت واهية.
تُغرق الكاتبة تجربتها الروائيّة، وهي الأولى لها، باللهجة المحكيّة، لا تكتفي بالعاميّة في الحوار فقط، بل تكون هناك صفحات كاملة يكون السرد فيها باللهجة المغرقة في عامّيتها، ما قد يخلق فجوة بينها وبين القارئ في أكثر من مقطع، ويأتي إكثارها من اعتماد العامية إثقالاً على القارئ، واستنزافاً للغتها التي راوحت بين تخوم الفصيحة والعامية في كثير من المقاطع. حتّى أنّه يمكن القول إنّ روايتها مشغولة بمستويات لغوية متباعدة، مع تعدّد مستويات السرد والروي التي حرصت على التنويع فيها. كما أنّها تثري روايتها بالكثير من التفاصيل والرموز والدلالات المُوظّفة بدقّة، والتي لها أبعادها الكبيرة في المجتمع السودانيّ.
"زمن الموانع وجوزيف مُلاح البنات" للكاتبة السودانيّة شامة ميرغني هي الرواية الفائزة بالجائزة التقديريّة لمسابقة الطيّب صالح.



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف