ثقافات

تشكرات أفندم جروحي چوق گوزه ل

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

ككل مساء كان صوتكِ يصلني، ليزرع أزهار عباد الشمس في وحدتي.
كان الصوت السكران يثرثر معكِ، ويثيركِ، ويعاندكِ، ويغلق الأبواب، والنوافذ أمامكِ. لا يسمع، لكنه يتكلم على الدوام بكل شيء غثٍ وعديم الأهمية.كنت أفهم وأعي ذلك. كان ينكد عليكِ هدوء المساءات، وصفاء النهارات.
كم كنت أود أن أسمع صوتكِ، هادئا، منسابا بسكينة في سواد الليل، وبياض الصباحات المشمسة. تتكلمين فأسمع صوتكِ، أسمع فتتكلمين.تأكدت مع الأيام أن البيت سجنكِ، وأن زوجك سجانكِ.
كنت أراه يسعل بشدة في الأرجوحة الموضوعة وسط الحديقة، وأمامه كأس من الخمر.يدخن بشراهة، ويتحدث. في مثل هذه اللحظات لم أكن أعلم هل أنه يكلمكِ أم أنه يتحدث إلى الريح.
نادرا ما كنتِ أراك في الحديقة،تسقين كل ما في الحديقة من عشب وحشائش وأشجار وأزهار. ربما كنتما تتحدثان بصوت عال ٍ، لهذا كنت أسمعكما بشكل جيد.
أنا على يقين بأنكِ لم تنتبهي لوجودي، ولم تعلمي قط أن وجودكِ، وصوتكِ، ووجهكِ الحزين يملأ كل كياني في آناء الليل وأطراف النهار.
في مساء يوم مطير،كانت غيماته كسلسلة من جبال تستقبل الغروب رويدا رويدا، فيتحول لونها إلى أسود غامق. ركبتِ سيارة وأنتِ تتطلعين يمنة ويسرة بحذر. كنت في الشرفة،لم تلحظينني.لكن روحي كانت معكِ.وودت أن أنزل سلالم البيت مسرعا لألحق بك. لكنكِ غبت عن الأنظار بسرعة متهورة.
فوجئت بزوجكِ يخرج الى الحديقة كالخرتيت باحثا عنكِ، صارخا باسمكِ بغضب:
- نادية..!.. نادية في أي جحيم أنتِ؟
ليعود بعد دقائق ويجلس في الصالون أمام التلفزيون وكأس العرق أمامه. كان يبدو كالثور الهائج.
مع تعدد الكؤوس حل عليه نوع من الهدوء والسكينة. أخذ يغني أغان قديمة لم أعتد على سماعها.ثم أخذ ينظر الى ألبوم صور، كانت تبدو انها تجمعكما. وكان يعلق على كل صورة بصوت مسموع.
تملكتني الحيرة.لماذا يعلق على كل صورة بصوت مسموع. لماذا لا ينظر إليها دون أن يتكلم.هل يعاني من خوف مزمن سري من الصمت؟
كل الصور تعكس نفوركِ مني. في صورة خطوبتنا تقفين وكأن ثمة من أرغمك بقوة السلاح للوقوف الى جانبي قسرا.
- في هذه الصورة تمسكين بغصن شجرة وتكتبين شيئا على الرمال. ترى اسم من كنت ِتحاولين نقشه؟.
- في صورتنا على المائدة، وأنتِ الى جانبي تنظرين الى أمي. تبدين وكأن ثمة لقمة عالقة في بلعومكِ.

أتوجه الى غرفتي للنوم. أتركه غارقا في ثرثرته مع الصور، طارحا أسئلته دون أن ينتظر لها جوابا.
أثناء غيابكِ كنت ألجأ للشوارع، محاولا أن أعيش كما يعيش الآخرون.
العم ( أكبر) في مكانه الأزلي أمام السينما يبيع ( الشلغم) للعابرين ورواد السينما، والعائدين من الحانات الى بيوتهم في مثل هذه الساعة من الليل الموغل في الظلام، حاملين معهم أحلاما منتشية، لن يبقى لها أثر في الصباح. كانت الباصات تمر متعبة.
لو كانت ثمة ملهى في كركوك لزرتها في الحال، كي أنساكِ بين الوجوه النسائية المطلية بأنواع المساحيق تحت الأضواء الحمراء، الخافتة، الخداعة، وأنسى سر انطلاقكِ من البيت بعد حوارات وثرثرات لا تنتهي مع زوجكِ السكير، مثل عصفورة سئمت من الغمام والرياح والرعود.

في ذلك الصباح طلبت من أمي أن تعد لي كوبا من الشاي الى الشرفة. كنتِ في الغرفة محلقة في عالم آخر،فيه بحر ونوارس وقوارب تغازل الأمواج. كنت ترددين بانتشاء واضح كلمات إحدى الأغاني:

تشكرات أفندم
جروحي چوق گوزه ل
تشكرات أفندم
عن روحي غيم وزال *

كنت أسمع صوتكِ لأول مرة.كانت الستارة تهتز مع الريح الهادئة في غرفتكِ وكأنها تتراقص على أنغام أغنيتك وتشاركك ِ بهجتك الفريدة. واصلتِ غنائكِ نشوانة مثل عصفورة سعيدة على غصن لم تقف عليه سابقا. دخنتِ سيكارتين، ونفثت الدخان من فمك الجميل نحو ستارة النافذة.
فجأة طار طائر الهوى والحلم من أحاسيسي،عندما بدأ صوت زوجك يرعد في الهدوء الذي كان مشعا في روحكِ وعقلكِ وغرفتكِ.
فاجئكِ بقوله:
- أين كنتِ ليلة أمس؟
وضعت السيكارة في المنفضة وأنتِ تجيبينه بهدوء ممزوج بالسخرية:
- وأين يمكن أن أكون في غير عشنا الهاديء الجميل هذا !
أقبل مع كأسه الى الغرفة وجلس أمامكِ بملابسه الداخلية وعينيه المحمرتين وهو يقول بعناد:
- بل تركتيني وخرجت وحدكِ.
هنا قمتِ من مكانكِ وبدأت تداعبين وجنتيه:
- وإذا قلت لك بأنني لم أغادر البيت طوال الليل، بعد استغراقكِ في نوم عميق،لم تصح منه إلا قبل قليل.
بدا مقتنعا بكلامك وهو يكاد يخطو أولى خطواته نحو تصديقكِ.
- أتصدقين؟
- وهل هذا يحدث لأول مرة؟ أنت دائما تسكر قبل أن تذهب في نومٍ طويل، لا تتذكر بعده شيئا.

كنتِ تكذبين عليه وهو يصدق ماتقولينه. ترى أين ذهبتِ ليلة أمس التي ولا شك انها كانت عبقة بالأفراح والمسرات، بدليل ترنمكِ الجميل بأغنية " تشكرات أفندم جروحي چوق گوزه ل " حتى الى وقت قصير قبل عودة الوعي إلى زوجكِ. السكير.
يبدو أن الشك غادر زوجكِ بسرعة، غادره ليحل في عقلي وروحي بإصرار لا تفسير له.
أين كنتِ ليلة أمس وأنتِ تغادرين البيت بسيارة أجرة صفراء اللون في عتمة الليل؟.

وخرجت دون هدى لعلني أعثر عليكِ، لعلني ألتقيكِ وجها لوجه لأول مرة. وفي الحقيقة لم أكن أعلم ماذا يمكنني أن أتحدث معك~ لو تم مثل هذا اللقاء؟. هل سأسألكِ عن سبب زواجك بزوجك السكران أم عن خروجكِ في عتمة الليل؟.أو أسئلة أخرى متعلقة بسقف مخي كما يتعلق الخفاش في سقف كهف مظلم.

أفكر أحيانا ماذا يحدث لو أطلقت النار على رأسي، وسقطت جثة هامدة في حديقة منزلكِ..؟
لن يحدث شيئا لو سقطت كجلمود صخر من علٍ أمامكِ.. لن يحدث أي شيء. سيستمر زوجك في الثرثرة التي تزداد حدتها مع كل رشفة عرق. ستستمرين بعد أن يخلد زوجك للنوم في الانطلاق في سيارة الأجرة الصفراء نحو ظلمة المدينة. وسيستمر العم ( أكبر) بالوقوف الى جانب عربة ( الشلغم) بعد رحلة متعبة في أحشاء المدينة أثناء النهار، لينهيها بالوقوف أمام السينما ليلا.. وستظل الأرصفة تتأمل السابلة في الرواح والمجيء، وستنهي السينمات عروضها، وتخلد الى النوم في انتظار روادها في اليوم التالي، وستظلين تترنمين بعد عودتكِ من رحلتك السرية أغنية قلبكِ:

تشكرات أفندم
جروحي چوق گوزه ل

أخبرتني أمي ان امرأة ورجلا في انتظاري في غرفة الضيوف. نزلت مسرعا وأنا في حيرة من أمري حول هوية الضيفين.
لم أنتظر طويلا فقد عرفتهما، كان السكير وزوجته يجلسان في الغرفة. وبدون أن يمنحني السكير أية فرصة، أندفع صارخا في وجهي:
- نود أن نعرف لماذا تراقبنا من الشرفة والغرفة؟.. ومن الذي سمح لك بالتلصص علينا؟ الا تعلم أن للبيوت حرمة؟
وتحدثت هي أيضا، وأنا أنظر الى وجهها الذي طالما تمنيت أن أراه عن قرب. كان وجها عاديا في ملامحه.
- وبدوري أريد أن اعرف لماذا تراقبنا دائما، وماذا تكتب عناّ. حياتنا لا يهمك من قريب أو بعيد.

كنت بدوري أود أن أسألها السؤال الذي كان يجثم كبومة على ذاكرتي:
- وأنتِ إلى اين تذهبين كل مساء بعد أ يغرق زوجك السكير في نوم عميق؟


* أغنية للمطربة الجزائرية فلّة


16/7/ 2011


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف