شكري: "إرث حدّاد سيبعد الجزائر عن الحتف الجماعي البليد"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كامل الشيرازي من الجزائر: يشدّد الأديب والباحث والمترجم الجزائري البارز "شرف الدين شكري على أنّ استكشاف أعمال مواطنه الراحل "مالك حدّاد" سيبعد الجزائر عما يسميه "الحتف الجماعي البليد".
في مقابلة خاصة بــإيلاف، يبرز شكري نمطية شخوص حداد الأدبية، فهي شخوصٌ منبِّهة تستبق وقوع الزلازل البشرية، وتحسن تحصين جمهورها، فيما يلي النص الكامل للمقابلة:
bull;ستصدر لكم قريبا الترجمة الكاملة للأعمال الشعرية للكاتب والشاعر والصحفي الجزائري الكبير "مالك حداد" (1927 - 1978) .. لماذا اخترتم الاشتغال على إرث حدّاد الذي سبق وأن تُرجمت أعماله إلى 14 لغة؟
-هذا العمل هو امتداد لاشتغالي الدؤوب على مالك حدّاد، والذي امتدّ عبر عقدين من الزمن، جاء بعد كتابين هما: "الحياة هي دائما موت أحد ما" دراسة أركيولوجية حول أعمال حدّاد، حيث سلّطتُ الضوء على الراحل من وجهة نظر منهجية خالصة، مستعينا في ذلك بالمنهج الأركيولوجي لميشال فوكو، وهي أول دراسة عربية في ميدان علم اجتماع الفن اعتمادا على هذا المنهج، سنة 1997، والتي صدرت فيما بعد سنة 2009.
ثمّ : "التلميذ والدّرس"، وهي ترجمة لأحد الأعمال الروائية لمالك حدّاد، التي اكتمل فيها الإبداع شكلا ومضمونا لديه، كما لم نر ذلك في كل أعماله الروائية الأخرى، وجاءت
طبعا العمل على إرث مالك حدّاد، صعب جدا جدا، نظرا لما يتطلبه من إنزال قسري للروح على عوالم هذا الكاتب التي لم تخرج عن الفضاء الشعري في كل ما كتبه ،حتى ولو كان على شكل رواية أو نقد.
عملي الأول المذكور أعلاه عنه، كان محاولة مني للتخلص من هيمنة النص الجميل، ولكنني اكتشفت مع الوقت بأن الجمال حين يستأثر بأرض ما، لا يتركها إلا ويأتي عليها كاملة!، مما جعلني أمارس جرم ترجمة عمل روائي له، هو في الصنعة الفنية بما لا نقابله ربما إلا مرة واحدة في مشوارنا الأدبي، منها تلك الأعمال الشعرية التي توّجَت ورشة أعمالي عنه حتى الساعة.
bull;كيف تقاربون التجربة السريالية الشعرية لحدّاد، سيما مع تصنيفها من لدن نقاد كأثر متفرد من نوعه عربيا؟
-كنت سنة 1997، أول من فتح هذه النافذة التي لم ينتبه لها النقد الجزائري ولا العربي من قبل، مما أوقعني في الكثير من الصراعات الأكاديمية مع بعض أساتذتي بالجامعة، انتهت بصدور كتابي عن هذه النقطة تحديدا، وبالإقرار فيما بعد بذلك لدى الكثير من الباحثين والنقاد بهذه النقطة تحديدا.
وحينما وجدتُ بأنّ هذه النقطة بحاجة إلى المزيد من التوضيح، لجأت إلى ترجمة العمل الرئيس الذي يثبت ذلك، وهو :"أنصت، وسأناديك"، حيث نعثر على نصوص تحمل أول تجربة سوريالية عربيا تمّت غربلتها وقراءتها بشكل كبير من قبل مدرسة الشعر الفلسطيني، ثم تحويرها على هذا الأساس في العديد من الآثار المعروفة، والتي للأسف الشديد لا تقرّ بمصادرها الأصلية.
طبعا، لن نذم تلك التجارب التي ذهبت أحيانا إلى استيراد روح مالك حداد في كتاباتها بصور قريبة جدا من تلك التي كتبها مالك حدّاد ذاته، تلك الصور التي ظلت على حالها باللغة الفرنسية ولم تترجم إلى العربية، لأنّ الهمّ الثقافي ربما لرجل الثقافة الجزائرية لم ينتبه إلى ذلك، أو أنه لم يحسن تسويق نفسه كما اعتاد !!! hellip;
bull;هل تتصورون بإمكانية تفعيل تجربة حداد ككاتب أصيل ظلّ يتمتع بسيادة الفعل في المشهد الأدبي جزائريا وعربيا خلال قادم السنوات؟
-صنعة مالك حدّاد الأدبية ليست في متناول القارئ أو الكاتب العادي، هي تتطلب حسّا رفيعا جدا، وموجّهة إلى نوعية خاصة جدا من القُرّاء، قد تجعل من يعجز عن فهم طلاسمها ينفر منها من أول نص، وقد تأسر من يعلَقُ بها إلى الأبد بشكل غريب جدا.
هي صنعة تحمل في طياتها أسئلة وجودية خطيرة وعميقة، قد تزعزع من تكون قناعاته واهنة، لذلك أنا أقول دوما بأنها موجّهة إلى جمهور "منذور"، وليس إلى من يتسلى بقراءة الأدب من أجل تمضية الوقت فحسب.
نص مالك حداد خطير لأنه يحفر في وجود الإنسان عميقا، ويضعه عاريا أمام جوهره، نصُّهُ يمارس نوعا من "الحفر الفني" إن صحّ التعبير، نصه يخلق "تاريخه الداخلي" كما يقول طرابيشي، نصه يفكّك تلك الأسئلة الممنوعة داخل كل إنسان، ويفضحه أمام الحبّ والبياض والبراءة والبساطة البشرية، ولا يعترف بالبطولة إلاّ تلك التي تربض في القلب الشجاع، لذلك أرى شخصيا بأن نصّ مالك هو نص نخبوي، وليس جماهيري.
أما عن تفعيل نصه، فإنّ هذا السؤال يحمل اتجاهين مختلفين: اتجاه التفعيل المؤسساتي، الذي على المسؤولين على الثقافة الجزائرية أن يسعوا إليه من أجل غنى بانوراما الثقافة الجزائرية ككل، لكننا للأسف الشديد نصطدم هنا ببعض المرجعيات الإيديولوجية التي يُسيّرُ بها الفعل الثقافي في بلادنا، والتي تمنع مناقشة وتداول الكثير من كتابات مالك حداد الإنسانية العالية الطراز، والاكتفاء بترديد بعض العبارات الشهيرة الخالية من معناها، والتي جاءت على لسان مالك حول الهوية واللغة، دون أن نعي السياق أو الرابط الفني الذي جاءت فيه صراحة؛ أي أنهم يأخذون من تراث مالك ما يشاءون، ويرمون بباقي تراثه الذي لا يتوافق وإيديولوجياتهم كما يشاءون، الثقافة المؤسساتية عندنا، ثقافة انتقائية، وليست ثقافة تأسيسية لفعل ثقافي واعي ومستمر.
بالنسبة للاتجاه الثاني، فهو التفعيل الفني لأعمال مالك حدّاد، والذي أُفضِّلُ أن أتركه حرا ولا ألزمه بشيء على أساس أنّ النصوص القوية تفرض نفسها مع الزمن، وأما النصوص الظرفية المناسباتية، فمآلها الزوال، كما حدث مع العديد من النصوص التي لطالما تغنّت بإنجازات الإيديولوجيات المتعاقبة، فكان كفنها معدّا سلفا، بنفس توقيت فرْد كفن الظروف التي خلقتها...
يبقى الآن على الخطاب الأكاديمي أن يتحمل مسؤوليته أمام الآثار الأدبية الجزائرية الكبيرة، والتي أغلبها مكتوبة باللغة الفرنسية بحيث صارت أغلب الأجيال الحديثة تجهل التعامل بها حتى في الأوساط الأكاديمية.
لقد دفعنا في هذه المرحلة تحديدا ثمن الصراعات الإيديولوجية الفارغة التي أنشأتها ثقافة الحزب بعد الاستقلال مباشرة، والتي جعلت الفعل الثقافي يحيد عن هدفه الأسمى: صناعة الجمال، وبذلك فقدنا الكثير من هذا التراث الروائي العظيم الذي كان بإمكانه أن يصنع رؤية روائية جزائرية خالصة باللغة العربية،هي امتداد للمدرسة الروائية الجزائرية التي تغنّى بها "جون ديجو" طويلا، ولكننا للأسف الشديد، لم نحسن مواصلة ذلك، فعشنا، ولا زلنا نعيش عالمين مختلفين في الكتابة الأدبية في الجزائر، بينهما فرق شاسع، يمكن الفصل في رفعته بسهولة. نحن نعيش الآن، عالمين منفصلين أدبيا، لا وجه رابط بينهما، وهي علاقة أراها شخصيا، باثولوجية -مرَضية- أكثر منها صحيّة.
bull;عند التطرق لعبقرية صاحب الديوان الشعري "الشقاء في خطر"، ألا ترون أنّ جوانب عديدة لا تزال مجهولة في أدب مالك حداد ما يستدعي الانفتاح على رصيد رجل سخّر قلمه لخدمة ثقافة الأمل..
-هذا تحديدا ما أجبت عنه أعلاه، للإقرار بوجود نوع من الانفصام وليس التكامل في جسد الثقافة الجزائرية، للأسف "أمل" مالك حداد، بالسمو، باللغة الأدبية والإنسان الجزائري إلى رفعة الهوية العربية العالية، لا عن طريق الفصل بينه وبين اللغات والثقافات الأخرى، وإنما عن طريق التكامل فيما بينها، لم يتحقق، ونجحنا فقط في زرع هوية ثقافية عنيفة في انفصالها عن الهويات الثقافية غير العربية. إننا نعيش زمن "هويات متقاتلة" بامتياز في أدبنا الجزائري، يمارسها البعض في لاوعيهم عبر التنشئة التي شبّوا عليها،ويعاني منها البعض،عبر وعيهم النقدي الخارق.
bull;ماذا عن جديد استكشافكم للعمق المعرفي لحداد وتراميزه من حيث بناء الشخوص، المنظومة الشعرية، إشكالية الأنا، وأيضا خصوصية السرد التي حملتها أهم أعمال الراحل، خاصة:"رصيف الأزهار لا يجيب" (1961)، " الانطباع الأخير " (1958) كنموذجين روائيين، وشعرية "سأمنحك غزالة".
-مالك حداد هو سليل المدرسة الجمالية لبيرغسون، هو أيضا زميل وقارئ كبير لبول إيلوار، للمدرسة السريالية وللنظريات الوجودية العميقة التي صاحبَتها، التي هي نتاج أسئلة إنسان نابع من معاناة بين الحربين، وإنسان زحف الآلة والاقتتال والإيديولوجيات الذكية جدا جدا التي وقفت بين عصر الأنوار والمراجعات الكبرى التي لحقته، وعصر القطائع الكبرى، وعصر التفكيك الذي ابتدأه نيتشه، وعصر الأسئلة السيكولوجية الرهيبة التي امتدت من فرويد حتى لكان...
كل هذه الأمور نجد لها رواسب في كتابات حدّاد بفنية وصياغة ذكية جدا، كان عليه أن يتحلى بها من أجل مقارعة الثقافة الفرنسية بمثقفيها، والتي طرح عليها (طابلوهات) - لوحات - منحوتة أدبيا، وطرح عليها أسئلة محرجة جدا جدا في "الأصفار تدور حول نفسها"، أسئلة حضارية، من أجل مساءلة أسئلة حضارة المستعمِر الداحضة للـ"آخر" في أغلب الأحيان.
من هنا، يمكن فهم شخوص مالك حداد، وهي شخوص معرفية في الغالب، أفرزَتها ضروريات المرحلة التي كان فيها الروائيون الجزائريون على قلتهم، ملزمين بتطويعها من اجل تبليغ رسالة بعينها، لحضارة بعينها، ممّا يجعل التراميز مثقلة بهمّ الواجب، ولكن الجميل في هذا، هو أنها كانت في نفس الوقت مثقلة بالهمّ الفني. وهنا تبدر عظمة (المدرسة الجزائرية) للرواية التي تجاوزت الرسالة بمفهومها التجريدي، إلى الرسالة بمفهومها الجمالي.
أمّا عن الأمثلة الروائية التي تناوَلْتَها في سؤالك، فأنا شخصيا،وبعد أن عايشتُ عوالم مالك حدادا لمدة طويلة، أجد بأن كل أعمال مالك كانت
- كُتبت في قالب شعري بامتياز
- في عوالم طرحت نفس الأسئلة حول الهوية اللغوية والتاريخية من أجل استرداد حق طُمِس، وتأسيس مشروع إنسان مؤجل، ثقافيا - وهو مشروع أدبي يستحق الإشادة به، والتنبيه إليه كمرجع مهمّ في الأدب الجزائري.
- نبعت من مراس شخصي للكاتب، جعلته يصدُق في أغلب ما كتبَه،حتى وصل به الأمر إلى أن ينتحر أدبيا، مثلما انتحر أو قضى أغلب شخوص رواياته.
bull;ألا تفكرون في إسقاط بورتريهات حداد الاجتماعية الفلسفية للمجتمع الجزائري، على ما يحدث في جزائر 2012، خصوصا مع مزج نظير كافكا بين آلام روح مرهفة عقدتها هوة اللغة وشروخ مجتمع يتعرض للشللية ..
-حين كنت أشتغل على أعماله الشعرية مؤخرا، اكتشفتُ، وبشكل مؤلم جدا، رفعة الأسئلة الوجودية العميقة التي طرحها حداد على الإنسان الجزائري، وعلى الإنسان بشكل عام فيما بعد، ولكنها كانت مخصصة بشكل مباشر للإنسان الجزائري....
حين كنت أغوص في تلك العوالم، أيقنت بأنّ الأثر الأدبي الذي أشتغل على شرح مفهومه عدد كبير من نوابغ البحث في المجال الأدبي، يتعدى زمنه بكثير، ويتفاعل مع جوهر الوجود البشري بعيدا عن الحدود الجغرافية أو الثقافية المغلقة.
هذه الحدود التي لا تتأتى ولحسن حظّ وغرابة هذه المفارقة إلاّ عبر ملء خزّان الروح المحلية بالأسئلة والاقتراب منها، من أجل عتقها وتلخيصها فيما بعد من قمقم الانغلاق على ذاتها. طبعا، الفن ليس ملزَما بالإجابة عن هذه الأسئلة لأنها ليست مهمّتُه، ولكن المتفاعل مع تلك الأسئلة هو الذي عليه أن يجيب دوما عنها، مما يعطي للنص من جهة، عمرا أطولا لمواصلة العيش في إنسان الراهن، ويمنح المتفاعل مع تلك الأسئلة أيضا فرصة التجاوز عبر التأويل. وبذلك تمنحنا النصوص القوية، فرصة للحياة، وفرصة أخرى للممات عن طريق قتل النص الأول؛ وهو الفكرة التي طرحتُها في كتابي حول نصوص حداد.
يمكن للأدب أن يموت إن كان المجتمع غير مجهز لتقبل امتدادات العمل الفني المحرجة أحيانا كثيرة والملامسة حتى لجنون اختراق أي حدٍّ كان. يمكن للأدب أن يفكِّرَ العالم. كما أنه يمكن للأدب أن يكون نبراسا منيرا "لحفار القبور" الذي يأتي على الإرادة البشرية فيسجنها، ويمنحها لطائر الموت، كما يحدث مع بعض الأنواع التي تسوِّقُ لنفسها بأنها دينية أولا، ثم دينية ثانية، ثم أدبية ثالثا.. حينها،لا يمكن للأدب أن يفكِّرَ العالم. الأدب حينها، سيكون هو السجّان الذي يسلّم سيّاف القيم رقبة كل من يتجرّأ من الأدباء على أن يخترق حدّ السؤال. وفي هذا، يمكننا أن نشاهد مجتمعات بأسرها ، تبني موتها "فنيا" على أساس هذا الشكل المرجعي القاتل.
شخوص حداد شخوص انتحارية، لأنها، وبكل بساطة، شخوص مجهّزة بتلك الأسئلة القاتلة التي غالبا ما تنتهي بأن تصطدم بغلبة السيّاف. وهي في نفس الوقت، شخوص منبّهة،تستبق وقوع الزلازل البشرية، وتحسن كيف تجهز جمهورها إلى تفادي الحتف الجماعي البليد.