ثقافات

"غازات ضاحكة".. برقيات شعرية بخواصّ الضوء

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

رحاب القوصيني: في ديوان "غازات ضاحكة" للشاعر المصري شريف الشافعي (الأعمال الكاملة لإنسان آلي2، دار الغاوون، بيروت، 2012)، يجد القارىء نفسه أمام نصوص تفاجئه بدهشة طازجة، وتلح عليه بالمزيد من الإعادة والتركيز والتمعن والتأمل، سعيًا لالتقاط مقاصد الشاعر الغائرة في تضاعيف نص مكثف مشبع بالمعاني الزاخرة بالعمق، الفائضة بالفطنة.
الغاز الضاحك، كيميائيًّا، هو أكسيد النيتروز، وهو من مواد التخدير في العمليات الجراحية، مفعوله فوري، يقود عضلات وجه المريض إلى ما يشبه البهجة والضحك غير المتحكم فيه، لكنه ضحك بلاستيكي صناعي جامد، لا يعكس حقيقة شعور الإنسان.
يقول الشاعر (بلسان الروبوت الراوي) في الإهداء المطوّل: "إلى رادارِ الألَمِ، الذي أرشدَني إلى معسكرِ السُّوسِ، في ضرسِ العقلِ الإلكترونيّ/ إلى مخدِّرٍ فوّاحٍ، شدّ عظامَ فكّيَّ في غرفةِ العمليّاتِ، وأصابَني بهيستيريا المرحِ المصطنعِ/ إلى ابتسامةٍ جبريّةٍ، بلونِ القطنِ الطبّيِّ، وصلتْ برودتي ببرودةِ زوّاري الْمُعَقَّمين، وفرّقتْ بين شفتيَّ المشتعلتيْنِ/ إلى غيبوبةٍ كاملةٍ، حرَّرتني من البرامجِ الجاهزةِ، أطلقتْ أغصاني وأوراقي الخضراءَ في اتجاهِ جاذبيّةِ الأرضِ/ إلى هَلْوَساتٍ إنسانيّةٍ فريدةٍ، وجراثيمَ متمرّدةٍ، فرّتْ من خلايايَ البيضاءِ والحمراءِ، لَمْ تنتبهْ إليها صفّاراتُ الإنذارِ في المستشفى/ إلى موتٍ واحدٍ، أقوى من أجهزةِ الإعاشةِ، أكثرَ حيويّةً من أرواحٍ محبوسةٍ في أقفاصِ العصافيرِ، في أحواضِ الأسماكِ، في صالاتِ ترويض حيواناتِ السّيرك/ إلى (أنا)، حينما أنظر إلى المرآةِ، بعيون زجاجيّةٍ، فلا أرى أحدًا/ إلى (أنا)، حينما تنظرُ إلَيَّ المرآةُ المتهشّمةُ، بعيونٍ بَشَريّةٍ، فترى كلَّ شيءٍ، ويعود العالَمُ".
إنه ينشيء تجربته من عالم شعري خاص يتسم بالغرائبية والسوريالية، يشتبك فيه مع عوالم التكنولوجيا الحديثة ويناوشها ويحاورها ويجادلها، دون نأي عن الجمالية واليقظة الشعرية والقدرة الكامنة على شد القارئ واجتذابه، من خلال هتافات إنسانية تلهج ببوح يحاكي النفس البشرية، جمعية كانت أو فردية، في طيوف أعبائها وعنائها وابتئاسها، يقول: " آه أيتها العصافيرُ، أيتها الأفكارُ الفسفوريّةُ، عندي ألفُ نافذةٍ لإطلاقكِ، لكن الفضاء كلّه مرعبٌ".
يأخذنا الشاعر في نصوصه، التي تجاوزت الخمسمائة وتحمل أرقامًا لا عناوين، يأخذنا عبر فكر فلسفي جدلي إنساني حياتي وجودي عميق، يراوح ما بين الرؤية العدمية للوجود، وما بين نثار من بوارق أمل ترشح من فطرة مرحة، مزودة بقدرة عالية على السخرية من الذات والكائنات والموجودات وطبيعة الحياة الراهنة الكابية الصقيعة، بعلاقاتها الإنسانية المنشاة الجامدة، فهو يجرد الواقع من أغلفته ليظهره عاريًا تمامًا مفضوحًا بكل عيوبه ونواقصه: "ما بالُكِ كزهرةِ الوقتِ، لا يمكنُ ادّخارُ رحيقِكِ للغد؟/ ما بالي كالساعةِ الرمليّةِ، لا أستطيعُ السيطرةَ على حمولتي، من أزهارِ السيليكون الصفراءِ؟/ كيف تلاقَى ظلانا، خلف عمودِ الإنارةِ التالفِ؟!".
وكما برقيات تومض بسرعة الضوء وخواصّه، وتزخر بعمق المعنى ودلالاته، يبوح الشافعي بمكنوناته حيال واقع هش متهالك سادر في غيه، يجول في دواخله، يتقصى العوالم المتعددة من حوله في انتباه مثير، وتفحص مكين، وتأمل لماح. أما جمله الشعرية فتترى برشاقة لافتة محملة بذخيرة من الأهداف والأفكار والصور، في بساطة مذهلة وعفوية آسرة وصدق يخطف العقول والقلوب . هو يكتب من مخزون ذاكرته المشحونة، ماضيًا وحاضرًا، ولا ينفك يواصل النحت في النفس البشرية، فردية وجمعية، بادئًا بنفسه، إذ يجول بإصرار في طياتها، ويكشف عنها: "في منقارِ كلِّ طائرٍ: قطعةٌ من فصوصِ مُخِّي/ كلما شردَ طائرٌ عن السّربِ، قلتُ: "هذه ومضةٌ نفيسةٌ من هَلْوَسَاتي".
يجترح الشافعي لنفسه فضاءً شعريًّا مختلفًا ومتمايزًا، بل ومغايرًا للسائد والمألوف والاعتيادي، فتجربته رائدة خصبة ذات فرادة نوعية لعل أحدًا لم يطرقها من قبل. وعلى الرغم من أن قصيدته ترتدي مفردات العصر ومحدثاته وتقنياته وعوالمه التكنولوجية، لا سيما الافتراضية منها، فإنه يغوص في عمق النفس البشرية بشغف مستنير، حيث تنساب صوره الشعرية مكثفة المعاني سلسة عفوية تلقائية. هو السهل الممتنع بعينه، بما يفيض من حراك ذهني مؤتلق، وجنوح إلى كوميديا سوداء دالة ومعبرة تارة، ثم إلى وعي حاد ببؤس الواقع تارة أخرى، إنه يرى الحياة تنهشها الآفات ومدارج التهاوي والتهالك والجمود والبلادة، يقول: "ستبدأ سعادتي الحقيقية، بمجرد أن أدرك: أن الحزن ما زال ممكنًا".
والشاعر يقارب المرأة بالجمع بين حميمية فطرية لها واستنشاق لأنوثتها، بفيض من شغف ولهفة معًا: "المسكونُ بكِ ساكنٌ في الطمأنينة". ويظل ينظر إليها كقيمة عالية، إذ يكون فيئًا لها، وتبقى فيئًا له: " لو صِرْتِ لي سَكَنًا، لما بقيَ لي بَدَنٌ/ لو صِرْتُ لكِ سكنًا، لما اتسعَ لي سكنٌ".
إن ما يميز الشافعي ويثري شعره ويسبغ عليه قيمة فنية خلاقة وأخلاقية أنه زاهد في الفخامة وبذاخة الصيغ والاستعراض المبهرج، هو معني بملامسة المعنى وتحسسه والدخول في صلبه تفتيشًا وتفكيكًا، ثم بسطه على نحو تلقائي، نائيًا بالمطلق عن التكلف والمصانعة و(البوزات) الدرامية الجوفاء، والتي غالبًا ما ينشغل بها غيره، عازفين عن أسئلة جوهرية في معاني الحياة والوجود، ثم العدم كوجود آخر، يقول: "وحده العدم يعرفُ الإجابةَ: ماذا بعد سلةِ المهملاتِ الذكية؟".
إن بوح الشافعي يطلع من غفو النفس وصحوها، من وعيها ولا وعيها، المعاني تنفر من مكامن صدق صادم، ومواطن أمانة شفيفة، يعتلج بقلق فطن، ينوء بأثقال الواقع ووجع كائناته وبؤس أزمنته وشقاء أوقاته: "أعطيني ورقةً بيضاءَ/ سأرسمُ صورتكِ بأمانةٍ/ وستبقى الورقةُ بيضاءَ".
شكرًا شريف الشافعي، "الأعمال الكاملة لإنسان آلي" تجربة حية ورائدة في الشعر العربي، نطمح أن تواصل مسيرتها بفرادتها المشعة، بلوغًا لأوجها المستحق.

bull;غازات ضاحكة (الأعمال الكاملة لإنسان آلي2)
bull;شريف الشافعي
bull;شعر، 572 صفحة، القطع الصغير
bull;ط1، دار الغاوون، بيروت، يناير 2012


(*) رحاب القوصيني، عضوة الهيئة العامة لرابطة الكتاب الأردنيين
rehabq@maktoob.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف