ثقافات

غياب الاب وبقاء الأم: ظاهرة متكررة في عالم نجيب محفوظ

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

مناحم ميلسون: في عدد من قصص نجيب محفوظ نجد الاب ميتا أو عاجزا عن أداء واجباته كأب ومعيل للعائلة، وهذا الموضوع - غياب الأب - جدير باهتمامنا لسببين، أولهما ان محفوظ يكتب عن مجتمع يسوده النظام الابوي، ولذا فإن لغياب الاب تأثيرا بالغا وتداعيات كثيرة، والسبب الثاني أن تكرار هذه الظاهرة بصور مختلفة في أعمال عديدة يوحي بأن المؤلف يُعنَى بشكل خاص بهذا الموضوع.
يظهر غياب الاب بشكل بارز وجلي في رواية " بداية ونهاية" (1949) حيث تبدأ الرواية فعلا بموت الاب. يفاجئ خبر موت الأب ابنيه الاثنين وهم في المدرسة في الفصل الاول من الرواية, وتستمر حياة العائلة في ظل هذا الغياب، وهي تعاني من صعوبات اقتصادية واجتماعية، ومما يزيد من معاناة الابناء انهم يكتشفون تدريجيا ان صورة والدهم التي علقت في أذهانهم من انه كان شخصية لها شانها، موظفا كبيرا وصديقا مقربا من الاكابر وعلية القوم - هذه الصورة لم تكن الا وهما، وانه لم يكن في الحقيقة الا موظفا صغيرا ولم يكن يدعى لقضاء السهرات في فيللا أحمد بك يُسري إلا لانه كان يحسن الغناء والعزف على العود "ولم يكن صديقا بالمعنى الذي فهمه البك من الصداقة". بعد وفاة الاب تصبح الام عماد العائلة، كما يقول نجيب محفوظ في روايته : "الام وحدها كانت عَصَب حياة الاسرة، وفي سبيل الاسرة انهدَّ حيلها، وهرمت في عامين كما لم تهرم خلال نصف قرن من الزمان، فنحلت وهزلت حتى استحالت جلدا وعظما، بيد انها لم تستسلم للمحنة، ولم تعرف الشكوى، ولم تتخلّ عن سجاياها الجوهرية من الصبر والحزم والقوة، وكانت تعمل النهار كله، تطبخ وتغسل وتكنس وتمسح وترتق وترفو وترعى ابنيها خاصة، وتراقب لهوهما وتحثهما على العمل وتفض نزاعهما التافه، وتكبح من نزواتهما، خصوصا طفلها المتقلب حسنين.....لشد ما تتجرع غصص الالم في سكون متجملة بصبر لا يهن، لائذة بايمان لا يتزعزع..... وبفضلها عرف الشقيقان سبيلهما" (ص 174)، أما ثاني البنين حسين، فكان ينظر اليها باعجاب وتقدير ويُشبِّهها في أفكاره بأرض مصر كما نرى عندما يركب القطار وهو في طريقه الى مكان عمله، في طنطا، حيث ينظر من القطار الى الحقول المترامية ساهيًا في الافكار، واليكم ما يقوله المؤلف هنا: " ثم مد بصره كرة أخرى الى الارض المنبسطة الصامتة الصابرة الخيِّرة، فذكر دون وعي أمه، كهذه الارضِ الخضراءِ صبرا وجودا، والدهرُ يحرثها بسنانه" (ص 199).
هنالك الفاظ معينة استعملها محفوظ في وصف الام في "بداية ونهاية" نسمع فيها اصداء من وصفه للملكة الفرعونية في روايته التاريخية المبكرة " كفاح طيبة" (1944)، سواء بوصف مظهرها أو بوصف سمة الصبر التي تتسم بها، فهو يلقبها بالام الصابرة.
لا بد لنا هنا من التنويه إلى ان الأم في "بداية ونهاية" لا تعرف باسمها فالقارئ لا يعرفها إلا بصفتها المميِّزة - الأمّ - حتى لكأن أصبحت هذه الصفة ممثلةً لشخصية الام على حقيقتها كاملةً فإن معنى الامومة ينعكس بها.)
في رواية " القاهرة الجديدة " التي صدرت عام 1946، نجد نموذجا آخر لما أسميته ب(الاب العاجز)، حيث نرى الاب في هذه الرواية غير قادر على دعم ابنه الطالب في الجامعة، بسبب مرضه الذي أقعده، وكذلك نقرأ في رواية "خان الخليلي" (1945) ان الاب الذي كان موظفا صغيرا قد أُجبر على التقاعد لفشله في اداء وظيفته فأصبح شخصا منعزلا غير قادر على اعالة أهله، وبينما يضطر الابن الاكبر ان يقوم بدور المعيل، تدير الام كل شؤون البيت.
وفي رواية أخرى هي رواية " السراب " (1948) ينشأ بطل الرواية دون أب، حيث يتطلق الوالدان قبل ولادته، وهو في بطن أمه، ونفس الظاهرة نلقاها في رواية أخرى، وهي الرواية الرمزية " الطريق " (1964)، والتي صدرت بعد ست عشرة سنة بعد " السراب"، حيث يختفي الاب قبل ولادة الابن تاركا زوجته الحامل، اما في رواية " الشحاذ " فيترك الاب عائلته في بحث عقيم عن النشوة الغيبية وعن سرّ الوجود، تاركا زوجته حاملا لتتولى شؤون البيت ورعاية ابنتيهما ثم ابنهما الذي تلده والاب غائبا.
اما ربة البيت في رواية " الباقي من الزمن ساعة " فهي التي ترعى العائلة وتحافظ على وحدتها، بعد ترك الاب للبيت للعيش مع زوجته الثانية، وما يقره معظم النقاد والباحثين هو ان هذه الرواية هي قصة كنائية (أي أليغورية) عن تاريخ مصر من ثلاثينيات القرن الماضي، إلى ما بعد اتفاقيات كمب ديفيد بين مصر وإسرائيل في سنة 1978 وانّ الام سنية تمثل مصر.
في كل هذه الروايات يوصف الاب بانه يفتقد المسؤولية , اناني، تائه ضائع، غير ملتزم بواجباته، يفتقر للرسوخ الاخلاقي والروحي والنفسي، والاسوأ من ذلك ان الاباء في هذه الروايات يتسببون بالمآسي لعائلاتهن بتمسكهم الأعمى بالعادات الاجتماعية المألوفة في مجتمعهم وبالتقاليد البالية. على سبيل المثال أذكر الجد في رواية " السراب " الذي يزوج ابنته من رجل تافه وزير نساء، لانه من عائلة كبيرة ومشهورة، وبذلك يفرض على ابنته حياة تعيسة بائسة، وفي رواية " بداية ونهاية" يتضح للقارىء ان الاب الراحل قد رفض استمرار ابنته في الدراسة بعد المرحلة الابتدائية، وهذا القرار كان من الاسباب الرئيسية التي أدت الى انحلالها الاخلاقي وفي النهاية الى انتحارها.
وتظهر المقارنة العكسية بين الاب والام بكل وضوح في ثلاثية نجيب محفوظ، صحيح أن في البداية تبدو صورة السيد أحمد وكأنها تتنافى مع طرحي السابق عن صورة الاب العاجز الغائب، لان السيد أحمد يظهر في البداية شخصا قويا وتاجرا محترما، وهو الحاكم المستبد بكل شؤون عائلته، ولكن مع مرور الزمن وتقدم أحداث القصة، تتضاءل صورته شيئا فشيئا من عدة نواحي، هذا الاب الذي يفرض على زوجته وعلى أبنائه وبناته الانضباط وفق قواعد سلوكية تقليدية صارمة، هذا الاب نفسه يمضي الليالي في سهرات ماجنة، مؤديا دور المسلم المتمسك بالدين نهارا ودور السكير الماجن الفاسق ليلا، ومع الزمن تنكشف حقيقة سلوك هذا الاب المستبد أمام ولديه، كما ينكشف لهما ان مركزه الاجتماعي أدنى مما كانا يتوهمان، ومن الجهة الاخرى، أمينة الام تصبح تدريجيا أكثر استقلالا, وتخرج لزيارة ابنتها المتزوجة وللتعبد في مسجد الحسين، ففي نهاية الرواية نشهد انقلابا تاما للادوار، اذ نرى أن الام صارت تقضي ساعات طويلة خارج البيت للقيام باعمال البر والتقوى بينما نشاهد الاب لا يفارق مضجعه فأنه قد مرض وأصبح شبه مشلول، فها هو الآن الذي ينتظر عودة زوجته من زياراتها العائلية ومن المسجد.
انما الام الصابرة والمتواضعة هي الشخصية التي كسبت حب الاولاد واحترام الجيران كما تحظى أيضا بتعاطف القارىء. وقد كشف كاتبنا في عدة مقابلات صحفية ان صورة الام في الثلاثية مستوحاة من صورة والدته، بينما يصر على ان والدته لم تبق حبيسة الدار مثل الام أمينة في الثلاثية.
يجدر بنا أن نؤكد انّ للسيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية دورا أكبر من دور الاب الميت في "بداية ونهاية"، والذي يعيش فقط في ذاكرة العائلة، ولكن بالرغم من هذا الاختلاف بين الشخصين فان لكليهما بعض الصفات المشتركة، ففي الحالتين نجد ان الابناء يكتشفون تدريجيا انهم كانوا قد بالغوا من قيمة وشأن الاب اجتماعيا، هنالك وجه شبه آخر بينهما إذ أنّ كليهما - السيد أحمد في "الثلاثية" و كامل أفندي علي في "بداية ونهاية" - منعا بناتهما من المضي في الدراسة.
صورة الاب القوي المستبد هي المحور المركزي في مبنى رواية " أولاد حارتنا"، حيث ان الاب جبلاوي هو الممثل الرمزي: أو الكنائي، لله تعالى، ولكن جبلاوي هو الاخر يتسبب بخيبة أمل لاولاده وأحفاده، حيث يتخلى عن الاهتمام بشؤون الوقف ويعتكف في البيت الكبير غير مبال بما تعانيه عائلته على مر الاجيال.
اذًا يبدو ان نظرة نجيب محفوظ الى النساء وبشكل خاص الى الامهات منهن هي اكثر تعاطفًا من نظرته إلى الرجال، وفي كثير من رواياته نرى ان الرجال يتسمون بصفات سلبية، منها الانانية، التكبر، الاعجاب بالنفس، المجون وعدم الالتزام، وعلى النقيض، كثيرا ما يصف النساء كنماذج للصبر وللاخلاص اللامتناهي للعائلة، ورسم نجيب محفوظ شخصياته النسائية وكأنها تشخيص لبلاد مصر وللشعب المصري، وأما شخصيات الرجال فإنهم يمثلون القوة والسلطة المستبدّة في العائلة وفي الدولة.
ذكرت في مقال سابق وهو (نجيب محفوظ: ما ظهر من الاسم وما خفي) أن كاتبنا فضَّل من سن مبكرة، وهو طالب في المدرسة الثانوية، ان يُعرِّفَ نفسه وان يوقّع على أوراقه باسمه الشخصي نجيب محفوظ، وأن يكتم اسمَهُ الكامل نجيب محفوظ عبد العزيز حاذفا إسمَ والدِهِ (عبد االعزيز). ولعل ما أظهرنا هنا من نظرة محفوظ السلبية إلى دور الاب في حياة العائلة من شأنه أن يلقي المزيد من الضوء على قرار الشاب نجيب محفوظ بتجنّب ذكر أبيه.

* مناحم ميلسون
البروفيسور مناحم ميلسون هو أحد أساتذة قسم اللغة العربية والأدب العربي في الجامعة العبرية في القدس وقد شغل منصب عميد كلية الآداب في هذه الجامعة من سنة 1991 الى سنة 1997. له كتاب عن نجيب محفوظ باللغة الإنجليزية بعنوان: Najib Mahfuz: The Novelist-Philosopher of Cairo (أي "نجيب محفوظ: الروائي- الفيلسوف من القاهرة"). ومن مؤلفاته أيضا تحقيق كتاب آداب المريدين لأبي النجيب السهروردي وكتاب آخر بالإنجليزية عن آداب المريدين في التصوف بعنوان: A Sufi Rule for Novices. في يوم الأحد 8/12/2011 ألقى البروفيسور مناحم ميلسون محاضرة في الكلية الأكاديمية العربية للتربية في حيفا - غياب الاب وبقاء الام: ظاهرة متكررة في عالم نجيب محفوظ

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
غياب الأب وحضور الأم
سمير حاجّ -

المقالة رصينة وغنيّة مكتوبة بأسلوب علميّ،فيها لفتات إبداعية وتجديدات لم ينتبه إليها ،من قبل دارسو نجيب محفوظ.والمعروف عن أستاذي بروفيسور ميلسون أسلوبه الشائق والمثير في التدريس الأكاديميّ عدا عن طريقته الجادّة والعميقة في البحث والتحليل والاستنتاج.وقد كان سبّاقا في تمحيص وتحليل نصوص نجيب محفوظ وتفكيكها،ومن لفتاته الأخرى في هذا المضمار ،الانتباه إلى مدلولات أسماء شخصيات رواياته، بأنّها على النقيض من سلوكهاوميزاتها في العمل التخييليّ خاصة في "اللص والكلاب". لقد قدّم للأدب العربيّ دراسات مثيرة في الصوفية وأدب محفوظ والرواية والقصّة العربية الحديثة يشكر عليها،لأنّها تشكّل رافعة ومرجعا هاما للبحث الأدبيّ الجادّ.

غياب الأب وحضور الأم
سمير حاجّ -

المقالة رصينة وغنيّة مكتوبة بأسلوب علميّ،فيها لفتات إبداعية وتجديدات لم ينتبه إليها ،من قبل دارسو نجيب محفوظ.والمعروف عن أستاذي بروفيسور ميلسون أسلوبه الشائق والمثير في التدريس الأكاديميّ عدا عن طريقته الجادّة والعميقة في البحث والتحليل والاستنتاج.وقد كان سبّاقا في تمحيص وتحليل نصوص نجيب محفوظ وتفكيكها،ومن لفتاته الأخرى في هذا المضمار ،الانتباه إلى مدلولات أسماء شخصيات رواياته، بأنّها على النقيض من سلوكهاوميزاتها في العمل التخييليّ خاصة في "اللص والكلاب". لقد قدّم للأدب العربيّ دراسات مثيرة في الصوفية وأدب محفوظ والرواية والقصّة العربية الحديثة يشكر عليها،لأنّها تشكّل رافعة ومرجعا هاما للبحث الأدبيّ الجادّ.