يائيل بارتانا... عن منفى إسمه إسرائيل

حسين السكاف: "الفنان ليس أداة للترفيه، الفنان رسالة، فكرة، قد تفتت محظورات كنا نحسبها عصية عن التناول..." هكذا تستفزنا الفنانة "البولندية، الإسرائيلية المولد" يائيل بارتانا Yael Bartana (1970) بطاقة بصرية مؤثرة لتفتح حدود بلدها الأصلي "بولندا" أما 3،3 مليون يهودي بولندي يعيش داخل "إسرائيل" البلد التي تراه وطناً مُلفّقاً، وطن لا يمثل سوى منفى لأبناء جلدتها، الذين تطالب بعودتهم إلى بلدهم الأصلي، أرض الأجداد.
"إسرائيل وطن وهمي، بسببه أقتُلعنا من جذورنا لنسكن المنفى." صحيح أن هذه العبارة البليغة والمؤثرة قد سمعناها من قبل وإن كان همساً، إلا أن يائيل بارتانا قد منحتها صوتاً آخر من خلال ثلاثة أفلام وثائقية طافت أهم صالات العرض في أوربا. البداية كانت مع بينالي فينيسيا في إيطاليا العام الماضي 2011، حيث قدم الجناح البولندي مراهنة كبيرة، بل مجازفة تحدث للمرة الأولى، والسبب الأول يكمن في مشاركة فنانة لا تحمل الجنسية البولندي ضمن الجناح البولندي، فيائيل بارتانا من مواليد"إسرائيل"، أما السبب الثاني فهو عملها المشارك بعنوان "الثلاثية البولندية" الذي تتبنى فكرة تهديم أسطورة الفكرة الصهيونية في إقامة "بلد الفردوس الإسرائيلي" على أرض فلسطين. فكرة تطرح مأساة تهجير اليهود البولنديين من بلدهم ووضعهم في مخيمات "كيبوتس" داخل المنفى "الإسرائيلي" على أرض فلسطين المحتلة.

ثلاثة أفلام وثائقية (كابوس - الجدار والبرج - اغتيال) تصدح اليوم بين أروقة أهم متحف للفن الحديث في الدول الإسكندنافية "متحف اللويزيانا للفن الحديث" في الدنمارك، الأفلام تطرح الفكرة الأساس التي تأسست عليها "حركة النهضة اليهودية في بولندا (JRMiP)" الحركة السياسية التي وضعت ضرورة عودة 3،3 مليون يهودي من إسرائيل إلى بلدهم الأصلي هدفاً لها. كما وتطالب ضمناً بعودة الفلسطينيين إلى بلادهم التي هٌجَّروا منها للأسباب السياسية نفسها.
في فيلم "كابوس" نشاهد شاب بولندي، ناشط سياسياً، يقف وسط ملعب مهجور في قلب العاصمة وارشو، يلقي كلمة مؤثرة تدعو إلى عودة أبناء جلدته من اليهود إلى وطنهم الأم، تاركين إسرائيل بلد الأوهام والصراعات، مذكراً بتلك الحملات الدعائية التي كانت تبث بين صفوف اليهود أبان الحرب العالمية الثانية لتحقيق حلم "العودة إلى إسرائيل" والتي بسببها اقتلعوا من أرضهم ووطنهم ليعيشوا المنفى، ولم ينسَ أن يذكرهم وبحنين جارف للماضي، بتلك العلاقة الحميمة والمهمة التي كانت تربط المثقفين من اليهود وغيرهم ممن ينتمي إلى أديان أخرى قبل حدوث مؤامرة التهجير. النقطة الأخرى التي يشير لها الفيلم والتي لا تقل أهمية عن سابقتها هي تلك التي تتحدث عن جنسين بشريين من المستحيل أن يتعايشوا معاً على أرض واحدة، فالأول "يهودي" محتل رغم أنه مُهَجَّر ومغلوب على أمره والثاني "فلسطسني" منتزع من أرضه ومحكوم من قبل غرباء. معادلة، أو وضع غير إنساني يجب أن ينتهي بعودة يهود أوربا إلى بلدانهم الأصلية.
أما فيلم "الجدار والبرج" الذي أظهر حركة درامية أكثر من الفيلم الأول، فهو يصور لنا عملية بناء مخيم أو "كيبوتس" جديد وسط العاصمة البولندية، تماماً كالتي بنيت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي لتكون مخيمات لليهود. مخيمات لتحتضن العائدين من "إسرائيل" لا المهاجرين إليها، مخيم ينبثق منه كل ما يمنح للحياة ديمومتها، زراعة الأرض والدراسة وتربية الأطفال، وحتى خطط الدفاع عنه وحمايته، وكل هذا يتم بشكل جماعي تتقاسم فيه المجاميع واجباتها لتنفذها بإخلاص. هو إذاً صورة مصغرة للعالم الذي تقترحه الفنانة في القرن الواحد والعشرين، عالم مختلف التكوين والمزاج سياسياً وجغرافياً، يأتي هذا من خلال محاولة الفنانة إلى اقتباس مأساة الماضي لتحولها إلى أفكار تحاكي الحاضر، من خلال مشروع بناء عالم جديد خال من أوهام مميتة ودول وهمية يراد إنشائها بدماء الأبرياء. هذه الفكرة نجدها واضحة وبشكل لا يحتمل اللبس في الفيلم الثالث "الاغتيال" الذي تُظهِر فيه بارتانا حلمها في تكوين مجتمع متعدد الأطياف، متعدد القوميات، ليكون الشكل النموذجي لبلدها الذي تحلم به، بلد المستقبل، الذي لابد له وأن يصبح نموذجاً لتأسيس مجتمعات أخرى في أماكن أخرى من العالم، في أوربا وأمريكا والشرق الأوسط، فكل هذه البلدان لها أبناء تم اختطافهم وتهجيرهم إلى بلد الأوهام "إسرائيل".
ترى كيف يكون شكل التجاوب العربي، إن ظهر فنان من إحدى الدول العربية، ومن خلال عمل فني متكامل، يطالب بعودة كل يهود بلده، أبناء جلدته الذين رُحِّلوا من بلدهم قسراً إلى المنفى الإسرائيلي،؟؟...

halsagaaf@hotmail.com