هل يصنع المسرح العربي ثورات؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
السؤال/الهاجس يطرح نفسه بحدة:"هل المسرح ثائر على المألوف والساكن وحتى على المقدس؟ أم أنّ المسرح لا يعدو أن يكون مواكبا لحراك اجتماعي مقصور على الاستشراف والتنبؤ؟".
الجزائر: فجّرت مساجلات احتدمت مؤخرا حول المسرح بين الثورة والالتزام، كثيرا من الضجيج بشأن جدلية أب الفنون وفعل التثوير، حيث برزت عديد نقاط الظلّ والمسارب المثيرة للاهتمام، لذا سألنا فاعلين عن الاشكالية التالية: هل حقيقة، يصنع المسرح العربي ثورات؟
بداية، يركّز الأكاديمي الجزائري "أحسن ثليلاني" على أنّ المسرح في جوهره خطاب سياسي يتبنى التحريض والثورة، فيوجّه المرآة نحو الهدف المنشود بالتغيير، وإذا كانت ثورة كتاب المسرح في كل الآداب تتنوع بحسب رؤاهم الفكرية والعقيدية، وإذا كان مصدر هذه الثورات في الآداب الأجنبية، مرتبط بثورة الكاتب ذاته ورؤيته للحياة والكون من حوله، فإنّ تفاعل المسرحي مع الثورة مصدره الانخراط الكلي في ثورة الأمة كلها، فهي ليست جزء منه، ولكنه هو الجزء منها.
من جهتهما، يتقاطع الباحث الأردني "عمر محمد نقرش" ونظيره السوداني "علي محمد سعيد جبريل" عند حتمية تحديد مفاهيمية الثورة بحسب السياقات والغايات والاستخدامات والنتائج، مشيران إلى أنّ الفنون بمختلف أشكالها تسهم فعليا وتؤثر بطريقة أو بأخرى في تأجيج رغبة الثورة على الوضع.
يتفق نقرش وجبريل في كون الالتزام ليس ارتباطا ميكانيكيا مع الواقع، بل دعامة مشبّعة بالقيم عامة مثل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعقلانية التي تتكرس على الخشبة وتجعلها قريبة إلى نبض الشارع، والثورية المسرحية بحسبهما تتجلى في مستويات عدة أبرزها جمالية النص/ العرض، وأخرى اجتماعية تناغم بين بنيتي الشكل الفني والمحتوى الثوري.
ويشدد الأكاديمي الجزائري "حميد علاوي" على أنّ التزام المسرح بقضايا الثورة ظاهرة فنية لا تقتصر على المسرح فحسب بل هي صلب مختلف الأجناس الفنية والثقافية، موضحا أنّ ارتباط المسرح الجزائري برسالته الثورية لا يعني إسقاط رسالتيه الفنية والجمالية، لأنّ المسرح حسبه لا يمكن إلا أن يكون ممتعا، طالما أنّ المسرح حتى وإن صار تعليميا فهو مسرح.
بدورها، تشرح د. جميلة مصطفى الزقاي، أنّ الثورة تتكئ على ركائز ووسائط تساعدها وتكفل لها التغيير المأمول، ومن بينها المسرح بوصفه فنا جماهيريا تعبويا، يمكنه أن يحرض على الثورة لينشر أفكارها ومبادئها وأهدافها، ويستشرف مستقبلها، ويحرض على درء الفساد والخراب المصحوب بعواصف هوجاء تطال الشعوب في كينونتها وكرامتها ومقدساتها.
وتشير الزقاي إلى أنّ المسرح يلتقي مع الثورة في كونهما يناشدان التغيير الإيجابي، ويحدث ذلك في حالة ما إذا بنيت الثورة على مبادئ حقيقية وأهداف إنسانية سامية صادقة وليس سليلة نوايا مبيتة كرست لخدمة مصالح فئة بعينها، ويظل المسرح في هذه الحالة وسيطا ناجعا يرمي على الدوام إلى إصابة اهداف سياسية وفكرية أيديولوجية وغيرها.
من جانبه، يرى الناقد المسرحي السوري "هيثم يحيى خواجة" أنّ القضايا العادلة لم تنحصر في الثورة على المحتلين فحسب، وإنما ظلت منفتحة على قيم حساسة تمس عمق الإنسان العربي مثل واقع المرأة، الظلم، العدل، ويقدّر خواجة أنّ المسرح الجزائري كما نظيره السوري طغت عليهما النبرة الخطابية في فترة ما، على غرار ما تضمنه عرض "في سبيل التاج" الذي حكى مسار بطل قتل أباه في سبيل عدم إجهاض الثورة، لكن خواجة يوقن أنّ هذا المسرح الخطابي لم يعد صالحا، ما دفع البعض إلى تبني منهج دلالي يعج بالرمزية ولغة الجسد، يخاطب العقل ويحرّك النبض ويستفز الوعي للنأي عن مقص الرقابة.
إلى ذلك، يتصور الأكاديمي الجزائري "حبيب سوالمي" أنّ الثورية المسرحية ليست ضد عدو خارجي وحسب، أو على أوضاع اجتماعية سلبية، بل هي ثورة على النفس البشرية من أجل إعادتها إلى فطرتها الأولى، بعد انغماسها في شرور الماديات، ثورة تطهّرها من كل شرورها وأحقادها، فالإنسان عندما يدخل صالة العرض ليجلس على كرسي ويرى تمثيلية ما، فإن نفسه الشريرة ترتعش من قوة ما يرى فيدرك ما اقترف من خطايا أو جرائم كما يقول شكسبير في مسرحية "هاملت".
ظلال الوعي والالتزام والتحرر
في سياق متصل، ينوّه الناقد الجزائري "إبراهيم نوّال" أنّه باستطاعة الثيمة السخية للمسرح أن تغيّر وتبلور المناقشات حول التزام ناشطي الفن الرابع، باتجاه إنضاج مسرح أكثر وعي وديناميكية وسط التماوجات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي بإمكانها أن تهيكل ثورة، ولا يتعلق الأمر بتاتا بالرغبة في تحويل هذا الفضاء إلى ميدان لأفكار حرة وتركيبات سحرية أبهى لإخفاء مصلحة البعض وتعليل أفعال الغير.
ويلفت نوّال إلى أنّ الفن المشهدي المعاصر، في استيعابه للثورات العربية، بحاجة لوعي جديد ومتجدد يعكس كل المتناقضات التي يفرزها المجتمع العربي في هذه المرحلة الحاسمة، ولا ينبغي الخلط - بنظره - بينه وبين الأفكار والاتجاهات الثائرة.
كما ينبّه نوّال إلى حاجة العالم العربي ومجتمعاته إلى إعادة بناء، بمعية الرواة والفنانين وسائر قوى الإبداع المسرحي، حيث يتعيّن تقويض الكثير من البنى المضللّة وذلك يمرّ عبر ربط الركح باستيراتجية استشراف المستقبل بما ينتج مسرحا أكثر فكرا ووعيا محصنّ ضدّ "العابثين".
ويعتقد د/ أحمد حمومي أنّه من السذاجة الاعتقاد بأنّ التزام المسرح بالتثوير لا يكون إلاّ حين يتحزّب المبدع، مبرزا أنّ عددا عرمرما من المبدعين يرفضون التحزب ليبقوا أحرارا في إبداعاتهم ويكتفوا بالتعبير من موقع المنتمي إلى البشرية التي ترفض العنصريات والإقصاءات وحجز الكلمات وتحجّر الذهنيات.
وعليه، يذهب حمومي إلى أنّ القول بموت الأيديولوجيات ونفي الأخيرة عن الأعمال الثقافية، دعوة إلى إنتاج فني يحقق رغبة البورجوازية منذ عقود في "الفن من أجل الفن"، ويرسخ انتفاء ما سماها "المقاومة الثقافية" لأنّ العولمة قدر محتوم على حد رؤية عرابيها.
في غضون ذلك، يؤكد الناقد المصري "ياسر علاّم" على أنّ ارهاصات ثورة 25 يناير في مصر، برزت من خلال فرق مسرحية استبقت الحدث منذ 2005، حينما احتلت الشارع وجعلت من الاسكندرية، ميدان التحرير، شبرا وغيرها، مسرحا مفتوحا يخاطب عامة الناس، ما حوّل تلك الأماكن لاحقا إلى بؤر ثورية، فهل يمكن حقا أن يكون المسرح أوقد ذلك الوعي الذي أسقط نظاما عتيدا؟.
علاّم يترك القوس مفتوحا، ويقرّ أنّ المسرحي الثائر بات قريبا من مشاعر الشعب أكثر من نظيره النقابي أو ذلك الذي يكتفي باستظهار بطاقة فنان، فهل معنى هذا تلاشي نمط "الفنان الرسمي"؟.
الباحث اللبناني "مصطفى مشهور" يرتضي مقاربة القضية من زاوية توازن الداخل وتثوير الخارج، وعما إذا بات المسرح فعلا اجتماعيا مؤجلا؟، إذ يرى مشهور أنّه في كل مرة تسود الثورات وتهب رياح الانتفاضات، يعود سؤال القلق القديم الجديد، ليطرح نفسه عن دور المسرح في مثل هذه الظروف، ورغم أهمية السؤال، إلا أنه في نظر مشهور لا يجعلنا نعتقد أنّ الخلق المسرحي هو انعكاس بسيط للأوضاع الاجتماعية، بشكل عام.
بينما يلاحظ الباحث العراقي "حميد عبد مهدي"، أنّ المسرح يركز عمله على عامل التطهير، لذا يستشعر المواكب لهدير الخشبة قدرا من الخوف والقلق في معادلة تثير الارتعاب، سيما حينما يتم اتخاذ السلطة عمودا فقريا لموضوعة مسرحية ما.
صعوبة تحديد الثورية
يتصور الباحث "عبدالناصر خلاف" أنّ كثير من النتاجات لا يُثوّر الجماهير، ولا يتصل بالثورة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وهنا تحدث المشكلة، لأنه من الصعب تحديد شكل للثورية يُمكن جعله مقياساً للوصول إلى مرتبتها ومستواها، فإذا افترضنا أنّ كل ابتكار فني أو مسرحي جديد فى أصالته، فكيف يمكن لنا والحالة هذه وضع الضوابط ومقاييس التقييم؟
ويتوصل خلاّف إلى أنّ ثورة الإبداع الفكري يُمكن لها أن تُمهّد للثورات، كما بالإمكان أيضاً أن تمتد الثورة إلى ما بعد تاريخها زمنيا، وفي حالة ثالثة فإنّ الإبداع يمكن له - نتيجة أفول نجم تيارات فنية مُعينة - أن ينتج ثورة فنية أو أدبية بحتة، في مقام الثورة السياسية تماماً.
ويلتقي أكثر من طرف عند ضرورة توخي رؤية بعيدة جديدة ترسّخ تثويرا مسرحيا مستمرا وتطورا لا يعرف التوقف، بما يقود إلى مسرح جديد يحمل رائحة العصر ورؤية اليوم ولغة تنبض بالحياة، بدل ما هو معلّب ومحنّط، وذاك يقتضي ثورة فعلية في المسرح تلتفت إلى مشاريع سعد الله ونوس والطيب الصديقي وعبد القادر علولة، وكما يقول د/علاوي:"إننا في حاجة إلى قبل أن نتحدث عن المسرح الثوري ... فالمسرح أقدر الفنون على التغيير، تغيير الفن نفسه وتغيير المجتمع وتحديثه وعصرنته.. فالمسرح وحده يملك كل القرارات، يبدّل، يغيّر، يسأل، يجيب، يثني وينتقد، يبني ويهدم، يرضى ويتمرد ..لا يؤمن بالنهائي ولا الثابت، إنه فن لا يعرف الاستقرار".