ثقافات

الذُّروَويّة: فلتسقط الرمزية... عاشت الزهرة الحيّة!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تقديم وترجمة عبد القادر الجنابي: حث غلو آخر قادة الشعر الرمزي الروسي فيتاجسلافايفانوفعلى اعتبار "الشعر فعلا دينيا وعملا كهنوتي"، عددا من المنتمين الشباب الجدد إلى تشكيل تجمع اسمه "ورشة (رابطة) الشعراء" تحت قيادة شاعر وناقد شاب جد موهوب اسمه نيكولاي غومليوف (1886-1921). وكان التجمع يقيم لقاءات أسبوعية تلقى فيها محاضرات وقراءات شعرية... ومن داخل النقاشات في "الورشة"، توصل غومليوف إلى تأسيس تيار جديد أطلق عليه أسم "الذرووية": والكلمة مأخوذة من akme اليونانية وتعني "ذروة الانجاز" أي النضوج الكامل. والتيار هذا يدعو إلى تحديث الكلاسيكية بشعر تنشأ حيويته من مهارة في الصنعة الشعرية، والصور المضبوطة، والوضوح الكلّي... مثلما تنشأ من النشاط أعضاءُ الكائن الحي كلُّها بوصفها نظاماً كاملا. وقد وصف ماندلشتام "الذُروويّة" بأنها "مدرسة الشعر العُضوية"، قائلا: "نحن لا نعتبر التمثّلات الكلامية كحقائق الوعي الموضوعية فحسب بل أيضا كأعضاء الإنسان كما القلب أو الكبد". ويتطلب، لتحقيق هذا الهدف، إخراج الشعر من سراديب الميتافيزيقية وإطلاقه في ذرى علم الجمال الأرضيّ، ليتخلص من الرموز، متحليا بصور صافية ومقتصدة ومستلة من الواقع اليومي، حيث، كما يقول غومليوف، "الشياطين، الملائكة والأرواح الأخرى ليست سوى جزء من مواد الفنان، ولا يزداد وزنها في الأهمية على الصور الأخرى التي يتبنّاها". وأن تكون كتابة قصيدة أشبه بعملية مقصودة ومهندسة؛ أي أن يكون الشاعر ماهرا في الصنعة الشعرية، وواثقا من نفسه وفرحا بأنه "ممثل الأزمنة والأمم... يشيّد أنصابا كلاميّة ترضي السماوات والأرض". ذلك أنه "على المرء"، كما وضح غومليوف، "أن يكتب ليس عندما يكون ممكنا، وإنما عندما يكون لازما كل اللزوم... فكلمة ممكن يجب أن تُشطب من كل ميادين الدراسة الشعرية".

من اليمين إلى اليسار: غومليوف، اخماتوفا وماندلشتام

وهكذا يرفض الذروويون الرمز كناحية بنيانية أولية للشعر. "ذلك ان المضمر في التعريف الرمزي للرمز هو إخضاع معنى (تعييني) أولي لمعنى (رمزي، تضميني) ثانوي. وهذا يعني أن اللغة الشعرية لم تعد تعني بالنسبة للرمزيين، قيمة بذاتها، وإنما تصبح وسيلة لرؤيا قيامية للعالم الآخر".
وكان من بين الشعراء الأقوياء الذين تبنوا "الذرووية"، أوسيب ماندلشتام وأنا اخماتوفا التي تزوجت غومليوف عام 1910. وفي الواقع، أن دور أنا أخماتوفا - التي استطاعت أن تعيش إلى 1968، (على عكس زوجها غومليوف الذي اعتقل عام 1921، بتهمة العمل المضاد ضد النظام السوفيتي فتم إعدامه رميا بالرصاص) - كان جد ضئيل في تيار "الذرووية"، خصوصا على الصعيد النظري إذ كانت تستهوي المحاضرات وقراءة المقالات النقدية، لكنها لم تكتب أبدا أيّة مقالة نقدية أو نظرية، وإنما كانت منكبة على الشعر وأنتجت روائع شعرية خالدة.

هناك ثلاث مقالات تعتبر البيانات الرئيسية الثلاثة للـ"ذُروَويّة"، كتبت في العام نفسه 1913، الأولى: "تراث الرمزية والذرووية" لمفكر الاتجاه نيكولاي غومليوف، والثانية: "اتجاهات الشعر الروسي المعاصر" لسيرغي غوروديتسكي (1884-1967)، والثالثة: "صباح الذُروويّة" لأوسيب ماندلشتام (1891-1938). مقالتا غومليوف وغوروديتسكي نشرتا في "أبولون" (العدد الأول 1913)، ومقالة ماندلشتام لم تنشر إلا بعد ست سنوات أي عام 1919 في مجلة "سيرينا"... لماذا لم تنشر في وقتها، وواضح من عنوانها أنها كتبت كبيان ثالث ليصدر في العدد نفسه من "ابولون"، ناهيك عن أنها أقوى بيان وأفضل من المقالتين الأخريين؟ سؤال لم يجد جوابه إلى الآن! هناك من يقول أن غوروديتسكي كانت له اعتراضات عليها، وحتى لا يعطوا انطباعا بأنهم غير متفقين، فضلوا عدم نشرها.

منهجهم الوضوحية والحرفية ودقة وصف ما يرون من مدن: مشاهد، أنصاب وأطلال... ويصفون ليس حبا بالوصف، وإنما هروبا من كل مطبات الوصف الرمزية والمجازية الحاجبة؛ يصفون لكي يكتشفوا مناحي الواقع المجهولة، فيبرهنوا للرمزيين على وجود هذا الواقع هنا والآن. ففي قصائدها، مثلا، أنا اخماتوفا "لا تشرح وإنما تُري"، كما قال زوجها غومليوف. وهم لا يستخدمون أية كلمة لا تساهم في العرض. فهم يستخدمون الكلمات بمعانيها الأولية الشائعة: زهرة هي زهرة... بدل استخدام مجازاتها، فإنهم يضعونها في حقل دلالي لكي تُشحن بمعان أوسع. إن همّهم الأول يكمن في مسألة تركيب القصيدة، كما يشرح نلس آكه نلسون، بشكل آخر: "بالنسبة إليهم، لكل لفظة أهميتها ومحملة بمعان. التوتر الإيقاعي لا يُخلق بالبنية الاستبدالية فحسب، وإنما كذلك وقبل كل شيء، بالبنية النظمية للقصيدة؛ بواسطة إسْناد بين الكلمات التي تشكل القصيدة... وهكذا يتضح الكلُّ وكأنه ميدان قوى أشبه بنظام الإمكانات الدلالية؛ علاقات يمكن لها أيضا أن تُقام خارج العمل: فيولدّ الشاعر، بواسطة التلميحات أو الاقتباسات (المباشرة أو المحجوبة)، روابط مع شعراء آخرين وقصائد."وهنا يمكن القول أنهم كانوا أول الشعراء الذين استخدموا التناص.

في نظر غومليوف: "الرمزية انتهت... لقد أنجزت مسيرتها وقد آن زوالها... فلم تعد قادرة على خلق شيء رائع... وقد بددت الرمزية قواها في عالم الغيب، ولغاية وحيدة هي جرّ الأدب في برد اللاهوت القاسي... تتوجّه المدرسة الشعرية الجديدة (الذرووية) نحو الكون الملموس: فالتراتبية في عالم الظواهر هي الوزن النوعي لكل ظاهرة، ومع هذا فإن ظاهرة مهما كانت طفيفةً، لها، وبشكل لا يقاس، ثقل أكبر من غياب الثقل، من العدم، وبالتالي كل الظواهر أخوة في مجابهة العدم"... يفترض الرمزيون بأن الإبداع الشعري يسهّل الوصول إلى مناطق روحانية أو نفسانية، ونتيجة هذا التفكير يصبح الإبداع الشعري نوعا من الطقس الأورفيوسي، أو لغزا، وبالتالي فإن الحصول اللاعقلاني على المعرفة النهائية يفضي إلى نقد قاس للتفكير العلمي. فـ"الشعر معني بإمكانات النمو الدلالي ضمن حدود البنى الشعرية". وقد بيّن غوليوف الأصول الشعرية التي تقوم عليها مجموعة "الذروويين": "كل تيّار أدبي سوف يجد نفسه مولعا على نحو حماسي بمؤلفين معينين، أو بحقب أدبية معينة. التعلق العاطفي بالموتى يقرب الناس بعضهم من بعض أكثر من أي شيء آخر. وفي الحلقات القريبة من الذرووية، فإن الأسماء الأكثر تداولا هي شكسبير، رابليه، فييون وغوتييه. إن اختيار هذه الأسماء ليس اختيارا اعتباطيا. فكل اسم يمثل حجرا أساسيا في البناء الذرووي. شكسبير لكشفه عن الواقع الداخلي للإنسان، رابليه لتصويره الجسد ومُتعه، فيزيولوجيا حكيمة، فرانسوا فيّون لمروياته عن الحياة التي ليس لها أي شك بنفسها، رغم أنها تعرف كل شيء - الله، الرذيلة، الموت والخلود، وأخيرا تيوفيل غوتييه الذي وجد في الفنان الثوب الجدير بأشكال الحياة. إن توحيد هذه اللحظات الأربع في الذات الواحدة، لهو حلم يوحد، حاليا، بين الشعراء الذين، بكل جرأة، يسمون أنفسهم: الذروويون".

في الواقع، إن غومليوف قد أرسل أول إشارة إلى أنه يعمل على مشروع انتفاضي من داخل الرمزية، في عام 1909، وذلك في نقده، المنشور في مجلة "أبولون"، لديوان شاعر شاب اسمه بوريس سادوفسكي: "دع بريوسوف يتربص، كصياد، لمتاهات الهوى ولطوارق الفكر الليلية، ودع ايفانوف يرفع علم ديونيزوس المشرق، وليبكِ بلوك على السيدة الرائعة، ثم يضحك عليها بهوس - فسادوفسكي ينظر اليهم شزرا: في ضباب الغاب صريرُ الراكضين، نباحُ الكلاب، أنينُ ناقلة الماء. هذه مواضيع لن تتغير، يمكن للمرء أن يعيش معها طوال عمره. الرمزية الروسية لم تعرف أن تحيا الـ"هنا فورا".

بالنسبة إلى غوروديتسكي، فـ"الصراع بين الذرووية والرمزية، بصفته صراعا لا احتلال قلعة مهجورة، هو، قبل كل شيء، صراع من أجل هذا العالم - أصواته، ألوانه، أشكاله، ثقله وزمنه - من أجل كوكبنا الأرضي. الوردة، بالنسبة للذروويين، أصبحت مرة أخرى جميلة لذاتها فقط، لأوراقها، لعطرها، وليس لأنها تشبه، كما يفترض الرمزيون، الحبَّ التصوفي أو شيئا آخر... يبحث الرمزيون، في كل لحظة عن مطلٍ على الأبدية... بينما يُدخل "الذروويون"، في فنهم، اللحظات التي يمكن أن تكون أبدية."
ويتابع غوروديتسكي قائلا: "إن الرمزية تستخدم انسيابية اللغة بحثا عن اللامفهوم، بينما يجب التوجه نحو دقة المعنى والوضوح. فالرمزيون كانوا يطمحون إلى الجمال اللا دنيوي، في حين أن الوحشي يمكن أن يكون أيضا جميلا؛ ولذا فإن القبيح، من الآن فصاعدا، هو ذاك الذي ما لا شكلَ له، نصفُ كائن، ومرغمٌ على أن يتردد بين الوجود والعدم.... إنّا نُعجَب بزهرة لأنها جميلة وليس لأنها رمز للنقاء الصوفي". وكان غوروديتسكي يدعو للشعر الآدمي. ففي رسالة يذكر ماندلشتام بأنه "كانت هناك محاولة قام بها غوروديتسكي لغرس في "الذرووية" فلسفة أدبية، "الآدمية"، وهي نمط مذهبي حول عالم جديد وآدم جديد، إنسان بدائي معاصر. إلا أن المحاولة فشلت، لأن "الذرووية" لم تكن معنية بالفلسفات، وكانت ترفض اتخاذ خط فلسفي".

أما أوسيب ماندلشتام، فإنه يشدد في مقالته "على القيمة الدلالية للكلمات؛ البنية اللفظية الأولية للشعر، على العكس من المثال الرمزي الداعي إلى تعتيم القيم التعينية للكلمات، وجعل الكلمات غامضة إلى حد تسمو معه فوق المعنى منجزةً "تناغما" ميتافيزيقيا... ففي نظره، ليست الكلمات مجرد علامة تعبر عن معنى معين، وإنما هي تنسيق عدّة عناصر مُكوِّنةً المحتوى. لكن المعنى الشائع للكلمة، اللوغو، أمر لا غنى عنه، وهو رائع روعة الموسيقى بالنسبة الى الرمزيين... ويجب ألا نرفضه كما يفعل المستقبليون... والعمل الشعري لا يمكن إبداعه إلا في العالم الحقيقي، أي في الشروط التي يمليها الزمان والمكان، أي ليس بشروط العالم الآخر؛ العدم: أن تبني يعني الانتصار على الفراغ... كل ظواهر العالم الحقيقي متساوية بينها في مواجهتهم المشتركة للعدم: ليست هناك مساواة، ولا منافسة، وإنما هناك تواطؤ بين جميعِ الذين يتآمرون ضد الفراغ والعدم... أن تحبّ وجودَ الشيء أكثر من الشيء، أن تحبَّ وجودَك أكثرَ من نفسك، هذه هي الوصية الرئيسية التي تنطوي عليها الذرووية. لناقوس برجٍ غوطي سهمٌ رشيقٌ يستشيط غيضا، لأن وظيفته أن ينفذ إلى السماء، فيؤاخذ عليها فراغها. ليس هناك تراث شعري صار، بفترة قصيرة، باليا وقديما كالرمزية..." ويقول ماندلشتام، في مقالة أخرى عن "طبيعة الكلمات": "إن عطل الرمزيين يكمن في إعطاء رمز، مفرغين، بواسطته، كلّ شيء من أي وجود بذاته... لقد مهر الرمزيون كلَّ الكلمات، كلَّ الصور موظفين إيّاها في الطقوس الدينية، بحيث نتجت حالة شاذة: لا يقدر أحد أن يتحرك، أو أن ينهض، أو أن يجلس. بل لم يعد في قدرته أن يأكل على الطاولة لأنها لم تعد مجرد طاولة. ولم يعد بالإمكان حتى إشعال ضوء، قد يعني فيما بعد علامة على اللاسعادة"!

في الحقيقة، إن "الذرووية" تمثل أول نقد أرضي لسماء الرمز ومواجهة مع روّاد الرمزية. لكن هذا التيار الذُروَوي، في نظر عديد من النقاد، هو ذروة ما كان متوقعا أن تصله الحركة الرمزية نفسها.. ومن هنا لم يعتبرها النقاد الصاعدون الشكليون حركةً تغييريةً أو مدرسةً شعرية جديدة كالمستقبلية، وإنما مجرد اتجاه تصحيحي داخل الرمزية، ومحافظ على جوهر الرمزية الروسية في مفهوم الشعر، بحيث حتى محاولتهم في نحت كلمات جديدة كانت وسائط لأغراض إيقاعية ونوعا من التسامي فحسب، بينما المطلوب من النحت والتوليد هو، كما كتب الشاعر المستقبىلاني فيليمير خليبنيكوف، "حثّ القارئ على أن يفكّر".

لم تكن "الذرووية" حركة شعرية أو مدرسة، كالمستقبلية التي تبنت نبرة قطع طليعية: رفض الماضي والبدء من جديد. فكل الذين رافقوا "الذرووية" كانوا في الواقع، مجرد رفاق طريق سرعان ما تركوها، كما أنها لم تؤثر على شعراء آخرين. وليس لها، فعلا، تراث نموذجي يفرض نفسه باستثناء قصائد في ديوان أنا اخماتوفا "مِسبحة"، كقصيدة "كاباريه فنية" التي تصف فيها حانة "الكلب الضال" التي كان يؤمها الشعراء البوهيميون، رسم جدرانها سيرغي سوديكين.. وقد حذفت أخماتوفا، فيما بعد، العنوان، جاء فيها: "لسنا سوى نحن آثمات وسكيرين/ لا ينمّ اجتماعنا هذا عن فرح/ على الحوائط يتشوّق الطير والزهور/ في لهفة إلى الغيوم".

إلا أن الديوان الأول "حجر" الذي نشره أوسيب ماندلشتام عام 1913 (ثم أضاف إليه قصائد وصدر في طبعة ثانية 1915) يضم قصائد كثيرة تدل عما كانت "الذرووية" تدعو إليها: معمار كتابي بلغة عُضويّة. وهنا ثلاث قصائد نموذجية. لكن قصيدة ماندلشتام من هذا الديوان، كتبت عام 1912، تعتبر النموذج الأفضل والأقوى عما كان يعنيه في بيانه: "الكلمة لا توجد كقيمة بذاتها وإنما كمادة البناء. الشاعر مهندس يشيّد صرحا من الكلمات... في الكاتدرائية الغوطية، يكتسب الحجر، مع الاحتفاظ بثقله، خفة عنصر معماري، الشيء نفسه بالنسبة إلى الكلمة، التي تدخل في تفاعل بهيج مع أترابها... البناء ممكن فقط في إطار الأبعاد الثلاثة، لأنها شرط كلّ معمار".

أوسيب ماندلشتام: نوتردام

كاتدرائيّةٌ تَنتصِبُ حيثُ كان قاضٍ رومانيٌّ
يحكم على شعب أجنبيّ: متهللةً وبَدْئيةً، كما كان آدم
في أوّلِ الزّمان، باسطةً تعاريقها، القبّةُ المقوّسةُ
على هيئةِ صليبٍ، تُلاعبُ بخفة عضلاتَها.

إلا أنَّ التصميمَ الخفيّ ينكشفُ، ما إن ننظر من الخارج:
فها هي متانةُ مِحزم المَسانِد تحافظُ
على أنْ ينامَ مِدكّ القبّة الجريئة
وألا تُهدِّم الكتلةُ الثقيلةُ الجدارَ.

متاهةٌ تِلقائيّة، غابةٌ لا يُدرَكُ سرُّها،
غَوْرُ الرّوحِ القوطيّة المُتمعَّنُ فيه،
هيبةٌ مِصريّةٌ وتواضعٌ مسيحيٍّ،
بلّوطٌ قرب القَصب، والشاقوليُّ مَلِكُ المكان.

وهكذا، كلّما تفحّصتُ أكثرَ
أضلاعَكِ الفظيعةَ، يا نوتردام، يا قلعةً،
فكّرتُ مراراً: أنا أيضاً، سأخلقُ، مِن الثِقْل
القاسي، يوماً ما، الجَمالَ.

نيكولاي غومليوف: الكلمة

في تلك الأيام، حين أمال الربُّ
بوجهه صوب الخليقة،
لأوقفت الكلمةُ الشَّمسَ
لدمّرت الكلمةُ مُدناً.

ولتوقف النسر عن صفق جناحيه
وألتصق النجمُ الخائف بالقمر
لو مرّت الكلمة، لَظَى ورديّا،
في أعالي السموات.

للحياة الدنيا كانت هناك أعداد
أشبه بقطيع داجن وطوع البنان
فالعدد الذكي يمكن له الإعراب
عن جلّ ما ينطوي عليه المعنى من ظلال.

وبما أن البطريرك ذا اللحية البيضاء
الذي أخضع الخير والشر لإرادته،
لم يجرؤ على أن يتوجّه إلى الصوت،
فإنه خطّ العدد في الرمل بعصاه

غير أننا نسينا أنّ الكلمةَ وحدَها
سطعتْ متوهّجةً على الأرض المهمومة
وأنّ الكلمةَ الله
كما جاء في أنجيل يوحنا.

لكننا أقصرنا مداها
في حدود الوجود التافهة
وكما النحل الميت في خلية فارغة
تنبعث رائحةٌ كريهة من الكلمات الميتة.

أنا اخماتوفا: إلى الكسندر بلوك

جئت لزيارة الشاعر
يوم أحد، ظهرا
الغرفة فسيحةٌ وهادئة،
ما وراء النافذة، كان الصقيع.

شمس حمراء غامقة
أسفلها دخان رمادي أشعث
كم هي واضحةٌ نظرةُ
مضيفي الصامت إلي!

له عينان يكفي أن تراهما مرة واحدة
حتى تُحفرا في ذاكرتك
ومن الأفضل، أنا الحذرة، أن لا
أتطلع إليهما.

لكنني سأتذكر دائما حديثنا
يومَ أحَد، ذات ظهيرة ملؤها دخان،
في المنزل الشاهق، الرمادي
عند ممر "نيفا" البحري.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف