حكايات من ارباخا: معبد "دموع دانيال"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حين نكتشف كنه الأشياء، ننسى من أين بدأنا
كان ثمة صباح أثير ورائع، إذ تلك مناظر تخطف البصر، دوما تخطف بصر الملك العادل ارباخا، ملك مدينة النار والنور كركوك، فها هو يراقب المدينة من علو القلعة، ويراقب ما وراء المدينة، لأنه مزهو بهذا البعد اللانهائي، فكانت عيناه مشرقتان ببريق ألق هذا العالم الممتد بأفقه الأخضر الشاسع إلى الجبال، ثمة لحظة أخرى تتوهج لها روحه بشيء آخر، ويتوهج ذهنه في أمر صوفي لأنه نوى على شيء لا يتراجع عنه أبدا، وهو تشيد معبدا في القلعة، فأمر كبير البنائين كرخيني تحضير الخرائط والتصاميم، وإعداد مستلزمات البناء من حجر مرمر وجص وكاشي قاشاني، وما إلى ذلك من مستلزمات البناء. ثم راح يتطلع إلى أرجاء القلعة متفكرا بمكان يناسب المعبد الذي سيكون شهيرا جميلا في معماره، وقد استقر قراره أخيرا، وقد انتابته البهجة في هذا اليوم المنشود، فأشار بإصبعه إلى موقع المعبد، وهو يلف شاربه الطويل بأطراف أصابعه الذي بدا الشيب ظاهرا عليه:
ـ هنا سيكون معبد الآلهة يا كبير البنائين كرخيني، يزهو بقبتين ذهبيتين لامعتين كنجمتين في الليل تعكسان ضياء قرمزية لنيران بابا كركر الأزلية كي يراهما عابر السبيل من بعيد.
انحنى كرخيني واضعا يده على صدره، وهو يتراجع إلى الوراء، ويردد:
ـ سأبدأ فورا بالتخطيط والإعداد يا ملكنا العادل. وسترى التخطيط عند مجيء الربيع.
حينئذ هز الملك رأسه بارتياح، وقال بصوت حازم:
ـ أريده معبدا للجميع، معبدا لا يجوز فيه اقتراف المعاصي وقتل النفس البريئة، معبدا يلتقي فيه الفقراء والأغنياء.
شعر كرخيني بفرح عارم يملئ جسده الهرم وهو يسحب قدميه في طرقات المدينة وقد منحه الملك الثقة، ومنحه في نفس الوقت دهشة عميقة ممتعة، وهو في توق ليزف الخبر السعيد إلى أم دانيال وابنه الوحيد إلذي أحبه حبا جما. ثم راح يتحدث بغبطة لا مثيل لها مع نفسه، لأن حلمه سوف يتحقق أن يمارس موهبته وإبداعه في إنجاز هذا الصرح العظيم. طرق باب بيته، ففتحت له بعد لحظات خالدة، وإذا به يواجه امرأته بوجه بشوش، وهي تسأله بصوت ناعم رقيق:
ـ ماذا قرر الملك عن المعبد ؟!
رفع يدها إلى فمه، ثم لثمها بحنان، وهو يقول بصوت خافت:
ـ سأشيد هذا الصرح العظيم يا أم دانيال.
عندما كان كرخيني في آخر زيارة له إلى أورشليم، قد وقف على عمارة معابد عديدة، لكنه لم يستسغ حجمها ككتلة معمارية، وكذلك عندما عرج إلى دمشق وجد فيها معابد كثيرة ذات اهتمام أكثر بالمظهر الخارجي للبناء من زخرفة ورسوم تجلب انتباه الزائر فقط. حينئذ قرر كرخيني أن يجمع بين تلك النماذج في بناء المعبد إذ توفرت له الفرصة. هذا كان حلمه الوحيد. واليوم بدأ بالشروع في أول تخطيط الذي وظف له كل تجربته، وهو يقلب نماذج متعددة في ذهنه لينفذ هذا الصرح.
وبينما كان كرخيني جالسا جالس تحت ظلال شجرة وارفة بالقرب من مكان إنشاء المعبد فإذا به يرى الملك قادما من بعيد، فنهض من مكانه متهيئا لمقابلته. اقترب منه الملك، وقال بصوت حنون:
ـ ماذا فعلت يا كرخيني ؟
فأجاب كرخيني بخفوت:
ـ يا أيها الملك العادل، ذهني يقودني إلى تخليد اسمك أبد الآبدين.
ابتسم الملك، ثم ساد صمت عميق بينهما، وعينا الملك تتوهجان فرحا وتعجبا، ثم ما لبث أن قال:
ـ لست في أدنى شك بذلك... وستنتظرك مكافئة كبيرة حال انتهائك من البناء.
كان تخطيط كرخيني الأول قد اكتمل، وقرر أن يكون المعبد من 12 جدارا، كل جدار يمثل احد اشهر السنة، تقام على مرتفع حجري يمثل أساس المبنى، ولكل جدار اسم بتسمية الشهر الذي يمثله، وفي أعلى الجدار فتحة كبيرة تمر منها أشعة الشمس في يوم الحادي والعشرين من كل شهر. اختار كرخيني لشهر آذار أجمل المواقع كي تضئ أشعة الشمس يوم 21 منه وسط المعبد لساعات عديدة، وفي وسط المعبد قرر إنشاء حوض ماء كبير يتلألأ بضياء أشعة الشمس على سطحها، فيضيف إلى المكان سحرا سماويا. أما القبتين فقرر رسمهما مخروطيا تحيطهما أحزمة من الكاشي القاشاني الفيروزي الأزرق كزرقة قبة السماء. وكان فيها 52 فتحة للتهوية وللإضاءة. كان الملك قد قرر أن يكسو جدران القبتين بالذهب. أما أعمدة المعبد الاثني عشر شيدت من حجر الحلان السوري مغطاة بالمرمر القادم من بلاد فارس والأحجار من مكان قريب من المدينة يسمى بجم جمال حيث مقالع الحجر. كان لأروقة المعبد مكانة مهمة لكونها أماكن للسير التأملي وللعبادة بينما يجلس الطلاب في حلقات يدرسون فيها. جعل في إحدى أركان المعبد برجا ذو سلالم دائرية تفضي إلى الجزء العلوي من المعبد الذي يحوي على مجموعة من الغرف يصل عددها إلى 365 غرفة،يستخدمها رجال الدين والزوار والتلاميذ. أما سراديب المعبد الأربعة فقرر إنشاء المكتبة فيها والمرافق والحمامات والمطابخ وجعل من احد السراديب بابا سريا لم يطاع عليه أحدا ولم يعلم بها حتى الملك، في حين قرر بناء سرادق للمئونة وممر سري يصل بنفق ينتهي عند أقطاف القلعة في القسم الشمالي وفي مكان قريب من شجرة الأيك الهرمة. ثم خطط حديقة دائرية تحيط بالمعبد مسورة بأشجار الياس المنخفضة والتي يحافظ على خضرتها طوال أيام السنة. وقد أخفي بعض التفاصيل عن الملك كأحد أسرار المهنة، وبدا سعيدا وهو يقدم للملك كل تلك الرسومات ويشرح بإسهاب مشروعه مستمعا إلى ملاحظات الملك.
في إحدى زياراته لموقع المعبد وجد الملك ينتظره، وقد احمر وجهه غضبا، إذ تأخر كرخيني فترة طويلة ليعرض تخطيطه كاملا، فانتبه كرخيني إلى ذلك وهو يقترب من الملك قائلا:
-أيها الملك الرشيد سأقدم لكم أول تخطيط للبناء في الأسبوع القادم.
اغتبط الملك من كلام كرخيني، وارتسم على وجهه الفرح، فرتب على كتفه قائلا:
-لا بأس، لا بأس لقد طال انتظارنا ولكن اعلم علم اليقين بأنك ستخلد ذكرانا.....
هكذا أعطاه الملك الإذن بالشروع في البناء الذي ابتدأ بيوم فرح حيت كانت الأيادي ممتلئة بالنذور أو تجر الأضاحي والقرابين كي تذبح وتضرج الأرض باللون الأحمر لتمنح للآلهة كإشارة البدء، ويحدث الفرح العظيم، ولتخفق القلوب بأجنحة السلام، ثم تتفجر ترانيم العبادة ليشرق العالم في نور، ويحل الخير والإخصاب، وتتشابك الأيادي في نشوة التعبد، ثم أشعلت النار في وسط المكان إيذانا ببدء البناء.
حزم كرخيني أمتعته وسافر إلى بلاد الشام لشراء الأحجار والمعدات اللازمة للبناء في حين كانت قواعد المعبد تعلو والسراديب تبنى. إذ كانت كل حجارة ترقم وينقش عليها طرة الملك الرشيد ارباخا مؤرخة بتاريخ البناء. بدأ البناء يعلو ويعلو وفي كل شهر يتم بناء إحدى الجدران انتظارا لشمس يوم 21 كي يمر شعاعها من أعلى الشبابيك الدائرية. بعد مرور عام تم بناء الجدران الأثنتي عشر من المعبد. في هذه الإثناء كان الحفر مستمرا في احد السراديب نزولا إلى الأسفل، وكما تعلم قارئي الكريم كان كرخيني يبني خفية نفقا تحت المعبد. بينما كانت بوابة المعبد عالية مقوسة يحرسها ملاكان يحملان في كفيها الشمس والقمر والنجم القطبي. كما كان للمعبد أربعة أبواب من الداخل ينتهي بسراديب وكما كنت قد ذكرت بأن أحداها تنتهي بالنفق السري، إلا أن مهمة بناء القبتين كان شاقا جدا وكانتا تقفان على الأعمدة الاثنتي عشر، ستة أعمدة تحت كل قبة. لكن بعد الانتهاء من بناء القبة كانت تسقط هاوية من وسطها.
بدا كرخيني مهموما، متجهم الوجه، بائسا، وهو يستقبل الملك، ويقول:
-لا أجد مولاي أي تفسير لسقوط سقف المعبد بعد كل عام.
-لقد انتهى البناء كما أرى، لعلك يجب أن تسافر لتجد حلا لبناء السقف.
-صدقت يا مولاي سأقوم بزيارة دولة الحثين في الشمال ربما أجد طريقة جديدة لرفع قبة المعبد.
سافر كرخيني ثم عاد من سفره إلى مكان عمله فوجد كل شئ كما تركه وراءه. هرع إلى قصر الملك مهموما، وهو يقول:
-مولاي لم أجد ضالتي، وفشلت في مهمتي.
-لا تيأس لكل داء دواء، قال الملك الحكيم.
لقد اعترى كرخيني حزن شديد طوال أسابيع وشهور، إذ كان ذك بالنسبة له أمرا شاقا، فان يشعر بالمرارة بعدم إمكانيته حل لغز هذا السقوط للقبتين كلما بناهما. فكانت الهواجس تنتابه لا تترك مضجعه، وفي احد الأيام صحا من نومه والعرق يتصبب من جسده النحيف، فلملم نفسه وهرع إلى مكان المعبد فوجد العمال يرفعون من بناء القبة. فقال متذمرا:
-استمروا بالعمل ولكني أريد منكم أن تغيبوا جميعا من العمل، ولا أريد أن أشاهد أحدكم هنا يوم غد. اخبروا من لم يأت اليوم بأن يوم غد يوم راحة للجميع.
جلس ذلك المساء وسط المعبد يراقب قبة السماء وكل تلك النجوم التي تتلألأ. لم يبح بسر رؤياه لأحد من البشر. إذ في هذه الليلة ذات القرار، وذات الصمت كان يناديه صوت، ما يزال يناديه، وهو لم ير وجه الإله حيث كان وجهه مثل القمر، يكلمه بشفتين بيضاويتين طالبا أمرا أن يقدم قربان، والصوت ما يزال يناديه:
ـ ادفن أول من يأتي إليك يوم السادس من الشهر العاشر في وسط المعبد عند موقد النار. لا تنس صباح السادس...........
تلك كانت رؤياه التي أنهضته من مكانه، وراح يتطلع إلى وجه السماء المرصعة بالنجوم، ويتجلى ملك الليل القمر ليضيء الأرض، ومرة أخرى كان وجه الإله يكلمه الذي تشكل بوجه عظيم، هكذا قرر كرخيني أن يلبي النداء:
ـ غدا هو اليوم السادس.
هذا ما قاله مع نفسه، وكانت تلك فرصته أن يحقق حلمه بتجسيد المعمار الصوفي، باعتباره وحدة واحدة لجسد الآلهة وألوانها المحتشمة في قبة السماء الزرقاء والنجوم اللامعة واكتمال القمر بدرا، وكذلك نور الشمس، والخلق والموت، والانبعاث والعقاب. هذا ما أراده لفنه العميق في ذلك العصر ليكون ذروة معنى وضوء وجمال، ذروة إثارة وغموض في نفس الوقت، لذا عزم على تحقيق النداء مهما كلف الأمر. فنام ليلته في المعبد غير المكتمل.
نهض في صباح باكر، ثم توجه إلى حوض الماء الذي خطط لبنائه، وبدأ يحفر حفرة كبيرة منتظرا قدوم الشخص المجهول الذي سيكون ضحية للإله، وهو يسأل نفسه بقلق:
ـ من عس يكون ضحية الآلهة ؟!
كانت الشمس في كبد السماء، وكرخيني تتسارع نبضات قلبه، وقد تهدمت الحواجز في عينيه، تلك التي تفصله عن البشر في التاريخ، وصور كثيرة تتراقص بين جفونه، صور القدماء، ليقدموا الضحية سواء كانت قربانا أو نذرا أو ذبيحة، فهذا فرعون يموت، يحنط، ويزين جثمانه بأبهى حلي، وترافق جنازته عذراوات وخدم إلى مدفنه الأهرامات مع زاد الموت وحاجيات الفرعون التي أحبها في حياته، تفتح الباب الصخرة السرية، ويدخلوها بأبهة، ثم تغلق عليهم، وينتهي الزاد مع الأيام، وتنتهي بقايا الحياة مع سيهم الفرعون، لكن الموت الضحية أشكال، فملك الملوك قد مات، وهن العذراوات الجميلات يقفن بشكل مستطيل، لم يبكن أو ينحبن لأن سم الموت في كل يد صغيرة ناعمة، يدفن الملك فيشربن السم، ويسقطن على وجوههن، هكذا ارتاح الملك في قبره لتلتحق به عذراواته، لكن الملك وقائد الحملة على طروادة اغاممنون كان يلقي آخر نظراته على ابنته الصبية افجينينا الذي عد لها محراب من خشب في وسط السفينة لأن عاصفة البحر هبت وأوقفت السفن لئلا تغرقها العاصفة، واغاممنون يصرخ: ماذا نفعل ؟ فتقدم إليه العراف، وقال: قدم ابنتك ضحية لإله الحرب لارتيميس، تلك كانت آخر النظرات لتذبح افجينينا وتهدأ العاصفة، وتبحر السفن وتخرب طروادة. أما إبراهيم فكان يقود ابنه من يده إلى الجبل تلبية لنداء الرب: ابنك الضحية يا إبراهيم... ها هو ايراهيم يضع ابنه الوحيد على محراب صخري، ويرفع ذراعيه إلى السماء، ويصرخ: ربي أنا ألبي النداء. ثم مسك سكينا وكاد يذبح ابنه إلا أن نداء الرب تغير: شاة هي الضحية يا إبراهيم، لقد امتحنتك، وفزت في الامتحان.
حينئذ رأى كرخيني شبح شخص قادم إليه من بعيد كالسراب يقترب من المعبد. خفق قلبه وبدا مرتبكا، حائرا، وكادت الدموع تطفر من عينيه، وهو يسأل نفسه:
-من يكون الضحية ؟
أتاه صوت حنين عذب ورقيق، وقد تعود أن يسمعه في الصباح والمساء، صوت تبتهج له روحه، وتنقله إلى عالم المحبة:
-أبتاه، إنا دانيل.
وكانت الضحية في صمت، والموت أيضا كان في صمت، وكورخيي يقف جامدا متخشبا، تعيسا بائسا، في مكانه يلقي آخر نظرات ظليلة على التراب الذي تساوى مع الأرض، وهو يقول:
ـ ولدي أنت الرمز.
في اليوم التالي كان هناك نداء آخر، نداء بشري لمنادي يدور وينادي في شوارع وأزقة المدينة: مات الملك الرشيد.
كان ذلك قد أرهقه، وأربكه، ليتوافق النداء مع الضحية، وليتوافق بتتويج مرعب أن يكون الابن ولي العهد ملكا جديدا الذي عرف بظلمه وفسقه وارتكاب الشرور. لكن كرخيني واصل مسعاه في تشيد المعبد كاملا، وكانت قبتا المعبد تشاهد من بعيد كما أراد الملك الرشيد الميت، لينبهر الزائر بجمال معمار المعبد الهندسي حيث يتوسطه حوض ماء يعكس أشعة الشمس فينير أرجاء المعبد. هكذا كان المعبد، وهكذا تحقق حلم كرخيني، وتخلد اسم الملك الرشيد، غير أن لهذا المعبد أسرار لا يعرفها سوى كرخيني، فكان الزوار يسألون: من أين يأتي الماء ؟! لم يكتشفوا السر، عندئذ لم يكن أمامهم إلا أن يطلقوا عليه "دموع دانيل".
وفي يوم بهيج احتشد الشعب، وقد تذكروا اسم الملك الخالد، وحبه لهم، وحنينهم إلى أيام السلام والمحبة، وهم ينظرون إلى موكب الملك الجديد الذي نزل من عربته الملكية ببهرجة، يحيطه غلاظ الحراس والعبيد. وتوقف عند عتبة باب المعبد الضخمة المشرعة، وينظر إلى الشعب من علو، ويرفع ذراعه ليبدأ جبروت طاغية، ويبدأ عهد ظلام، ثم وأخيرا طلب أن يمتثل أمامه كرخيني ليوجه له سؤال طالما حيره، فبدأ القول:
ـ بنيت وعليت المعبد لأبانا ولكني أريد أن تجيب على سؤالي يا كبير البنائين.
انحنى كرخيني، ووضع يده على صدره، وقال بخفوت:
ـ نعم يا ملك الديار، أمرك مطاع.
ـ هل بإمكانك بناء معبد بجمال هذا المعبد ؟
ـ اجل يا مولاي إذا أمرت بذلك.
احمر وجه الملك غضبا، ولتكون ملامحه قاسية، فصرخ ممتعضا:
ـ خذوه.
فهرع إليه الحراس، وشدوا وثاقه، وقادوه إلى سجن الغدر ليس لشيء وإنما كان يخشى الطاغية أن يبني كرخيني معبدا يفوق جمال معبد دموع دانيل، ثم رموه في سرداب مظلم.
تلك كانت حكاية كرخيني، وحكاية معبد دموع دانيل، فرددها الشعب، وتغنى بها، وتناقلتها الألسن سواء في الليالي المظلمة أو تحت ظلال نور سراج خافت أو نور شمعة تحرق نفسها، فليس اعتباطا أن يهمهم الكبار أن ذراعي دانيال أصبحا جناحين ليرفرف بهما في السماء، وإن روح دانيال تسكن المعبد لأن عرسه كان فيه، عرس من دموع بيضاء صافية، لذلك كان أجدادنا كلما دخلوا المعبد كانت عيونهم تترقرق فيها الدموع، لكن دانيال اختفى، وغاب في عهد الملك الطاغية، ولم يظهر في مدينته الحبيبة، غير أن أهل المدينة وجدوا هذه الأبيات محفورة على جدران القلعة:
داش...كراج.. داش
كان القوم يتصايحون في وجه السماء
في الصباح والمساء... نار... نار..
في معبد دانيال نار حمراء...
يا إلهي... لهب وضياء، وعين دانيال
تدمع دررا بيضاء...
كأنها مطرا من سحب السماء
ومدينتنا المقدسة... مدينة النار...
ترقد على قلعتها العلياء.. تعانق السماء
اربا خا... اربا خا... اربا خا...
وقف بابتهال معاينا معبد دانيال...
دار حوله... مرة ومرتين...
وردد الدعاء بابتهال...
هاتوا العدة يا أهل الدار،
هاتوا المقاييس... هاتوا الأدوات...
ثم صوب إصبعه نحو السماء
رفع كرخيني جذوة النار
يا جذوة النار، أيتها القبس الإلهي
فوق قلعة الهناء...
دع الآلهة تبارك بقعة النار...
النسوة يرددن: نار... نار...
أولادنا، أحفادنا قربان
سنبني قلعة وبستان
يتوسطها معبد قلعة النار
وهيكل، ومذبح ونقدم القربان
دع الآلهة تبارك قلعة النار
بيوت وخيام على حافة النهر الجاف
مر عام، ومرت أعوام، والقوم في صياح
قبة الهيكل تهوى عاما بعد عام
الفسيفساء...الأحجار... الأسد... الثعبان
تهوى من أعلى معبد دانيال...
وجوه تتلظى في نار...
نريد قدسك يا ماء السماء
صلوات...تعاويذ... ويتردد الدعاء
كل عام يتردد الدعاء...
والملك الحكيم يلح بالصولجان
تشعل البخور، وتقدم النذور صباح ومساء
أعد الأحجار الهاوية، والأيام، والأعوام
والشمس تدنو من وسط قبة السماء
كاللهيب تلفح الوجوه، والعيون في بكاء
قربان.. دانيال القربان المختار...
هذا القدر المحتوم... في هذا وذاك الزمان
رؤيا: دانيال نذر الإله الجبار
أبتاه... أبتاه... أبتاه...
دانيال رمز قلعة النار...
ويكتمل البناء، ويموت الملك الرشيد
ويحكم البلاد طاغية بالحديد والنار
تظهر كتابات في إحدى الأديرة بحران، وقد وجدت محفورة على جدران إحدى الغرف:
تركت الديار بحثا عن الأحجار
لبناء معبد الإله المختار
هنيئا لمن يقرأ هذه الأبيات
هنا مقام قديس النار...
بين زاب و سيرون
عند مقام إبراهيم في الرها وجدت كلمات أخرى منقوشة على إحدى الجدران في القبو الشرقي عند ضفاف البحيرة:
من هنا مر كبير البنائين
يحمل مصباح من قار
بنى في الوطن معبد الآلهة
دموع دانيال... دموع دانيال...
التي ما زالت تقطر... تقطر...
مثل مطر السماء...
في الصباح والمساء
وتحت النقش، وجدت أيضا هذه الأبيات، ولكنها كتبت في وقت لاحق:
حلمت بما هو آت
غريب الأوطان
بلا هوية أو جار
يبني الأعشاش
لغرباء الديار
من هنا مر غريب
حمل قربة ماء وشعير
رقائق خبز وجبن زاخو
اختبرته الآلهة...
ليخوض أصعب امتحان...
فضحى بقرة العين
ابنه قربان
عاقبه الإله
ليخلد شريدا عبر الأزمان
وهو يصرخ دائما:
دانيل... دانيل... دايال...
يصرخ مهموما في الصباح والمساء
سلام إلى كل من تلي , وردد هذه الأبيات.
اشارات:
داش، كراج... من اللغة التركمانية: حجر.. جص.. حجر , كلمات يستعملها البناءين في مدينة كركوك على اختلاف انتماءاتهم العرقية من كورد، توركمان، عرب , سريان وأرمن عندما كانوا يبنون ليعلوا أسس البيوت وهم يمتطون الجدار حيث يقذف احد الصناع الحجر وإناء الجص الى كبير البنائين.
مقام النبي دانيال عبارة عن معبد شيد علي قبر يعتقد البعض إنه يضم رفات النبي دانيال. تقع بناية المقام في حي القلعة. كانت في البدء أحد المعابد اليهودية ثم تحولت الى كنيسة مسيحية ليبنى عليها فبما بعد مسجد،.تحتوي البناية على قبتين و ثلاث منارات بالإضافة إلى أقواس وأعمدة يرجع طراز بناءها الى عهد المغول. يبلغ مساحه 400 متر مربع و يحتوي على أربعة أضرحة يعتقد إنها تعود الى دانيال و حنا و عزرا و ميخائيل. نتيجة للاحترام الكبير و المحبة الفائقة الذي كان يكنها أهل كركوك للمسيحيين واليهود ولشخص النبي دانيال قام أهل كركوك القدماء بدفن موتاهم بجانب مقام النبي دانيال حيث تعتبر المقبرة الموجودة بجانب المسجد من أقدم المقابر في مدينة كركوك. لا يزال يحتفل أهل كركوك يوم السادس من تشرين عند المعبد خاصة البنات العذارى حيث يقومن بتزين أنفسهن و يقدمن القرابين ولنذور التي قطعنهن على أنفسهن لأجل الحصول على ابن الحلال.
التعليقات
سلمت استاذ
kakeyizade -انها بحق رائعة من روائعك التي تزدان بهايراعك ومدادك ..أدامك المولى يا ايها الكرخيني الاصيل ، ودمت مبدعاً.
سلمت استاذ
kakeyizade -انها بحق رائعة من روائعك التي تزدان بهايراعك ومدادك ..أدامك المولى يا ايها الكرخيني الاصيل ، ودمت مبدعاً.