اوروبا المعمارية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
د. خالد السلطاني: نعرف، ان كتباً عديدة ومتنوعة صدرت سابقاً ومؤخرا، تتناول بنصوصها "ثيمة" العمارة الاوربية. انها كتب جادة، لمؤلفين بخلفيات مهنية رصينة، ذات مقاربات مختلفة، تعاطت مع هذا الحدث الثقافي الاوروبي المرموق، من وجهات نظر عديدة. نعرف، ايضاً، ان اوروبا، هي: "اوروبات". صحيح ان اسمها، الذي وهبها لها "زيوس" كبير آلهة الاولمب، على اسم بنت "أجينور" ملك صور الفينيقي، كما تخبرنا الاسطورة، هو اسم محدد المعالم، يبدأ شرقا عند سلسلة جبال الاورال، ليمتد الى سواحل المحيط الاطلسي غربا، الا ان دال هذا الاسم، لم يشر دائما الى مدلول واحد، وأنما دل على مداليل، "بفضل" السياسات، التى خلقت ايديولوجياتها الخاصة بها، التى افضت الى تشظي القارة العجوز الى "قارات"، نجم عنها "اوروبات"، يفصل الواحدة عن الآخرى فواصل صارمة، واحياناً "حديدية"، جعلت من شأن التواصل (اي تواصل)، حالة صعبة، بل وفي كثير من الاحيان، منقطعة. والتبعات السلبية، الناجمة عن صعوبة التواصل وانقطاعه، تجلت بوضوح في الشأن الثقافي، والمعماري على وجه الخصوص. وصرنا، نقرأ دراسات عن عمارة اوروبا "الغربية"، وعن اوروبا "الشرقية" وعن "الشمالية"، او "الجنوبية". صحيح ان هذه "الاوروبات"، اخذت اسماءها من حقائق التقسيمات الجغرافية، لكنها كانت، غالباً، ما تخفي نوعا من مسحة نفوذ سياسي، لطالما اتسم بالتعالي. لكن "هانس ابيلنغس" Hans Ibelings ، ينزع الى رؤية الحدث الاوروبي المعماري شاملاً. فيتعقب ذلك النتاج بذلك الحيز المعترف به جغرافياً و"اوروبياً" في كتابه الصادر حديثا (2011) والمعنون "العمارة الاوروبية منذ 1890". وهي دراسة، فضلاً على اهمية نصها الممتع والغزير بالمعلومات، فانها تتعاطى مع "كلية" مفهوم العمارة الاوروبية.
والمؤلف "هانس ابيلنغس" هولندي، مولود في عام 1963، سبق وان شغل مرتبة استاذ النقد المعماري وتاريخ العمارة في المعهد الهولندي للعمارة في روتردام. كما انه استاذ زائر في جامعات اوربية عديدة. وهو يالاضافة الى تأليفه كتاب "العمارة الاوروبية منذ 1890"، اصدر في السابق عدة كتب منها "الحداثة الفائقة"، و" العمارة في عصر العولمة" والتقاليد الجديدة" وغيرها. وهو عدا ذلك، يرأس تحرير مجلة A10 ، المختصة في العمارة الاوروبية المعاصرة. ويشي كتابه الاخير، الذي صدر عن دار نشر "سان" الهولندية (240 صفحة، من القطع المتوسط )، بالتذكير الى الاحداث الهامة التى اثرت بتبعاتها بعمق على المنجز المعماري الاوروبي.
يحرص هانس ابيلنغس الى عدم الدخول مباشرة في موضوع كتابه، و"سرد" نماذجه المعمارية في تسلسل زمني، ما لم يبدِ وجهة نظره في طبيعة هذه العمارة وخصوصيتها، هي التى تشكلت على "اديم" هذه القارة، "منجبة" هذا الكم والكيف من المنتج المعماري المرموق. فهو، اولا، يتناول بعد مقدمته، موضوع "العمارة والمدينة"، ثم يعقبه بـ "الدولة والمجتمع" ويليه " التواصل والتوازي"، وبعد ذلك "التاريخ والتاريخانية"، ومن ثم يصل الى "سرد" النماذج المعمارية موزعة على مراحل زمنية حددها بتواريخ معينة، مطلعها "العمارة حتى 1914"، والعمارة مابين "1917-1939"، والعمارة في "1945-1989"، واخيراً، "ما بعد 1989". ويختم الكتاب، كالعادة، بقائمة المراجع ومؤشر الاسماء والامكنة، بالاضافة، طبعا، الى "كولوفون"، وهي شارة دار النشر والمعلومات البيانية عن الكتاب.
يثير كتاب "العمارة الاوروبية منذ 1989" إهتمام قارئه، لجهة غزارة المعلومات المهنية الخاصة بموضوعه، التى استطاع المؤلف استدعاءها وتوظيبها وتجميعها بتلك الشمولية، وتقديمها بوضوح، ولكن باختزالية ايضا.
فالعمارة المتحققه، كما يشير الى ذلك هانس ابيلنغس، ليس تجميعا آليا (ميكانيكياً) بين الشكل والمضمون، بين الطراز والفكرة، بل اتحادا حميميا، كما يصفه المؤلف. ويرى الطراز ليس بكونها ظاهرة سطحية، مثلما ذهب بعض المعماريين والنقاد والمؤرخين في التعاطي معه. فهو عند مؤلف الكتاب، مثال لتنطيق وجهات نظر مختلفة مع افكارها ومثلها. ولهذا يعتقد هانس ابيلنغس، بان مفهوم الطراز، هو تعبير عن قناعات ووقائع، بل، واكثر من ذلك، انه ليس مسألة شكل او تزيين "ديكور"، بل انه يتواجد ايضا، في التراكيب الانشائية مثلما يتواجد في مخطط اللون، وفي طريقة استخدام المواد. انه كما قال "مايكل مافيزولي" هو " ذلك المصطلح الذي به يعرّف العصر نفسه، ويكتب نفسه، ويشرح نفسه!".
ما يمتعني، ويثير اهتمامي شخصياً، في كتاب هانس ابيلنغس، وازعم انه يثير انتباه كثر من القراء، هو ما انتجته القارة الاوروبية من عمارة ومقاربات معمارية في الفترة الاخيرة تحديداً. هذا لا يعني بان مضامين الفصول الآخرى، ليست بذات أهمية. كلا، انها مشوقة ومفيدة معرفيا، وهي، مرة أخرى، تذكرنا بحضور منتج معماري مميز ومؤثر وفريد في تاريخ العمارة العالمي. لكن منجز الفترة الآخيرة المعماري، يظل يغوي
تبدو مهمة مؤلف الكتاب، في عرض ما تحقق من عمارة، اوروبياً، ما بعد 1989 (والتاريخ الاخير، هو تاريخ سقوط جدار برلين، كما يعرف الجميع)، تبدو مهمة عويصة نوعا ما، لمحدودية الصفحات التى خصصها الكاتب لهذا الفصل، والتى لا تتعدى 18صفحة. وهي صفحات يتعين عليها ان تستوعب غزارة المنتج المعماري وتنويعاته، بالاضافة الى وسع الرقعة الجغرافية التى يتمظهر فيها هذا المنتج. لكن المؤلف يعتقد بان إصطفاء عناوين محددة بعينها، يمكن لنصوصها ان "ترى" نماذج عمارة ما بعد 1989، بشمولية وبتكثيف. بالطبع، بمقدور المرء ان يجادل في خيارات ونوعية "نظـّارة" المعايير، التى من خلالها، يرى المؤلف المشهد المعماري الاوروبي ما بعد 1989. بيد ان ذلك يظل تمرينا نقديا لموضوع سجالي. ما نراه، ما نقرأه، على وجه الصواب، هو مقترح المؤلف لعناوين الفصل. انها كالآتي: المعسكر الشرقي السابق، برلين، المشاريع الثقافية، الايقونات، النقاط المركزية، القطبان. وكل عنوان في هذا الفصل، مغطي بنص وصور مستلة من المشهد الاوروبي. وحتى يتمكن من عرض اكبر قدر من الامثلة، فان المؤلف يلجأ هنا، كما في فصول الكتاب الآخرى، الى الاقتصار على نشر صور العمارة المتحققة بمقاسات صغيرة، ومن دون ان يرى ثمة حاجة لنشر مخططاتها.
تحت عنوان "الايقونات"، يذكرنا هانس ابيلغنس بالامثلة المتفردة التى صممت ونفذت في المدن الاوروبية مؤخراً، وامست عمارتها "ايقونة" بصرية لتلك المدن. ان عمارتها تمتاز، كما يقول المؤلف، بحظوة عالية، وباشكال متفردة، وبتنويع غير عادي للرسمانية. وهو يرى بان المبنى "الايقوني" ليس مقتصرا على ابنية ذات طابع اشغالي عمومي، وانما نجدها احياناً حاضرة في ابنية ادارية، ومجمعات سكنية وابنية تعليمية وغيرها. وكنموذج للايقونة، ذات الارتفاع العالي، المتعدد الطوابق، يورد المؤلف برج "تورا اكبر"( المعمار: جان نوفيل) في برشلونة باسبانيا، وبرج "سويس- ري"،( المعمار: فوستر وشركاه) في لندن، بريطانيا، والمجمع السكني ( المعمار: MVRDV)، في مدريد، اسبانيا، والبرج الملتوي ( المعمار: سنتياغو كالاترافا)، مالمو، السويد. وفيما يخص "الايقونة" افقيا، فانه يختار مركز روليكس التدريبي (المعمار: SANAA)، لوزان، سويسرا، ومن ضمن ايقونة الابنية الادراية يختار المؤلف مبنى بلدية مورسيا (المعمار: روفائيل مونيو)، مورسيا، اسبانيا. وتعكس كثر من عمارة تلك المباني "الايقونية" رغبة المعماريين المعاصريين، في ان تعد تصاميمهم ضمن الاستثناءات الجليلة. كما ان كثر من المدن تسعى وراء معماريين مشهوريين، او ما يسمى "بالمعمار - النجم" ، كاشارة للتطور الانمائي والثقافي لتلك المدن، وكذلك من اجل التواصل الثقافي ايضا مع الاخرين. لكن الاهم في كل ذلك، هو مسعى المدن المختلفة ان تكون مواقعها حاضرة دوما على خارطة العمارة العالمية؛ من خلال "ايقونتها" المصممة ،عادة، من مقبل "المعمار- النجم".
- ماهو رأيي في ذلك، تتساءلون؟. ماهو رأيكم، انتم.. في هذا؟!.
وهذا وحده كافٍ لمبرر الاهتمام العالي، الذي يوليه الآخرون لمنجز العمارة الاوروبية. □□
د.خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون