ثقافات

رحل بعد أن جعل إمبابة مجازاً كونياً

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

باسم النبريص: بي ولع خاص بكتّاب الأمكنة الضيقة. ألأنني عشت في مخيّم؟ كلا! بل ليقيني بأنّ كتابة المكان الضيق، تحتاج إلى موهبة شاسعة. ولذا، نادراً ما نقرأ لكاتب تخصّص في استلهام وكتابة مكان واحد بعينه.
نجيب محفوظ، عموماً، يمكن اعتباره، دون خطل، كاتب القاهرة - المدينة. الكاتب الذي حدّد عالمه الروائي بحدودها، دون أن يخرج عن ذلك، في الغالب الأعمّ.
لكن القاهرة مدينة وعاصمة بحجم كون. لذا لا يمكن اعتبار محفوظ، بهذا التحديد، كاتبَ مكان ضيق.
الوحيد، إن لم تخنّي ذاكرتي القرائية، الذي فعلها، وكان كاتب المكان الضيق بامتياز، هو أخونا إبراهيم أصلان. فما إن يبرق اسمه في الخاطر، حتى تقفز إمبابة "السيدة الحزينة الفاجرة" على الفور. في ارتباط شرْطي، كأنما هو شرط بافلوف!
لقد هيمنت إمبابة، بشوارعها وبعض أحيائها، على عالم أصلان الفني، منذ بدايته الأدبية كقاص وروائي، حتى آخر ظهيرة عاش نورها، قبل أيام، ثم ودّعنا للأبد.
لقد أعدت قراءة أعماله كلها، قبل الجلوس أمام الشاشة، والشروع في كتابة هذا المقال العمومي.
ولقد لفت انتباهي، أنّ أول قصة في كتابه الأول البديع "بحيرة المساء"، كانت بعنوان "الملهى القديم"، وتدور في رقعة جغرافية معيّنة هي تحديداً ميدان الكيت كات.
فإذا انتقلنا لكتبه الأخرى، وجدنا ذلك المكان الضيق "إمبابة" حاضراً حتى في بعض عناوين تلك الكتب، مثل عنوان مجموعته القصصية الثالثة "حكايات من فضل الله عثمان" وفضل الله هذا هو اسم شارع في حيّ إمبابة.
أما روايتاه "مالك الحزين" و"عصافير النيل"، فهما روايتا إمبابة دون منازع. روايتا إمبابة للأبد.
لذا، لا تستغرب لو وجدت إبراهيم يكرّر نفس أسماء الأمكنة والأشخاص، في معظم إن لم يكن كل ما كتب.
لقد بهرتني "مالك الحزين"، حين قرأتها فور صدورها عام 83. وبعد قراءتها على فترات متباعدة، عدة مرات، قلت لأصدقائي وكتبت في حينها ما معناه أنّ إبراهيم أطاح بعرش محفوظ، بوصفه كاتب القاهرة الأول.
من اليوم، لدينا كاتب مكان عظيم. من اليوم، ستفنى مدن ومدن قبل أن تفنى إمبابة! (التي هي حيّ شعبي فقير من أحياء القاهرة، وليست كل القاهرة).
فهذا "الراجل الطيب ذو الشعر المهوش والشارب الكثّ" خلّدها وجعل منها مجازاً كونياً، على الأقلّ، لمن هم أمثالنا من متعاطي الثقافة وساكني الصفيح والمخيّمات والزقاق الشعبي.
لم يكتف إبراهيم، بتحفة مالك الحزين، بل أعقبها بتحفة أعظم عن إمبابة أيضاً، هي تحفة "عصافير النيل". فإذا أضفنا لهاتين الروايتين، مجموعته القصصية أو بالأصحّ ديوانه القصصي "حكايات من فضل الله عثمان"، تكون اكتلمت الدائرة. ثلاثة أعمال فنية، مكرّسة من ألفها إلى يائها لإمبابة. فضلاً عما ورد عنها، وهو كثير، في تضاعيف كتبه الأخرى.
بهذا يكون أصلان، كاتب المكان الضيق الأول عربياً. كاتب رقعة جغرافية محصورة ومحدّدة. أجاد الإنصات لبشرها وحجرها وشجرها وطيرها ونيلها، فأعطته كنوزها ولم تبخل عليه، هو ابنها البارّ، وفنانها النبيل، الذي أحسّ بها كما لم يحسّ بها أحد. فكتبها بدم الروح، وكدح القلب وشجن الخبرة.

خسارة في الموت والله يا أبو خليل!


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف