ثقافات

المجد للثلاجة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


-1-
الجو بارد.. بارد جداً..
بحثت عن نظارتي اليوم صباحا فاخبرتني ابنتي انها في الثلاجة.. أسرعت الخطى إلى الثلاجة فلم أجدها في مكانها المعتاد على يمين طاولة المطبخ.. نسيت أمر النظارة وأخذت أبحث عن الثلاجة فأخبرتني زوجتي أن الجيران استعاروها بالامس لأنهم فقراء ولا توجد لديهم ثلاجة يضعون فيها كيلو اللحم الذي اشتروه بعد عناء.. انهيت ارتداء ملابسي و نزلت أبحث عن السيارة.. أين صففتها بالأمس.. أين؟؟-يوووه- لقد سئمت ذاكرتي المكانية اللعينة.. أخبرني جاري الفقير الذي استعار الثلاجة أنه رأى سيارتي في غرفة البواب يستعملها كسرير لأولاده الخمسة بعد أن أنجبت له زوجته توأما ليلة أمس.. نسيت أمر السيارة وسألته عن الثلاجة فاحمر وجهه و لم يكترث لسؤالي ومضى يردد بغضب (حرام عليكوا.. ده كيلو لحمة.. لحمة يا ناااس) شعرت بحرج شديد وغمرني العرق.. غمرني جدا.. جدا.. جدا.. الطقس بارد.. بارد جدا.. جدا.. جدا -أتحث إلى نفسي كما العادة.. كثيرا ما اتحدث إلى نفسي فهي الوحيدة التي يمكن ان تسمعني دون مشادات و مشاجرات ووجهات نظر وجدال ووجع قلب.. إذا سألوح لتاكسي و بعد عناء يتوقف السائق وبقرف يسألني عن وجهتي، و تبدأ المناهدة للاتفاق على الأجرة وهو يذل أنفاسي بالمشوار الطويل الذي ستقطعه سيارته المصون مرورا بالمطبات و البالوعات والاشارات و المطالع و المنازل و الملفات والكباري و الزحام و الاعتصامات والمظاهرات التي ستجبره على تغيير مساره ليدخل من بين الحواري و الأزقة و الشوارع الضيقة ثم يقطع كلامه ليخشن صوته (ما تخلصنا يا أستاذ.. عايزين نشوف أكل عيشنا) وفي النهاية أجلس جواره فيتحف رأسي طوال الطريق عن زوجته التي حرقت دمه (ع الصبح)حتى أنه غادر بيته تاركا خلفه طبق الفول المعتبر بعد ردحهاالمعتاد عن ايراد التاكسي الاسود الذي لم يعد يكفي لشراء كيس جوافة واقتراحها الجهنمي بتغييره إلى تاكسي أبيض ثم ينعطف بي يمينا على الدوري العام والحكم الحمار الذي احتسب ركلة جزاء غير صحيحة و اللاعب ابن الكلب الذي أضاع هدفا محققا و المدرب الغبي الذي ابدل اللاعب الفلاني باللاعب العلاني وفي النهاية يسب هذا وذاك ثم يعزم علي بسيجارة وينعطف بي يسارا و يسألني عن رأيي في الثورة و (العيال بتوع التحرير) ولا ينتظرفيصعد بي على عجلة الانتاج والبورصة و حال البلد الضائع و سقوط الدولة و العسكر و الشرطة و الاخوان و السلفيين والاقباط و الاحزاب و الفلول و الانتخابات و البلطجية والعصابات و المحاكمات.. مهلاً.. مهلاً.. إنه يقول : ثورة؟.. محاكمات؟.. بلطجية؟.. عصابات؟! أسائل نفسي مذهولا من وقع الكلمات الجديدة. السائق أنفه كبير.. كبيرجدا.. الجو بارد.. بارد جدا..
إذا فلن أذهب إلى العمل اليوم وسأصعد إلى شقتي في الدور السادس أو الرابع أو الحادي عشر على ما أذكر.. سأرتدي البيجامة و البورنس و الطرطور وأصنع لنفسي فنجانا من الشاي و أجلس أمام التلفاز أتفرج على الناس من بعيد.. بعيد جدا.. قاطعني البواب الذي استعار السيارة بأن المالك نقل السلم و المصعد إلى عمارته الجديدة لأن سكانها يدفعون أكثر و ترك لنا حبلا نتسلقه في الصعود و النزول.. لم أهتم بما قاله و سألته عن السيارة فاحمر وجهه و انتفخت عيناه ومضى يردد بغضب (دول سبع عيال و أمهم... سبع عيال وأمهم يا عااالم ).. البواب رأسه كبيرة.. كبيرة جداً.. وقفت أمام الحبل و وضعت يدي على كرشي المتهدل ونظرت لأفخاذي الملتصقة وتحسست أردافي المنبعجة وتراجعت إلى الخلف قليلا لإحداث قفزة توافقية استعيد بها لياقتي المحطمة منذ سنوات طوال.. لكني توقفت عندما تفاجأت بزوجتي تتدلى من الحبل و تضع قدمها الأخيرة على الارض لانهاء الهبوط.. كانت ترتدي بيجامتي الحرير و بورنسي النبيتي وطرطوري الأخضر و تحمل في يدها حقيبة سفر.. زوجتي نحيفة.. نحيفة جداً.. لا أكاد أراها تحت الأغطية الشتوية الثقيلة.. لم تعبأ بوجودي و بخطوات سريعة غادرت العمارة وهي تبرطم بكلمات لم أفهمها.. دائما ما تبرطم بكلمات لا أفهما.. زوجتي أٌقدامها كبيرة.. كبيرة جداً..
تراجعت للخلف مرة أخرى و ملأت رئتي بالهواء و كتمت أنفاسي و ابتلعت كرشي و قررت القفز.. قفزت بالفعل.. يحملني الهواء الآن... يدي تمتد.. ينتصب جسدي.. ترتعش أًصابعي.. أين الحبل؟ الحبل؟ إنه مرسوم هناك على الحائط، قبضت على الهواء.. شيء ما يرتطم بالأرض،الدماء تسيل من رأسي.. رأسي كبيرة.. كبيرة جدا.. لفظت أنفاسي الأخيرة.. لم أعبأ بالأمر كثيراً..
أخبرني مالك العمارة انني لايمكن ان افارق الحياة قبل أن اسدد الايجار، و ادفع رسوم صيا نة المصعد و اجرة الزبال و اكرامية البواب و فواتير الكهرباء و الماء و النظافة و الغاز و الضريبة العقارية، فقاطعته و بلهجة باردة نطقت(ثورة.. ثورة.. ثو.. صو.. صو!) فهاج وماج و ضرب رأسه في الجدار مرتين أو خمس مرات -لا اذكر- واخذ يقفز كأنثى الشمبانزي ثم شرع سبابته في وجهي (الثورة دي هناك في التحرير مش هنا في عمارتي.. فاهم؟ ) أنزل سبابته و تقدم نحوي بغيظ، جاذبا الحبل المرسوم على الحائط و لفه حول عنقي و تركني اتدلى.. اتدلى جدا.. ثم رحل تاركا خلفه قهقهات لزجة.. ورائحة غريبة..
في جنازتي العسكرية أسير خلف نعشي.. خلف نعشي تماما - لم أكن ضابطا في الجيش يوما ما و لا حتى أديت الخدمة العسكرية - ربما أنا بطل الآن يعرفه الجميع و تتناقل صوره نشرات الأخبار و تعقد حوله الموائد في برامج (التوك شو) و تلصق صوره على الجدران و عربات الكشري و البطاطا و المدمس و الذرة، وربما تجدها مع الباعة الجائلين في ميدان التحرير والمقاهي و الاشارات و التكاتك و الميكروباصات و اتوبيسات النقل العام، و ربما يتبرع أحدهم ليرفعها على أعمدة الكهرباء في الشوارع و الحواري و الطرق و الكباري و الميادين.. أبكاني المشهد جدا.. الكل يضحك.. الكل يسخر من نعش لفوه في ورق السوليفان ووضعوا فوقه شريطا أحمر ثم ألقوا به على عربة مدفع..
في جنازتي..
أرى زوجتي ترتدي بيجامتي الحرير و بورنسي النبيتي و طرطوري الاخضر.. وأرى جاري الذي استعار الثلاجة من أجل كيلو اللحم الذي اشتراه بعد عناء يحمل ثلاجتي فوق رأسه.. وأرى بواب العمارة الذي استعارالسيارة من أجل أن يستخدمها لأولاده الخمسة بعد أن انجبت له زوجته توأما ليلة أمس يجرسيارتي خلفه.. المجد للثلاجة.. المجد للسيارة.. المجد للطرطور-هكذا كانوا يهتفون- عاش مجنوناً و مات بطلاً-هكذا كانوا يهمسون- الجو بارد.. بارد جداً.. وضعت ابنتي النظارة فوق نعشي و قبلتني على رأسي و غابت بينهم..

-2-
الجو بارد.. بارد جداً..
عندما عدت من جنازتي ليلا سمعت أخبارا تملأ العمارة عن جارتنا التي وضعت بيضة كبيرة هذا الصباح، البيضة ضخمة جدا.. جدا.. جدا كأنف سائق التاكسي و رأس البواب و أقدام زوجتي.. البيضة داخلها رئيس جديد، تأكدنا من ذلك بعد أن رأينا خاتم النسر المطبوع على جانبها الأيمن.. إذا فقد صدقت النبوءة التي وردت في دستور البلاد القديم.. "يوما ما ستضع امرأة فقيرة بيضة ضخمة جداً داخلها رئيس جديد.. فأكثروا من فولكم و عدسكم و بصلكم و خبزكم لأنه سيأكل كل شيء "..
في مانشيتات الصحف المسائية أو الصباحية أو صحف الأسبوع الماضي لا أذكر:
- "ثري عربي يقدم عرضا لشراء البيضة بعشرة مليارات دولار..
- الأمم المتحدة تعلن عن ارسال فريق من الخبراء لفحص البيضة.
- أمير قطر يتقدم بطلب للمجلس العسكري باستضافة البيضة في قصره.
- اسرائيل تعرب عن قلقها على مصير معاهدة السلام .
- السلفيون يصدرون فتوى بتحريم أكل البيض.
-الإخوان يقومون ببناء مزارع للدجاج في جميع أنحاء البلاد.
- وزيرة الخارجية الأمريكية تزور مصر للرقد على البيضة لعدة ساعات.
كانت زوجتي في استقبالي عندما قررت الدخول إلى شقتي من شباك المطبخ، بعد أن أغلق مالك العمارة الباب الرئيسي بالطوب الأحمر إثر موتي.. أخبرتها أنني جائع.. جائع جداً، فمطاعم القبور لا تقدم وجباتي المفضلة.. فتحت الثلاجة و أخرجت برطمان مربى بذر الكتان التي أعشقها-أعشقها أكثر منها بالطبع-وصنعت لي (ساندويتش) واحد فقط.. هي تعلم جيدا أن (ساندويتش) واحد لا يكفيني أبدا.. فقط هو يمر على كرشي مرور الكرام.. قصصت عليها حكاية جارتنا التي وضعت بيضة ضخمة داخلها رئيس جديد.. لم تصغ لحديثي وصنعت (ساندويتش) كبير.. كبير جدا.. هي تعلم جيدا أنني في حاجة إلى (ساندويتش) آخر.. وآخر.. و آخر وضعت عليه الملح و الفلفل و الكاتشب الحار وحشرت داخله المخلل وقبل أن أمد يدي لإلتقاطه من يدها سبقتني إليه بقضمتين متتاليتين.. التهمته عن آخره.. وتركتني أتحسر. فكل شيء يمكن أن ينتهي بقضمتين متتالتين بين أسنان زوجتي.
عدت لأقص عليها حكاية جارتنا التي وضعت بيضة ضخمة داخلها رئيس لعلها ترأف بحالي و تصنع لي (ساندويتش) آخر، لم تصغ لحديثي، و وضعت برطمان المربى فوق رأسي.. المربى التي أعشقها -أعشقها أكثر منها بالطبع- وأمرتني أن أرحل قبل أن يستيقظ زوجها الجديد فيغضب عندما أراه نائم في سريري و يرتدي بيجامتي الحرير و بورنسي النبيتي وطرطوري الأخضر.. نظرت للثلاجة و طلبت منها أن استعيرها كما أعارتها لجارنا الفقير كي أضع فيها برطمان المربى التي أعشقها-أعشقها أكثر منها بالطبع- فألقت بي سريعا من الشباك عندما سمعت صوت زوجها الجديد يصرخ فيها من غرفة نومي طالباً العشاء.. لم أكن أصرخ في وجهها أبداً لأطلب العشاء كما يصرخ هذا الأحمق اللعين..

في الشارع كانت صورا تنتشر للبيض الرئاسي في كل مكان.. صورة لبيضة بلحية وجلباب.. صورة لبيضة بشورت وفانلة وكاب.. صورة لبيضة بملابس راقصة.. وصورة لبيضة ببدلة عسكرية.. وصورة أخرى لبيضة تبتسم.. فقط تبتسم و لا ترتدي أي شيء.. إذا فمن أي بيضة سيخرج هذا الرئيس الجديد؟!
لم أعبأ بالامر كثيرا و رحت أبحث عن برطمان المربى التي أعشقها.. أعشقها أكثر من كل هذا البيض بالبطع..
الناس في الشارع يسيرون على رؤوسهم.. يسيرون على رؤوسهم الناس في الشارع.. أنا فقط من يسير على قدمين.. كل الأِشياء أراها مقلوبة.. أو معدولة.. ولا أذكر كيف كانت عليه من قبل.. يصرخ أحدهم من بعيد بأن الناس في مديدان التحرير يسيرون على أقدامهم.. الناس في التحرير يسيرون على أقدامهم.. ربما تكون كارثة كبيرة.. كبيرة جداً.. جدا.. جدا.. في تلك اللحظة أخبرني البقال الذي اشترت منه زوجتي برطمان المربى التي أعشقها-أعشقها أكثر منها بالطبع- بأن العسكر يقبضون على كل من يسير على قدمين.. أنا مجرم كبير إذا وليس أمامي إلا أن أسير على رأسي مثلهم.. أو أن أرحل من هنا تاركا خلفي كل شيء.. زوجتي وابنتي وسيارتي وثلاجتي و برطمان المربى التي أعشقها.. أعشقها أكثر من هؤلاء العسكر بالطبع..

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف