وحدها شجرة الرمان: كنايات مسكونة بالعدم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
إنّ الحنكة السردية، في رواية " وحدها شجرة الرمان" لسنان أنطون، تتجلّى في خصوصية الموضوعة التي عالجتها، أو البحث عن كناية غير مبتذلة يمكنها أنْ تحاكي لا معقولية الحدث العراقيّ ونموّه السرياليّ.
إنّ اصطفاء مهنة المغسلجي أو غسّال الموتى، لتعبّر عن منظور موغلٍ في الرؤية التشاؤمية والعدميةّ لقراءة التاريخ من خلالها، لم يكنْ أمراً يسيراً إذا لم تُنْسَج الشخصية نسجاً يُبرزُ تمايزها في لغتها الخاصة ذات المفردات المنتزعة من قاموس الموت وخياله، والمعبّرة عن رؤية المغسلجي للحياة والموت والإنسان، عبر عدد من الأفكار البسيطة والعميقة على حدّ سواء.
ولأنّ جوهر الموت، أو العمق الإنسانيّ له، لا يتكشّف من خلال العلم ومعاييره، وإنما يتكشّف ويزداد تأثيراً من خلال الفنّ والحساسية المرهفة للفنان.
ثمّة شخصيّتان، استوطنتا جسد بطل الرواية " جواد" وعقله ورؤيته للعالم والأشياء، هما شخصيتا: الفنان والمغسلجي، وقد استوطناه كما تستوطن الحياة والموت جسد الإنسان. وفي هذه الرواية المتميزة، لا تختلف رسالة المغسلجي عن رسالة الفنان في شيء، إلا في شكل العمل، فالمغسلجي الذي يجمّل الميّت ويزيّنه ويطّهره بما يليق به حينما يعود إلى خالقه على نحو يحرّره من أوضار الحياة والخطايا. والفنان، أيضاً، يزيّن موضوعه، بأنْ يقلب، بسحر الفنّ، البشاعة إلى جمال خالص.
وفي الوقت الذي ينثر المغسلجي الكافور على جسد الميت ليعلن نهاية حركة الجسد والزمن معاً، فإنّ الفنان يضخُّ الحركة في الزمن الجامد في موضوعاته لتأبيد معنى إنسانيّ. الفنان يخلق الجسد، والمغسلجي يشيعه إلى العدم.
ثمة رؤيتان، تتحكمان في الفنان والمغسلجي، الأول يرى الموت يزهر كما تزهر شجرة الرمان، وأنه يطغى على كلّ شيء ويختمه بالعدم ونهاية الحركة، والآخر يرى الموت بداية للحياة الأخروية. ذلك أنّ رؤية رؤيةالمغسلجي " أبو جواد"، تتأطّر، عادةً، بإطار الزمان، فهي رؤية زمنية خالصة، مفتوحة على عوالم جديدة كالآخرة والجنة والنار، أما رؤية الفنان "جواد" فهي تاريخية وزمنية على حدّ سواء، فموضوعته يجب أنْ تُلتقَط من الواقع التاريخيّ، لكنّ نقلها إلى الفن ينبغي أنْ يُحَرَّف بما يجعل منها موضوعة تنفتح على احتمالات الزمن اللامتناهية.
ومع ذلك، فإنّ شخصية جواد شخصية إشكالية، بسبب هذا التماهي بين الفنان والمغسلجي، أو قُل بين رؤية تفاؤلية أكثر ارتباطاً بالواقع وملذات الحياة، ورؤية تشاؤمية تندسّ فيها روائح الموت عبر مسامات شتى. ولأنّ الموت، لم يكن حدثاً فردياً عادياً، بالنسبة لأجواء هذه الرواية، فإنّ العين الأكثر تلصّصاً على خباياه وأسراره، هي عين المغسلجي، ولا يمكن لعين الفنان أنْ تكون مكتملة الرؤية إنْ لم تكن عينَ مغسلجي قد ورث المهنة أباً عن جدٍّ. ولعل هذا التماهي، هو الذي يخلق نموذجاً لشاهد قادر على يدلو بشهادته، وينقل الصورة المجسمة لمتاهة الموت في العراق عبر تاريخه الحديث.
إنّ الصراع بين جواد وأبيه، حول مهنة تغسيل الموتى، بين رفض الأول، وإصرار الثاني، تنتهي أخيراً بانتصار إرادة الأب، بعد أنْ ترغم الظروف ابنه جواد على يشمر ثيابه لا لنحت تمثال، كما كان يحلم، وإنما لتغسيل موتى مجهولين الهوية، لمواصلة مهنة أبيه. وبذلك انتصر المغسلجي على الفنان، أو قل انتصرت البشاعة على الجمال، والموت على الحياة.
ولعلّ هذه النهاية، هي الختمة الحزينة لحلم جميل في أنْ يكون جواد رساماً أو نحاتاً كما تنبأ له أحد أساتذته. وفي المنظور الأعمّ، فإنّ هذه الختمة الحزينة هي ما ينتظر الحياة في واقع تتحكم فيه " تراكمات تاريخية".
زمنياً، تغطي، هذه الرواية، فترة الحرب العراقية الإيرانية، ثم غزو الكويت وما تبعه من نتائج كارثية، وهي تحافظ على طابع نقديّ من كلّ ماجرى محملة السلطات والجهات الخارجية مسؤولية ما جرى من تخريب مقصود.
إنّ النزاع حول ميراث المهنة بين جواد وأبيه، هو كناية عن صراع أشمل الحياة العراقية، والموت الذي يتربّص بها على نحو دوريّ، كأنه أرث يستلمه جيل عن جيل آخر، وهذه هي أمثولة هذه الرواية. وكانت شجرة الرمان استعارة للحياة العراقية التي تتغذى من ماء الموتى كل صباح، وتزهر ثماراً يانعة من بركة ذلك الماء. وأودّ، هنا، على أعلّق تأويلياً على هذه القضية التي احتلت مساحة واسعة من الرواية، وهي أنها تتضمن وجهة نظر الكاتب في غلبة الماضي وطغيانه كرؤية للحاضر والمستقبل بالنسبة للتحوّل السياسيّ الجديد، وهي رؤية تشاؤمية، مليئة بالعنف والقضاء على الفنون والآداب التي تتعارض مع الرؤية الماضوية التي تشكّلت بعودة هستيرية للماضي بكلّ ما فيه من حقد وكراهية سبيلاً لتوكيد هوية زائفة.
في مقابل وحشة الأجساد الميتة التي تعامل معها جواد المغسلجي، ثمة تجربتان خارج النسق لجسدين مفعمين بالحيوية والجمال والغواية، جسد ريم وجسد غيداء، وأفصحت تجربته في التعامل مع هذين الجسدين عن دربة في معرفة كيفية ترويض الجسد، ومن ثمّ إنتاج عمل فنيّ يفيض بالفتنة كمقابل مفترض لذلك الاستغراق في الأجساد الجافة والمشوهة. ولعلّ فائض الشهوة كما في فن النحت هو رمز إلى الخصوبة، وفي ذروة الزوال والموت الذي يطغى على كل شيء، كان التشبث بفتنة الجسد نوعاً من التعبير عن رغبة في التعويض.
التعليقات
nice
احسان -نعم..يسلم قلمك : لغة ً واداءً، وغوراً في تناول هذه الرواية ، وما اكثرَالروايات التي نسمعُ عنها ولا نقرؤها..ونحن أيضاً موتى نرتدي جلابيب الحياة، ولو عشنا على ضفاف النعيم الاوربي.نقدٌ منصف بعيد عن الجعجعة والنرجسية اللتين تشوبان معظم النقد . النقاد يتحدثون عن انفسهم اكثر مما يقولون عن الكتاب المنقود ،ويغوصون في السيمائية...و..... ويلهثون وراء اللامعين .لقد اعطيت الكتاب والكاتب حقهما. لم أقرأ لسنان . الا أنه متألق حسب عرضك كتابه .
nice
احسان -نعم..يسلم قلمك : لغة ً واداءً، وغوراً في تناول هذه الرواية ، وما اكثرَالروايات التي نسمعُ عنها ولا نقرؤها..ونحن أيضاً موتى نرتدي جلابيب الحياة، ولو عشنا على ضفاف النعيم الاوربي.نقدٌ منصف بعيد عن الجعجعة والنرجسية اللتين تشوبان معظم النقد . النقاد يتحدثون عن انفسهم اكثر مما يقولون عن الكتاب المنقود ،ويغوصون في السيمائية...و..... ويلهثون وراء اللامعين .لقد اعطيت الكتاب والكاتب حقهما. لم أقرأ لسنان . الا أنه متألق حسب عرضك كتابه .