صوفية وفنون وعمارة تكايا الدراويش في تركيا العثمانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد الحمامصي من القاهرة: ما يميز هذا الكتاب "تكايا الدراويش..الصوفية والفنون والعمارة في تركيا العثمانية" لمحرره البروفسور رايموند ليفشيز أستاذ فن العمارة بجامعة كاليفورنيا بيرلي والذي نقلته للعربية عبلة عودة وصدر مشروع "كلمة" للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، أنه يفتح نافذة على الفن المعماري الإسلامي من زاوية خاصة، فمعظم الدراسات المتخصة بهذا الفن كانت تعني عموما بعمارة المساجد الضخمة في تركيا خاصة التي بنيت في الفترة ما بين القرن الخامس عشر والسابع عشر الميلاديين، وهذه المساجد إلا جزءا بسيطا من هذا التراث المعماري الفذ في اسطنبول العثمانية وفي مدن أخرى كثيرة، وهنا تبرز "التكايا" التي تنتشر في كل مكان بين هذه المساجد الفخمة الضخمة، بأبنيتها المميزة والمتواضعة، لتقدم دليلا مختلفا على بهاء الفن المعماري العثماني في فترة طالما أعادها الباحثون فترة الانحدار السياسي والثقافي في الدولة العثمانية، وهذا رأي يجب إعادة النظر فيه ـ حسب ليفشيز ـ إذ إن الفنون المرئية في العالم الإسلامي لا تتوافق بالضرورة مع ازدهار السلالة الحاكمة أو انحدارها.
ويرى ليفشيز أن الميزة التي تحسب أيضا لهذا الكتاب هي أنه يسلط الضوء على ما تبقى من أبنية "التكايا" في اسطنبول، بعد أن طالت يد الاهمال معظمها، نتيجة توقف الدعم المادي لها بعد التحول السياسي الذي حدث في تركيا واتجه بعيدا عن الدين وكل ما يمثله بما فيه مبان التكايا.
يعتمد الكتاب وهي نقطة تحسب له في دراسة هذه التكايا بكل ما تختزنه وتمثله من تاريخ مادي وإنساني على دراسات لثماني عشرة باحثا وأكاديميا ومختصا في حقول مختلفة، فمن مختصين في الدين الإسلامي، وباحثين في العبادات والتصوف، إلى اختصاصيين في التاريخ والشعر والسّير الذاتية والاقتصاد والخط العربي، وقد اجتمعوا كلّهم حول موضوع "التكايا" لدراسته من جوانب عدة.
المقال الافتتاحي للكتاب ـ بعد المقدمة البحثية الطويلة لرايموند ليفشيز ـ كان لآيرام. لابيدوس أستاذ التاريخ ورئيس مركز الدراسات الشرق أوسطية في جامعة كاليفورنيا بيركلي استعرض تاريخ الصوفية والمجتمع الإسلامي العثماني ليرسم صورة بالغة الثراء مؤكدا أن الاتجاهات الصوفية تحولت بالنهاية إلى حركات دينية وأصبح البحث الفردي عن الصفاء الروحي عملا جماعيا منظما في القرن الثامن.
ولفت إلى أنه في القرنين الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر ساهم الغزو المغولي والسلجوقي في تعزيز الحركات الصوفية كمؤسسات مجتمعية، لتبدأ عملية بناء "التكايا"، مشيراً إلى عمق جذور الصوفية التركية، وكيف يتعذر فهم المصطلحات والأفكار الصوفية بمعزل عن جذورها العربيّة، ليخلص إلى أن الصوفية في الدولة العثمانية هي التراث المباشر للإسلام القديم في الشرق الأوسط، الذي تشكل وتغير فيما بعد ضمن الإمبراطورية العثمانية.
وفي دراسة "عيش الدراويش" يكشف كلاوس كريسر أستاذ اللغة والتاريخ والحضارة التركية في جامعة بامبيرج من واقع الملفات الرسمية للإدارة العثمانية "بلغ عدد التكايا ما بين عامي 1820 ـ 1929 ألفين إلى ثلاثة آلاف تكية في إقليم أنطاليا وروماليا، وفي إسطنبول وصل عددها إلى ثلاثمئة تكية، وكان يصل عدد التكايا المشغولة دائما إلى حوالي 60% إلى 85% ".
أما عدد الدراويش المقيمين في التكايا عام 1870 فكان يشكل واحد بالمئة من عدد سكان إسطنبول الرجال "أما عدد المريدين والمحبين فليس هناك إحصائيات أكيدة حوله، ولكن مع دخول الحرب العالمية الأولى، أكد المراقبون أن عدد المريدين والمحبين في أسطنبول قد وصل إلى حوالي ستين ألفا أي أن واحدا من كل أربعة من الرجال المسلمين في أسطنبول كان له علاقة بإحدى التكايا".
ويقسم رايموند ليفشيز في دراسته الطويلة "تكايا أسطنبول" أشكال المباني المعمارية الموجودة حاليا إلى ستة أشكال معمارية مختلفة هي : الكنائس والمساجد والمدارس والكليات ومنازل الشيوخ والتكايا الضخمة، صنفت الأشكال الأربعة الأولى في الوثائق الرسمية بأنها معالم ثقافية بيزنطية أو عثمانية، على عكس الشكلين الأخيرين، أي منازل الشيوخ والتكايا الضخمة، وهي عبارة عن مبان بسيط معماريا، شيدها أبرع حرفيي العامة الذين تظهر براعتهم بجلاء في التصميم والهندسة الداخلية لهذه المباني وقد شيدت جميعها لخدمة احتياجات مجموعات من عامة الشعب داخل البيئة المدنية".
ويشير رايموند ليفشيز إلى أن معظم التكايا في الأصل منازل سكنية لشيوخ الطرق، ويعود تزايد عددها المطرد إلى سهولة إنشاء طريقة جديدة يبدأها أحد الشيوخ من العدم أو قد ينشق عن طريقة موجودة أصلا مكونا بذلك طريقته الخاصة، ويجمع حوله عددا من المريدين، ثم يقوم بتحويل منزله إلى تكية يجتمع فيها هؤلاء المريدون ليمارسوا طقوسهم الخاصة.
ويؤكد رايموند ليفشيز اختلاف أحجام التكايا وأشكالها تبعا لأهمية الشيخ وعدد أتباعه وحاجات الطريقة التي يرأسها ولكن عمارة هذا النوع من التكايا كان يتميز دائما بوجود جدار يحيط بالمبنى وحدائق تعزله عن الخارج، أما في الداخل فقد كانت التكايا صغيرة أو كبيرة تمثل الحياة التركية التقليدية من حيث الفصل بين الجنسين، وتقسيم العمل اليومي ورعاية الأطفال والتجمعات العائلية والعلاقات الخاصة مع الغرباء، بالنسبة للمباني صغيرة الحجم فقد خصصت بعض مساحاتها لحياة القاطنين الشخصية وأداء طقوس التكية في الآن ذاته، وبالإضافة إلى ذلك كان هناك مكان مخصص للصلاة يؤمه الشيخ ومريدوه، أما التكايا الأكبر حجما فقد خصصت مساحات أوسع للوفاء بحاجات الطريقة ومهمتها، ومن أمثلة التكايا الكبيرة تكية النقشبندية الأوزبكية في يسكيدار وتكية حسير يزاد في سوتلج، وكلتاهما من التكايا الفسيحة بديعة الفرش، وتشتمل كل منهما على قسم للحريم "الجزء المخصص للنساء" وقسم للسلاملك "الجزء المخصص لاستقبال الرجال" والسمعخانة "القاعة المخصصة للتعبد" ومطبخ كبير، كما كانت هذه التكايا تستضيف الزوار العابرين والمريدين المقيمين بصورة دائمة. وتتمتع التكيتان بتاريخ عريق، إذ استضافت باحاتها العديد من المثقفين والفنانين، واستقطبت قاعاتها أسماء شهيرة من علية القوم، بل والبلاط السطاني، كما تشير الرموز المطبوعة فوق بوابة مدخل التكية.
تناولت أبحاث الكتاب أيضا فنوناً أخرى ارتبطت طويلاً بالطرق الصوفية مثل فنّ الخط العربي، وما يحفل به من رموز وتقنيات فنية عالية، وكذا فنون النحت والنقش والرسم وطقوس الرقص الدوراني الذي عُرفت به الطريقة المولوية، التي ابتكرها جلال الدين الرومي، فضلاً عن الفنون الأدبية من كتابة فنية وقصائد شعرية تناولت الفكر الصوفي من جوانب متعددة، وأدخلتنا إلى رحاب الحياة اليومية للدراويش بتفاصيلها المثيرة، وماتزال بعض هذه الأعمال نابضة بالحياة حتى الآن، ممثلة جزءاً من التراث الموسيقي والأدبي في تركيا وخارجها.
ومن أهم الباحثين في الكتاب مقال جمال كفادار الذي يحلل تأثير الصوفية في المجتمع التركي الحديث بالتوازي مع الحركة الصوفية في الإمبراطورية العثمانية، كاشفاً بذلك اللثام عن مناطق كانت مهملة من قبل في الدراسات الصوفية مثل دور المرأة، والدمج بين أكثر من طريقة صوفية، وهو يشرح أسباب تصدّر الطريقة المولوية لصورة الصوفية أمام العالم الخارجي، كما أنّ ملاحظاته تتعدّى فضاء الدراسات الاستشراقية المتعارف عليها، فهي تعتمد طرقاً علمية ترتكز على الدراسات الاجتماعية والتاريخية التي تنتهج الأسلوب الغربي. كما يظهر كافادار أن الصوفية تخترق بتأثيرها جميع جوانب الثقافة التركية الحديثة من شعر ولغة وسينما وموسيقى، لتبدو قوة ثقافية محرّكة في تركيا الحديثة. وهناك أيضاً الفصل الذي عقده كلاوس كريسر حول حياة الدراويش، وفيه يعرض معلومات مهمّة تتناول اليومي والمهمش فيها، متجاوزاً المعلومات التاريخية المحضة، وثمة مقال رايموند ليفشيز حول الفنّ المعماريّ في التكايا الذي يتقصى الاتساق والانسجام الداخلي الواضح في عمارة هذه التكايا.
قسم رايموند ليفشيز الكتاب إلى ثلاثة أجزاء الأولى "الدراويش والعثمانيون" والثاني "تكاليا الدراويش"، والثالث "طقوس الحياة اليومية، وهذا الأخير يحوي دراسات قيمة تمسّ الحياة اليومية في التكية من وجهات نظر مختلفة، ليرسم صورة مقربة، وثلاثية الأبعاد، عن كيفية عمل هذه المؤسسة - التكية، وحياة الناس فيها.
ويتعرض حامد الغار بالتفصيل لطريقة صوفية واحدة، في حين يقوم كارتر فندلي بترجمة مخطوطة من مذكرات قيّم على إحدى التكايا. أما فردريك ديجونغ فيستعرض صوراً معروفة للخط العربي في إيران ومصر والعراق كما هي الحال في أنطاليا. ونجد هذا التوسع في البحث لدى آنا ماري شيميل وهانس بيتر، أمّا آيلا الغار فتستطلع موضوعة الطعام، وتصل إلى جذورها في القرون الوسطى، وفي سياق آخر تبحث نورهان أتاسي في أزياء الدراويش وأصولها والتطورات التي أصابت أشكالها، وطقوس ارتدائها في الطريقة المولوية.
في هذا الجزء أيضا البحث المهم والرائع لوالتر فيلدمان المحاضر في جامعة بنسلفانيا في قسم الدراسات الشرقية حيث يؤرخ لأنماط الموسيقى الصوفية مشيرا إلى أن الحضور المميز لموسيقى الطقوس الدينية يظهر في القرن السابع عشر وبرزت أنماط موسيقية عثمانية خاصة بالمناسبات والطقوس الدينية ضمن الطرق الصوفية الأكثر انتشارا في ذلك الوقت، وهي الطريقة الخلوتية بفروعها المختلفة والطريقة الجلواتية والجلشنية والمولوية، وأصبح المنتمون لهذه الطرق هم الأكثر شهرة في هذا المجال والأكثر حظوة لدى البلاط السلطاني في القرن السابع عشر.
ويقول "كانت مهمة التأليف الموسيقي في التكية تناط بالدراويش الموهوبين في هذا المجال، وكانوا يدعون بـ "الذاكرين" لأنهم يؤلفون مقطوعات تؤدى في حلقات الذكر، ولهم مكانة خاصة في الطريقة، وأحيانا كان يعين "الذاكر باشي" وهو كبير الذاكرين خليفة لشيخ الطريقة في تكيته أو إحدى التكايا الأخرى التي تتبع الشيخ، لكن مهمة التأليف الموسيقي لم تكن مقصورة فقط على الذاكرين من الدراويش، فقد كان شيخ الطريقة يقوم بتأليف بعض المقطوعات أحيانا بما فيها من موسيقى وشعر، وكانت القدرة على التأليف الموسيقي إحدى الخصال المطلوبة في الشيخ، ومن الأدلة الواضحة على أهمية التأليف الموسيقي بالنسبة للطرق الصوفية، أن الذاكر باشي كان أحد أربعة فقط من دراويش التكية الذين يحق لهم ارتداء "التاج" أي العمامة الخاصة بالطريقة وكذلك "الخرقة" الخاصة بالطريقة أثناء الذكر".
وهكذا فإن هذا الكتاب بشموليته في طرح موضوع التكايا وعلاقتها بالفكر الصوفي والطقوس والممارسات النابعة منه، ينير جوانب لم يولها الباحثون في مجالات الدراسات الإسلامية والاجتماعية والدينية الكثير.
يعمل محرر الكتاب في نسخته الإنجليزية: رايموند ليفشيز، أستاذاً في فن العمارة في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وله كتاب حديث بعنوان "فن العمارة .. رؤية جديدة" وقد قام بالإسهام في هذا الكتاب ما يزيد على سبعة عشر خبيراً في الثقافة العثمانية والتركية والصوفية، معظمهم يعمل في أهم الجامعات العالية.
قام بترجم الكتاب إلى العربية المترجمة عبلة عودة، وهي أكاديمية ومترجمة فلسطينية، حصلت على شهادة الماجستير في اللغويات من جامعة باث - إنجلترا، وهي عضو مؤسّس في جمعية المترجمين واللغويين التطبيقيين الأردنيين، لها ترجمة منشورة بعنوان "مذاق الزعتر" صدرت عن مشروع "كلمة" 2010، وفازت بجائزة أفضل كتاب مترجم، التي تمنحها جامعة فيلادلفيا للعام نفسه.