ثقافات

أنطوني تابييس: غياب الرجل، بقاء الفنان

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حميد مشهداني من برشلونة: في العام الذي ولد فيه الفنان، 1923 كانت أسبانيا تعاني "ديكتاتورية" الجنرال "بريمو دي ريفيرا" في انقلاب عسكري لم يكن قد مضى له الا بضعة اشهر، و هذا كان طبيعيا في تأريخ اسبانيا المتعثر سياسيا خلال القرن التاسع عشر. وحتى وفاة أخر فاشيي اوربا "فرانكو" في عام 1975 عاش الفنان نظاما عسكريا بالغ القسوة، اذا أستثنينا سنوات الجمهورية الثانية، 1931-1939، و أحبطت الاحلام، كان والدي "تابييس" ينتمون الى البرجوازية الوطنية الكاتالانية المثقفة، كان والده ناشرا مهما في هذا الاقليم، فمنذ ولادته كان بيته ملتقى نخبة فنانين و مثقفي "برشلونة" التي كانت تفوق كثيرا على العاصمة "مدريد" في كل ما يتعلق بالطليعية والحداثة الفنية، بسبب قربها الاتني، والجغرافي من فرنسا و عاصمتها "باريس"التي كانت في الريادة دائما بعد عصر التنوير الايطالي. و من يلد في هكذا محيط ثقافي، مهمة دخوله فيه ستكون سهلة بألتأكيد، أذا لم يكن مجنونا. لذالك لم يحتاج الشاب "تابييس"دخول مدرسة فنية لانه كان مشبعا بعطر الفن و الثقافة منذ صغره، دخل كلية الحقوق لدراسة القانون و التي سرعان ما غادرها بسبب قلق داخلي مستمر يدعوه على التمرد على كل ما هو تقليدي، محظوظا كان ذالك الشاب، الذي كان معجبا بأنجازات مواطنه الكاتالاني "جوان ميرو" في باريس فعاد الى هواية طفولته التي كان قد زينها في العديد من الرسوم و التخطيطات البدائية، و رسومه الاولى كانت "بورتريهات" وجهه، و هذه كانت كثيرة ليقول بعد سنوات ان اقرب من كان اليه كان "هو" و هذا يعكس وحدة العبقري القلقة قليل الاصدقاء، الذين سرعان ما عثر عليهم و هؤلاء وجدوا فيه ظلا لاحلام أبداعية قادمة، هناك العديد من الرسوم البسيطة لاصدقائه لا تعطي انطباعا لحرفية قادمة، كما حصل مع "بيكاسو"او "سلفادور دالي"مثلا، هؤلاء درسوا أسس الرسم الاكاديمي في مدارس عتيدة. كان "تابييس" في بحث و قلق دائم سمحت له بذالك شروط اقتصادية، و خلفية ثقافية غنية، فهو قبل بلوغه العشرين من العمر قرأ الفلسفة اليونانية، و أستوعب قرائة "هيدجر"و "نيتشة" و "هيغل" لانه كان تلميذا في المدرسة الالمانية في برشلونة حتى دخوله الجامعة، لذالك أشارتي السابقة حول حظه السعيد، ففي هذه المدرسة تعلم قرائة الفلسفة و تعلم ايظا التذوق الموسيقي، فهو بعد اصابته بمرض السل بقي طريح الفراش لمدة سنتين في واحدا من منتجعات شمال برشلونة الراقية، حيث الكتب و الموسيقى التي أغنت روحه و رفعت من ذوقه الموسيقي خصوصا مع رومانتيكية "برامز" و الهذيان العاصف لـ"فاجنر"، و انا أكتب هذه السطور اتذكر و بحسرة دخولي مستشفى الدكتور"أراتون" الطيب الذكر لمدة اسبوع واحد، حينها لم ابلغ الثالثة عشر من عمري، كنت حزينا حين مغادرتي المصح عافيا، كنت أود لو طالت أقامتي في هذا المصح الجميل امام "القصر الابيض" في بغداد في بنائه "الفيكتوري" الجميل و حدائقه، و اناقة غرفه و طيبة ممرضاته، المشكلة هي انني شفيت بسرعة، ورغم ذالك كانت "الفاتورة" غالية جدا،
اعود الى "تابييس" فهو خلال سنتين النقاهة في هذا المنتجع لم يشف نهائيا من مرض السل، ولكنه اغنى روحه بالقرائة و سماع الموسيقى الكلاسيكية، وهناك تعرف بشكل جيد علىأعمال "توماس مان" خصوصا روايته "الجبال المسحورة" لان هذه كانت تحاكي وضعه الصحي المتعب، يقال عنه انه شغف قراءة العديد من الكتب التي أحسن اختيارها وهذا سيكون له تأثير ايجابي في مسيرته الفنية الللاحقة حيث صار من اكثر الفنانين كتابة في مئات من النصوص التي تنظر في الرسم و تقنياته، و جدوى الابداع و ظرورته في المجتمع في تعقيد يضاهي تعقيد تفسير عمله الفني الذي كان يلح في نفس الوقت على عدم البحث محاولة تفسيره، هو يقول ان العمل الابداعي ليس بحاجة لاي تحليل أو تفسير، "كما الموسيقى، تسمعها و تسمعها وهي ليست اكثر من انفعال جميل"... قال لي هذا في لقاءبالصدفة في مؤسسته قبل 3 سنوات.
في سن الثالثة و العشرين يؤجر مشغلا للرسم و هو لم يدرس شيئا من أسس الفن التقليدي، و يبدأ التجريب في "الكولاج" ويساهم في بعض المعارض المشتركة الى ان يتعرف بعد سنتين على مثله الاعظم "جوان ميرو"، و هو كان يقدسه، في عام 1950 يقيم اول معرض شخصي فيه يكرس ذاته الفردية بعد عثرات عديدة و يعمد من قبل بعض النقاد، و لكن هذا التكريس لا ياتي الا بعد بعثته من قبل المعهد الفرنسي الى "باريس"، هناك اول ما يقوم به هو زيارة ستوديو "بيكاسو" مع رسالة توصية كتبها "خوان ميرو".
كانت الحرب الاهلية الاسبانية 1936 قد خطفت كل أحلامه و أحلام شعبه ليجد في باريس مساحة الحرية التي تاق اليها دائما و يتشبع بالفلسفة الماركسية، و يتأثر بـ"الواقعية الاشتراكية" حيث رسم لوحات في ذكرى الشاعر "غارثيا لوركا" و "ميغيل ايرنانديث" و لوحات يمكن تسميتها بالاجتماعية مثل لوحة "المحترفين" و "كورس العمال" و"نشيد السلام" و بعد سنتين اختير للمساهمة في "بينالي فينيسيا"، وبعد ذالك يدعى الى متحف "بطرسبرغ" و هو مازال في بحث متعب عن مفردات تشكيلية جديدة، لانه حتى ذالك الحين لم يكن مقتنعا بعمله كما كان يشاء، وهذا يحدث بعد زيارته "نيويورك" و هو في سن الثلاثين، و هناك يلتقي مجموعة "التعبيرية التجريدية" مثل "موذرويل" و "بولوك" و "توبيي" و اخرين، و هؤلاء اعجبوا بأعماله، هنا بأعتقادي وجد الفنان نفسه و يلتقي ذاته المضطربة، و يتذكر أعماله السابقة منذ سنوات و يكتشف انها تحاكي التعبيرية التجريدية و هو لم يعي ذالك حينها، و يتألف مع هذا الاكتشاف، اود الاشارة الى تأثير هذه المجموعة في فناين عراقيين مهرة مثل "شاكر حسن ال سعيد" و "رافع الناصري" و محمد مهرالدين" و اخرين.
في منتصف الخمسينات يصير "تابييس" فريدا في ابداعه لو نقارنه بمواطنيه "ميرو" و "سلفادور دالي" الذين سيفوقهم فيما بعد بأكتشافات تكنيكية رائعة و فريدة في العمل "الكرافيكي" و الطبع على الحجر "ليثوغراف" و هنا يصبح واحدا من أهم رجال الفن الحديث العظام خلال النصف الثاني من القرن العشرين، و جزء من هذا القرن الجديد، و أسمه سيبقى في ذاكرة التأريخ مثل "دالي " و "بيكاسو" و "ميرو"، الذين ربما فاقهم في تقنيته و تعبيريته اذا أخذنا بعين الاعتبار انهم كانوا له مثالا أقتدى به دائما، و لكن بأعتقادي ان أضافته الحاسمة للفن الحديث كان محصورا بين فترة الخمسينات و بداية السبعينات، في تبنيه اسلوبا غامضا خلي من الشفافية المقصودة و استخدامه المتنوع للعديد من عناصر البناء التشكيلي، و ادوات لم يعتدها معاصريه منطلقا من ثقافته العميقة، و ممارسته اليوميةفي مشغله حيث اكتسب شهرة غرابة الفنان و الفيلسوف، لم يعد يبرر أبداعه، يقول الاعمال الفنية غنية عن التفسير و التحليل الا القليل منها.
في تنوع مواده الفنية، و "فقرها" في الكثير من الاحيان، و تحددها يضع "الوجودية" في أطارات غريبة في معظمها تحاكي التجرد و الموت، و الخراب و خشية الموت كما نرى في العديد من لوحاته رمادية ما بعد القصف، حيث لا يبقى غير الرماد و الوحشة، جدير بالذكر تأثره المحزن والعميق بعد قنابل "هيروشيما" و "نكازاكي" ففي معظم لوحاته نلاحظ "الانطباع" الاول للتخريب بعد التفجير حيث لا غير السواد و رمادية الكون، و هو بهذا يختار لغة جديدة، و أسلوب حديث غير معروف سابقا عند معاصريه من الفنانين، متمكنا من أدواته التقنية بعد بحث مضني و كأنه يريد البداية من جديد سلوك دربا فريدا، ذاتيا و لا يقارن.
أكتب حزينا في حق "تابييس" الفنان الملتزم و المتواضع، و الذي قدم متحفه كمساحة لنشاط ثقافي و فني عراقي لا نظير له في 2006، وهذا دام اسبوع احتوى على لوحات، و موسيقى و شعر و مناقشات حول الثقافة العراقية، سمي بـ"المعادلة العراقية" غطته كل وسائل الاعلام الاسبانية، و خبر أفتتاحه كان على الصفحات الاولى لكل الصحف الرئيسية في هذا البلد، أتذكر أن الشاعر "سعدي يوسف" سألني عن "تابييس" و كان يود لقاءه كما كلنا، حاولت ذالك ولكن الفنان في تلك الايام كانت صحته متدهورة فأعتكف مشغله و منزله في قرية شمال "برشلونة"، ولكنني بعد سنتين التقيته صدفة في مؤسسته، كان لقائا قصيرا اتذكر بعض ما حدثني به، فهو كان يشعر بالاحباط لانه الفنان الاكثر شهرة ولكنه لايملك لوحة تخلده في التأريخ بأشارة واضحة الى لوحة "غيرنيكا". و في مكان اخر يعاتب النقاد الاميريكيون عدم فهمهم لعمله، و لم يكن سعيدا ترتيب معرضه الاخير في "متحف بيويورك" 1995 وشكى من عدم الانتظام و التنسيق و مدير المعرض، و الانارة الخ، و يقول ان النقد الاميركي لم يضعه بمستوى "بيكاسو" بسبب تعقد اعماله التأملية المتأثرة بالفلسفة الصينية، و اليابانية. و هذا صحيح، ففي معظم أعماله نلاحظ ضربات الحرف الياباني أو الصيني ملقاة على قماشه و بتعمد قاسي، و أيظا لم يترك الفن الفطري الافريقي جانبا فمنه أستلهم العديد من وحداته التشكيلية، كان لقاء قصير لم يترك فيه الفنان نوعا من المرح مشيرا الى عدم جدوى اهتمامي بالموسيقى الحديثة كـ"الجاز" و "البلوز" مشيرا الى عواصف "بيتهوفين" و ماسي "فاجنر"..

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
جميل
ستار كاووش -

رائع أن نقرأ شيئاً لشخص عارف بالفن ومصادره وتقنياته وتاريخه ، كل ذلك بطريقة شيقة وممتعة كما هي أغلب مقالات الأستاذ مشهداني ، شكرأ لك ،اليوم إيلاف أكثر جمالاً بوجود شيء عن تابيس

DzSnyXsThASnt
Rifki -

I wanted to spend a mnitue to thank you for this.