ثقافات

هل تصمد الزقاقيات الدمشقية أمام الهول؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

أمل عريضة: تحاول سعاد جروس في كتابها الصادر عن دار رياض الريس (زقاقيات دمشقية) أن تمسكَ بتلابيب دمشق الفارّة إلى الغد المجهول. تفتش في ضفائرها عن ذكريات نهر. تضع أذنها على أرصفة مقاهيها وتصغي لنبض أزمنة توارت واختلطت بإيقاع الحياة الراهنة. ترتشف ماسال على فم الدهر من رحيق الأسرار والحكايا، وتخالط العبقَ الدمشقيّ حتى تندى أصابعُها. ودمشق المتعبة لاتتملّص من بين يديها. تترك نفسها لها لحظات ترتاح فيها من عناء التحوّل والسفر، ثم تتدفق ثانية في رتوب أزليّ، بينما يظلُّ قوامها المعجون من نور ونار يسقط على الورق شفيفاً متوهجاً دافئا.
يضمّ الكتاب أربعَ عشرة مقالة أضاءت ملامحَ دمشق التاريخ والمدينة والبشر، ولابدّ أنّ الكاتبة استغرقت فيها وقتاً وجهداً كبيرين، إذ جمعت في أسلوبها بين البحث الميداني وتوثيق المعلومة والتعبير الذاتي الوجداني. قدّم لها الروائي فوّاز حدّاد بقوله: "كتبت سعاد جروس عن دمشق على طريقتها، كما هي موجودة على الأرض يختلط فيها الماضي بالحاضر، فالتاريخ في جنباتها تسللت إليه الحداثة مصحوبة بأحياء عشوائية، فكان كتابها نفحة من هنا ونفحة من هناك".
في المادة الأولى (غرائب وطرائف: أسماء أماكن دمشقية) تعرّف الكاتبة بأسماء دمشق وألقابها (جنة الأرض، العذراء، شام شريف، حاضرة الروم...الخ) ثم تعرج على أسماء الأحياء والحارات والأزقة والمقاهي والأسواق متقصية سرّ الاسم ومكتشفة الشكل الأول للمكان "الخوض في تاريخ الأسماء كالدخول إلى مغارة علي بابا المقفلة بالكلمة، ماإن تعرف كلمة السر حتى تنفتح مسارب الماضي وسيرة تحولات المكان، وتجلياته عبر الزمن". يجد القارئ متعة كبيرة في متابعة مدلولات الأسماء الطريفة (مطرح ماضيّع القرد ابنه، مقهى التايبين، قهوة خود عليك...) وكذلك الأسماء السلبية للأماكن ، فالقبح أيضاً له حكاياته، وهو جزء من تاريخ المدن والبشر (حارة القعاطلة، نهر قليط، حارة المزابل...) ليصل إلى دمشق الحديثة عبر مقارنة بين القديم والحديث ترصد حركة التطور العمراني والتخطيطي والبشري.
تبدأ الكاتبة مادتها الثانية (أساطير في رحاب الشيخ محيي الدين) بتقديم لمحة عن المكان جغرافياً وتاريخياً، ثم توغل في المقدّس. تستشرف أبعاد الأسطورة والخرافة وتعود غنية بالمعلومة وباللغة الشفيفة الروحانية: "في حيّ الشيخ محي الدين تحضر الأسطورة، تسلب العقل قبل أن يأخذ إغفاءته الجميلة. مع ابن عربي المدثر بالمعجزات، تنفتح آفاق الحلم ليصبح أقوى من الواقع، كما هي في معتقدات أهل الحي". تجمع جروس بين ماذكرته المراجعُ وماتداولته الروايات الشعبية عن معجزاته ولقائه بابن الفارض. تصف ضريحه وزوّاره والنذور وطقس الحساء والهريسة الذي مازال يوزع على الفقراء والجياع كل خميس، والسوق الشعبي وسوق الألبسة المستعملة، وكل ما قام حول الضريح وصار جزءا من المكان. لم تحاول الكاتبة أن تدرس فكر ابن عربي، ولعل طبيعة المادة لاتتسع لذلك، واكتفت بذكر التضارب حول تفسير آرائه، وذكر أثره في المتصوّفة من الشعراء الحديثين كالبياتي وهادي العلوي.
في (حارة اليهود: أبواب موصدة) تبحث الكاتبة في تبدّل تسميات الحي، وأصول اليهود الذين سكنوه، ومواطنهم الأصلية، ومن جاورهم، وهجرتهم إلى إسرائيل، والميزات التي يحظى بها من بقي منهم، ومعابدهم، وعاداتهم، وأهم شخصياتهم العامة والشعبية، والمهن التي برعوا بها كالصيرفة والخياطة والتجارة وتجارة الرقيق، ومهن فقرائهم كالبويجية والغناء في المقاهي، متمكّنة في كل ذلك من تقديمهم كجزء من النسيج السوري: "حارة اليهود كنموذج للعيش المشترك، تقدّم مثالاً فريداً للعلاقة التي تربط بين سكان متناقضين". ولاتنسى الكاتبة رصد التحول الذي أصاب الحي وسكانه اليهود نتيجة نكبة فلسطين: "لاشكّ أنّ صورة اليهودي لدى العرب عموما تهشمت كثيراً، وماتبقى في حارة اليهود علاه الغبار، فالممارسات الإسرائيلية الوحشية ضد الفلسطينيين كان لها بالغ الأثر في تدمير أي ميزة إيجابية لليهود كجزء من مكونات المجتمعات العربية، فاليهودي الصهيوني المغتصب المدجج بالسلاح، احتل كادر الصورة الذهنية والواقعية لدى الناس العاديين، ولم يعد هناك متسع لليهودي الدمشقي المسالم والحرفي الماهر".
أما بحثها (مكتب عنبر: موئل الوطنية الأول) فقد استهلّته الكاتبة أيضاً بتصوير موقعه الجغرافي منوّهة بتاريخ بنائه كدارٍ دمشقية شهيرة ليوسف عنبراليهوديّ وانتقالِ ملكيته إلى بلدية دمشق عام 1886 وتحوّلِه إلى مدرسة إعدادية تدرّس بالتركية. وتذكر الكاتبة أول حادثة إضراب قادها الطلاب عام 1912 إثر إساءة أستاذ تركي للعرب. وكيف تحولت المدرسة إلى مايشبه الثكنة العسكرية لما جاء الاحتلال الفرنسي، فجيء بالسلاح وتدرّب عليه الطلاب والتحق بعضهم بمعركة ميسلون. من هذه المدرسة تخرّج شكري القوتلي والطبيب حسني سبح رئيس الجامعة السورية ومؤسس مشفى المواساة، والشاعر بدوي الجبل وغيرهم كثير. وأشرف على إدارتها جودة الهاشمي ودرّس فيها ميشيل عفلق، ولم تقصّر بتدريس فنون المسرح والرسم والموسيقا. تصفها الكاتبة : "في الطريق إلى قصر الثقافة حالياً، نسلك سوق مدحت باشا وصولا إلى البزورية، ثم ندلف إلى اليمين داخل زقاق مرصوف الحجارة، لنجد أنفسنا أمام بيت دمشقي جميل وضخم. هذا هو مكتب عنبر، يلفه الهدوء والسكينة! وكأنه خرج من تاريخه الموّار بالأحداث إلى تاريخ آخر راكد لايليق به ولابماضيه، غير أننا سنسمع على الرغم من الصمت هسيس الماضي وضجيجه".
تبدو القيمة الحقيقية للكتاب عند مقارنته مع كتاب آخر هو (صور دمشقية من ذاكرة المكان والإنسان) لمنير كيّال المؤلف المختص بتراث دمشق وصاحب أكثر من خمسة عشر كتابا عنها. يضم كتابه 81 مادة يتراوح طول الواحدة بين نصف صفحة وثلاث صفحات، يتنقل الكاتب بينها في عجالة وكيفما اتفق له، من (الإذن نامة إلى وصف قماش الأغباني، ومن وصف باب مصلى ليعود ثانية إلى وصف البروكار، ومن القبقاب إلى الكتاتيب ومن الحكواتي إلى حمام النفساء، على علم أنه كان بإمكانه تقسيم الكتاب إلى أبواب: المهن، طقوس الزواج والولادة، الأماكن: حمام السوق- المساجد والتكايا- المتنزهات... الخ). من يقرأ فيه مادة حناء العروس يجد وصفا لنبتة الحناء وطريقة تحضيرها، ولايجد أغنية الحناء: "دبّل عيونه ومدّ ايده يحنونه" هكذا أساء الاختصار وقلة التنظيم إلى بعض الموضوعات، وأصاب القارئ بالبخيبة، بينما اختارت سعاد جروس عنوانات قليلة وبحثت فيها بشكل شمولي وعميق.
وإذ جاءت لغة منير كيال بسيطة ومباشرة ووظيفية تقوم بنقل المعلومة دون أدنى اهتمام بفنية التعبير، قدّمت جرّوس لغة أدبية عالية المستوى شائقة تكاد تصل إلى الشعرية في حساسيتها وكثافتها. وبمقارنة الصور الفوتوغرافية التي زود كلا الكاتبين كتابهما بها لم تضف صور كيال أي فائدة للكتاب وذلك لعدم وضوحها، بينما تميزت صور (زقاقيات دمشقية) بالدقة والوضوح وحسن الاختيار مما منح الكتاب جاذبية إضافية.
تنويه: كتبت هذه المادة منذ أكثر من سنة، لكنّ شعوري بأنّ انشغال السوريين بالحراك الثوري أضعف اهتمامهم بقراءة ما هو خارج إطار الثورة، جعلني أرجئ نشرها، ولمّا بدأ الخطر يحيط بدمشق كالسوار الثقيل ويتغلغل في أحيائها ويهدّد بتدمير بيوتها ومسح شوارعها الخافقة عادت الرغبة بنشر المادة، وكأني أريد أن أوصل دمشق إلى يد كل عاشق قبل أن يهاجمها التتار ويمحو ذاكرتها الخالدة.

(زقاقيات دمشقية) مجموعة مقالات صحفية كتبتها سعاد جروس بمهنية عالية، ونشرتها متفرقة في أوقات مختلفة، ثم شاءت أن تجمعها لتشكّل تفاصيل الجسد الدمشقي في سكونه وفورانه وتحوّلاته. وإذ أبَت روحُ دمشق أن تكشف عن ماهيتها ونِسب عناصر فرادتها إلا لبضعة عاشقين ملهمين، فقد سلّمت مفاتيحها وذهبها لهذه الكاتبة القادمة من حمصَ على أرجوحة هوىً دمشقيّ قديم، ورضيت أن تكون هديتها لقارئ يبحث عن الفائدة والمتعة. نعم. إنها ماتعة هذه المقالات المشغولة من نبض البشر وشذى الزهر واشتداد الحنين للضياع في الأماكن أو للانعتاق من أسرها واستبدادها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف