ثقافات

ليون تروتسكي: في المستقبلية الروسيّة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تقديم عبد القادر الجنابي: ليون تروتسكي الذي كان أول من تنبأ بمصير روسيا الستاليني، وذلك عندما ندد (في المؤتمر الثاني للحزب الديمقراطي الاشتراكي الروسي، 1903) بدعوة لينين إلى خلق منظمة داخل الحزب من الثوريين المحترفين لها السلطة الكلية، قائلا: "إن أساليب لينين تفضي إلى ما يأتي: في مبدأ الأمر تحل منظمة الحزب محل الحزب ككلّ ثم تحل اللجنة المركزية محل المنظمة، وفي النهاية يحل دكتاتور فردي محل اللجنة المركزية ويأخذ زمام السلطة كلها"، وهذا عين ما جرى...

تروتسكي هذا القائد الأعمق ثقافةًبين البلاشفة؛ الذي أسس الجيش الأحمر، كان(وبوخارين الذي قال في رسالة عام 1934 الى ستالين "إن الشعراء دائما على حق، التاريخ إلى جانبهم")، من أكثر الماركسيين تفهما وتفتحا للأدب الطليعي. فكتابه "الأدب والثورة" (1924)، يمثل أول محاولة لتطبيق النظرية الماركسية على الأدب، انطلاقا من منظور يراعي استقلالية العمل الإبداعي. فتروتسكي، الماركسي الفطن، لم يَبنِ طروحاته على أسس مبادئ سوسيولوجيا بليخانوف وأتباعه السطحية التي كانت هي المرجع "الماركسي" الوحيد في قضايا الأدب، وتقوم على نظرية اختزالية ومبسّطة، يُختزل فيها النقد الماركسي إلى مجرد تأويل سوسيولوجي لتاريخ الأدب يفتقر افتقارا معيبا، إلى أي تأمل جمالي حقيقي... وإنما بنى تروتسكي طروحاته على القوانين الداخلية للعملية الإبداعية: "عمل فني يجب أن يُحكم عليه من خلال قانونه هو، قانون الفن... ذلك إنّ هدف الفن ليس نسخ الحقيقة بتفصيل تجريبي بل أن يلقي نورا

من اليمين: أندريه بروتون، ديغو ريفيرا وليون تروتسكي/ المكسيك 1938

علىماهيّةالحياة المعقدة وذلك بإظهار سماتها النموذجية".كما أكد بأن "الفن يجد طرائقه الخاصة به... فطرائق الماركسية ليست طرائقه. إن الحزب يؤمّن قيادة الطبقة العاملة، لكن ليس قيادة كل السيرورة التاريخية. ثمة حقول يدير فيها الحزب مباشرة وبسطوة، وأخرى يراقب فيها... وثمة أخرى أيضا يكتفي فيها بعرض تعاونه. ثمة أخيرا حقول يمكن فقط أن يستطلع فيها ويتابع ما يجري ضمنها. وليس حقل الفن واحدا من تلك الحقول التي يدعي فيها الحزب القيادة". إن ما يفتنني في تروتسكي - فضلاً عن علاقة بروتون به التي كنت أبني عليها كل انتمائي إلى الحركة التروتسكية أوائل سبعينات القرن الماضي- هيامه النضالي وآراؤه المتفتحة إزاء حرية الفنان وبالتالي حرية الإبداع بشكل عام. وقد ظل تروتسكي، حتى اغتياله، وفيا لإيمانه بحرية الفن والفنان. فها هو يكتب لبروتون، عام 1939 موضحاً بأن "النضال من أجل الأفكار الثورية في الفن يجب أن يُشن من أجل الحقيقة الفنية، ضمن مفهوم إيمان الفنان الراسخ بذاته الداخلية... وإلا فليس ثمة فن. عليك أن لا تكذب، هذه هي صيغة الإنقاذ... في حقبتنا هذه - حقبة الرجعية المتشنّجة والانحطاط الثقافي والعودة إلى البربرية - لا يمكن للإبداع المستقبل إلا أن يكون بحثاً عن مخرج من هذا الاختناق الاجتماعي الذي لا يطاق. بيد أن الفن ككل، وكل فنان بالأخص، يبحث عن مخرج بالطريقة التي يرتئيها هو دون الاعتماد على أوامر تأتيه من الخارج بل رافضاً لها ومزدرياً كل من يخضع لها".

إن كتاب تروتسكي "الأدب والثورة" (الذي على أتباعه العرب أن يبذلوا كل جهدهم من أجل ترجمته، وسيكون أفضل عمل يقومون به)،يضيء جانبا مهما جدا من جوانبتروتسكيالثقافية، ذلك أن تروتسكييتبيّن في هذا الكتاب مناضلا مطلعا إطلاعا واسعا على كل الأعمال الشعرية الكلاسيكية وخصوصا الطليعية الحديثة آنذاك.بل كان شديد الفهملحالة الأدب الروسي ما بعد الحرب الأهلية، بحيثابتكر مصطلح "رفاق الطريق" (Fellow-travellers)، كوصف لكتّاب، كاسحاق بابل وزامياتين ويَسينين،هم ليسوا فناني الثورة البروليتارية، لكنهم رفاق طريقها، موالون لمبادئها رغم أنهم غير منتمين للبلشفية؛ كتّاب لا يتبعون الأهداف الشيوعية (البلشفية) نفسها، لكنهم يسلكونن جزءا كبيرا من الطريق البلشفي نحو تحقيق أهداف مشتركة، آنذاك،كبناء روسيا وانقاذها من السقوط في هاوية الدمار.

كان تروتسكي مدافعا قويّا عن الكتاب الطليعيين الروسوتجريباتهم الشعرية والفنية، بقدر ما كان دقيقا وذكيا في مآخذه عليهم ومنصفا في أحكامه النقدية. وكان دفاعه عنهم، موجها، في أغلب الأحيان، ضد هجومات ما كان يسمى تيار "الثقافة البروليتارية" Proletkult.ومن بين ما جاء في مقالته الشهيرة"الثقافة البروليتارية والفن البروليتاري"،التي نشرت أولا في البرافداد سبتمبر 1922: "إن كتّاب(الثقافة البروليتارية)لم ينجزوا شيئا سوى الثرثرة والتبجح وإزعاج أولئك الذين يعارضون الثقافة البروليتارية من صوريين ومستقبليين والنقاد الشكليين الروس"، ثم يتساءل: "لكن إذا ألغيت مؤلفات هؤلاء الصوريين والمستقبليين والشكليين، ما الذي سيبقى، يا تُرى،من الأدب السوفياتي؟ الوعود بالدفع غير المؤكدة التي تقدمها الثقافة البروليتارية؟!". وبالفعل لم يبق، اليومَ،شيء مما تبجحوا به، يستحق القراءة أو الذكر. وقد أوضح بأن "الثقافة الجديدة التيتفضي إلى الثورة سوف لن تكون ثقافة بروليتارية، فللمرة الأولى في التاريخ الكوني،سوف لن تكون هناك ثقافة طبقية".موضحا بأن البروليتاريا تعمل علىإزالة نفسها كطبقة:"فهي،على عكس البرجوازية التي تعتبر سيطرتها على المجتمع غاية في ذاتها، وأن تكون دائمية،لا تتسلم السلطةإلا لكي تزول في أعماق مجتمع بلا طبقات... صحيح أن هناك فترة زمنية بعد الثورة تسمّى بديكتاتورية البروليتاريا، لكنها فترة جد قصيرة تكون فيها الطبقة العاملة منشغلة بالصراع السياسي إلى حد لا يكون لها معه قدرة على بناء ثقافة جديدة... إذن أي حديث عن ثقافة بروليتارية لهو لغو وهراء!". وتجدر الإشارة هنا إلى أن معظم كتاب "الثقافة البروليتارية"كانوا من طبقة وسطى أو برجوازية صغيرة وليست من طبقة البروليتاريا. وكان لينين يكره سطحيتهم بالحديث عن ثقافة بروليتارية،وغالبا ما يحصر كلمة "الثقافة البروليتارية" بين مزدوجين لأنه لا يرى أي معنى فيها.ذلك أن البروليتاريا، في حسبانه الماركسي،ستزول في المجتمع الشيوعي الخالي من كل طبقة. إلا أنلينين الذي لم يكن على معرفة كافية بقضايا الأدب والتجديد الطليعي خاصة، فذائقته كانت كلاسيكية وتقليدية،لم يتصد لهم فترك مهمة تفنيدهمللشخص الأكثر تبحرا في قضايا الثقافة واطلاعا: تروتسكي.في الحقيقة، يمكن القول أن كتّاب"الثقافة البروليتارية" هؤلاء يمثلون الفلول المبكرة للاضطهاد الستاليني في الوسط الأدبي.ناهيك عن أنمحاولة القضاء على كل أهداف ثورة اكتوبر التحررية، أخذت تحاك فيكواليس الحزب. ذلك ان الصراع على قيادة الحزب البلشفي،بعد موت لينين،بدأبين أعضاء اللجنة المركزية كامينيف، زينوفييف، بوخارين، وتروتسكي الذي كان يؤمن بشيوعية نقية وبفكرة الثورة الدائمة التي تطالب بمساندة

القاتل

الحركات الثورية في البلدان الأخرى، بينما بوخارين وزينوفييف وكامينييف كانوا ضد السياسة الاقتصادية الجديدة التي ادخلها لينين لإنقاذ الاقتصاد السوفيتي من الانهيار، معتبرين إياها انحرافا عن الشيوعية الأصيلة وتنازلا للفلاحين. أما "الجيورجي الفظ"، ستالين،فقد ترك قادة البلشفية العباقرة هؤلاء يتصارعون في نقاشاتهم، عاملا في الخفاء على السيطرة الفعلية على الحزب وبالتالي على تصفيتهم واحدا اثر الآخر جسديا، وبالتالي اخماد كل الشرارات الإبداعية والنقدية الروسية.

ويتجلى تروتسكي عبر كتاب "الأدب والثورة" ناقدا ماركسيّا ذكيّا يعرف كيف يتناول الكتّاب والحركات بالنقد الصارم والعادل في كثير من الأحيان، وبلغة ماركسية موثقة. يكفي استلال اية فقرة من كتابه، لكي نتأكد من عمق تشخيصاته، فها هو يكتب واصفاشعر ألكسندربلوك بـ"أنه رومانتيكي، رمزي، هلامي وغير حقيقي... لكن تَحتاً، هناكافتراض طريقة حياة حقيقية لها أشكال وعلاقات واضحة. الرمزية الرومانتيكية تبتعد عن الحياة بحيث تتجرد من طابع الحياة هذه الملموس ومن سماتها الفردية واسمائها؛ الرمزية التي هي،في العمق، وسيلة تحويل الحياة والسموّ بها.. إن شعرية بلوك المكوكبة، الثلجية التي لا شكل لها، تعكس بيئة وحقبة واضحتين مع طرق العيش فيهما وعاداتهما وإيقاعهما. لكن، خارجهما، ستكون هذه الشعرية، أشبه بغيمة، معلقة في الفراغ. فلن تعيش بعد انقضاء زمنها وموت مؤلفها...".وقال عنقصيدة الكسندر بلوك"الاثنا عشر"التي تعتبر قصيدة الثورة الأشهر:"إنها ليست تمجيدا للثورة، وإنما هي النشيد الأخير لذلك الفن الفردي الذي كان يحاول الانضمام إلى الثورة. إنها صرخة يأس من أجل ماض مائت، لكنها صرخة يأس محوّلةً نفسها إلى أمل من أجل المستقبل"!

أما في مقالته عن ماياكوفسكي، التي اعتبرها مايكوفسكي نفسه مقالة ذكية، كتب تروتسكي: "إن ماياكوفسكي أقرب إلى طابع الثورة الديناميكي وشجاعتها الصارمة، منه إلىالطابع الجماهيري لبطولة وأعمال وتجارب هذه الثورة. وكما كان الإغريقي القديم تشبيهيا، ظانا على نحو ساذج، بأن قوى الطبيعة تشبهه، كذلك فإن شاعرنا الماياكومورفي (المايكوفسكي مُكبّرا)يملأ ساحات الثورة وشوارعها وميادينها، بشخصيته هو. فكثيرا ما يبالغ شاعرنا في لفت الأنظار إليه، مما لا يسمح للأحداث والوقائع الا بقليل من الاستقلالية. وكأن الثورة ليست هي التي تتصارع والصعوبات، وإنما ماياكوفسكي هو الذي يقوم بحركات رياضية في حلبة الكلمات. وأحيانا يجترح، فعلا، معجزات حقيقية، لكن من وقت إلى آخر، يقوم بجهود بطولية، ويرفع ثقلا فارغا... يتكلم ماياكوفسكي عن نفسه طيلة الوقت بصيغة المتكلم وبصيغة الغائب... ما ياكوفسكي غالبا ما يصرخ في حين يجب الكلام، لذا، فإن صراخه حيث يجب الصراخ، يبدو غير واف".

هنا مقاطع طويلة من مقالته عن المستقبلية الروسية، لتبيان نقده الماركسيالموضوعي (مقارنة مع مقالات الماركسيين آنذاك) للمستقبلية والذي كتبه عن حب وتعاطف، على عكس معظم الماركسيين الأفظاظ، سجناء الكلاسيكية القديمة والماركسية السطحية، الذين كانوا يكرهون الجديد، ولم يروا في المستقبلية سوى أنها نتاج المجتمع البرجوازي، وكأن الماركسية لم تكن هي نتاج هذا المجتمع:

المستقبلية بقلم ليون تروتسكي
(مقتطفات) ترجمها عن الانجليزية عبدالاله النعيمي

(...) قامت الثورة العمالية قبل ان يتسنى للمستقبلية ان تحرر نفسها من عاداتها الطفولية ومن قمصانها الصفراء وهياجها المفرط، وقبل ان يمكن الاعتراف بها رسميا، أي أن تكون مدرسة فنية بريئة سياسيا، ذات اسلوب مقبول. ودفعت هذه الحقيقة وحدها المستقبلية نحو الاقتراب من اسياد الحياة الجدد لا سيما وان فلسفة المستقبلية يسرت عليها الاتصال بالثورة والتقارب معها، أي عدم احترامها للقيم القديمة وديناميكيتها نفسها. ولكن المستقبلية نقلت سمات البوهيميا البورجوازية، أصلها الاجتماعي، الى المرحلة الجديدة من تطورها.

والمستقبلية في الطليعة الأدبية المتقدمة هي نتاج الماضي الشعري مثلها مثل أي مدرسة أدبية أخرى من مدارس يومنا الحاضر. وأن يُقال ان المستقبلية حررت الفن من ارتباطاته التي تمتد ألف عام بالبورجوازية انما يبخس قيمة آلاف من السنين. وتكون دعوة المستقبلية الى القطيعة مع الماضي والاستغناء عن بوكشين وتصفية التراث، الخ، دعوة ذات معنى بقدر ما تستهدف بدعوتها الطبقة الأدبية القديمة، أو الدائرة المغلقة من المثقفين. بكلمات أخرى، انها لا تكون ذات معنى إلا بقدر انهماك المستقبليين بقطع الآصرة التي تربطهم بكهنة التراث الأدبي البورجوازي.

ولكن لا معنى هذه الدعوة يتضح ما ان تكون موجهة الى البرولتياريا. إذ لا يتعين على الطبقة العاملة ان تُقدِم على القطيعة مع التراث الأدبي بل هي لا يمكن ان تُقدم عليها لأن الطبقة العاملة ليست أسيرة هذا التراث. فالطبقة العاملة لا تعرف الأدب القديم وما زال عليها ان تتواصل معه، وما زال عليها ان تتقن بوشكين وتستوعبه، لكي تتجاوزه. وقطيعة المستقبلية مع الماضي هي، بعد كل شيء، زوبعة في العالم المغلق للمثقفين الذين ترعرعوا على بوشكين Pushkin وفيت Fet وعلى الرمزيين تيوتشيف Tiutschev وبريوسوف Briusov وبالمونت Balmont وبلوك Blok، ومعهم السلبيين، لا لأنهم ملوثون باحترام خرافي لأشكال الماضي بل لأن لا شيء في نفوسهم يدعو الى أشكال جديدة. فهم ببساطة ليس لديهم ما يقولونه، ويرددون اسطوانة المشاعر القديمة المرة تلو الأخرى بكلمات جديدة بعض الشيء. وحسنا فعل المستقبليون بالابتعاد عنهم. ولكن ليس من الضروري ان يُصنع من فعل الابتعاد قانون عام للتطور.

ثمة عدمية بوهيمية في رفض المستقبلية المبالغ به للماضي ولكنه ليس ثورية بروليتارية. فنحن الماركسيين نعيش في التقاليد ولم نتوقف عن كوننا ثوريين بسببها. وقد استجلينا تقاليد كوميونة باريس وعشناها حتى قبل ثورتنا نحن. ثم أُضيفت اليها تقاليد ثورة 1905، التي منها نهلنا وبها أعددنا الثورة الثانية. وإذ عدنا أبعد الى الوراء ربطنا الكوميونة بأيام حزيران/يونيو 1848 وبالثورة الفرنسية الكبرى. وفي المجال النظري ارتكزنا، من خلال ماركس، على هيغل والاقتصاد السياسي الكلاسيكي الانكليزي. وتثقفنا، وانخرطنا في النضال إبان حقبة عضوية، وعشنا على تقاليد ثورية. ونشأ تحت ابصارنا أكثر من اتجاه أدبي اعلن حربا شعواء على "النزعة البورجوازية"، ونظر الينا لا بوصفنا كلا تاما. ومثلما تعود الريح دوما الى دوائرها فان هؤلاء الثوريين الأدبيين وهدامي التقاليد وجدوا طريقهم الى الأكاديمية. وبدت ثورة اكتوبر للانتلجنسيا، بما فيها جناحها اليساري، تدميرا كاملا لعالمها المعروف، تدمير ذلك العالم ذاته الذي كانت تنفصم عنه بين حين وآخر، من أجل تأسيس مدارس جديدة، ولكنها كانت دائما تعود اليه. وعلى الضد من ذلك فان الثورة بدت لنا تجسيدا لتقليد مألوف، جرى هضمه داخليا. ومن عالم رفضناه نظريا وقوضناه عمليا، ولَجنا عالما معروفا لنا، كتقليد وكرؤية. وهنا يكمن التناقض المستعصي، من النوع النفسي، بين الشيوعي الذي هو ثوري سياسي، والمستقبلي الذي هو مجدِّد أشكال ثوري. وهذا هو مصدر سوء الفهم بيننا. وليس المشكلة في ان المستقبلية "تنكر" تقاليد الانتلجنسيا المقدسة بل تكمن على العكس في حقيقة انها لا تشعر انها جزء من التراث الثوري. فنحن سرنا الى الثورة في حين ان المستقبلية وقعت فيها.

ولكن الوضع ليس ميئوسا منه بأي حال. فالمستقبلية لن تعود الى "دوائرها" لأن هذه الدوائر لم تعد موجودة. وهذا الظرف الذي لا يُستهان بأهميته يمنح المستقبلية امكانية ان تولد من جديد، امكانية ان تدخل الفن الجديد، لا بوصفها تيارا حاسما بل بوصفها مكونا مهما بين مكونات أخرى.

تتألف المستقبلية الروسية من عدة عناصر مستقلة استقلالا تاما عن بعضها البعض، وكثيرا ما تكون متناقضة: بناءات فيلولوجية واستقرائية مشبعة بالبالي والقديم (خليبنيكوف Khlebnikov، كروتشنيخ Kruchenikh)، الذي يندرج في كل الأحوال خارج دائرة الشعر، ومدرسة فنية في كتابة الشعر، أي عقيدة تتعلق بأساليب وعمليات صوغ الكلمات، وفلسفة فنية، في الحقيقية فلسفتان، واحدة شكلية (شكلوفسكي Shklovsky) وأخرى أقرب الى الماركسية (ارفاتوف Arvatov، تشوجاك Chuzhak، الخ)، وأخيرا

أهم انجاز قام به المستقبليون الروس هو ابتكار "الزاووم" الذي يعني حرفيا "ما وراء الإدراك" والمفهوم ابتكره ونظّر إليه كروتشونيخ بربط أداة تصدير أي بادئة za وتعني "ما وراء"، مع كلمة um التي تعني "الإدراك، الفهم". ومفهوم "الزاووم" (ما وراء الإدراك) الذي قدمه كروتشونيخ، للمرة الأولى، مبدأً رئيسيا للمستقبلانية، في تصريحه "الكلمة بوصفها كلمة"، فهو يعتبر أول من نحت هذا المصطلح ونظرّه تطبيقيا في كثير من كتاباته. وفي كراسه "مرهم" (1913)، نشر، كروتشونيخ أول نموذج للـ"زاووم". فقد قدم القصيدة الأولى في الكراس، بالملاحظة التالية: "هنا ثلاث قصائد كتبت بلغتي الخاصة تختلف عن لغات الآخرين، ليس لكلماتها معنى محدد"، وكانت القصيدة مكوّنة من مقاطع لفظية لا معنى مباشرا لها، موزعة الى خمسة أبيات:
"دير بُل شل
أبُيوشُر
سكوم
في- سكو- بو
ر ل يز".
هذه كلمات لا وجود لها في اللغة الروسية، ولا تدل على معنى واضح، لكن الروح البدائية للغة السلافية تتجلى في صوتياتها، بل هي أكثر روسية من لغة بوشكين، كما كتب كروتشونيخ.
وهذا الاكتشاف والقصيدة هذه بالأخص استوحى منها فكتور شكلوفسكي ورومان جاكوبسن المبادئ الأولى لما سيعرف فيما بعد في النقد الأدبي: تيّار "الشكليين الروس".
(الجنابي)

الشعر نفسه، العمل الحي. ولا نتناول عزلتها الأدبية بوصفها عنصرا مستقلا لأنها ترتبط عموما بواحد من هذه العناصر الأساسية. وحين يقول كروتشنيخ ان مقاطع لفظية مثل "دير" dyr و"بُل" bul و"شِل" shchyl(انظر الاطار على اليسار)تحوي شعرا أكثر مما يحويه كل ما كتبه بوشكين (أو شيء بهذا المعنى) فان هذا أمر يقع في منتصف الطريق بين الكتابة الشعرية الفيلولوجية والوقاحة الناجمة عن قلة أدب. وقد تعني فكرة كروتشنيخ، في شكل أرصن، ان تنغيم البيت في مفتاح "دير، بول، تشيل" يناسب تركيب اللغة الروسية وروح اصواتها أكثر مما يناسبها تنغيم بوشكين، المتأثر تأثرا لا واعيا باللغة الفرنسية. وسواء أكان هذا صحيحا أو لم يكن فالواضح ان هذه المقاطع اللفظية ليست مقتطفا شعريا من عمل مستقبلي وبالتالي ليس هناك مجال للمقارنة. ولعل احدهم سيكتب قصائد بهذا المفتاح الموسيقي والفيلولوجي تكون أعظم من قصائد بوشكين. ولكن علينا ان ننتظر.

كما سبق القول فان "مستقبلية" روسيا الأصلية كانت ثورة بوهيمية، أي يسار الانتلجنسيا شبه المُفْقَر في مواجهة الجمالية المغلقة والشبيهة بالطائفية الباطنية للانتلجنسيا البورجوازية. وكان محسوسا، من خلال الغلاف الخارجي لهذه الثورة الشعرية، ضغط قوى اجتماعية عميقة، لم تفهمه المستقبلية نفسها فهما كاملا. وكان النضال ضد قاموس الشعر القديم وطريقته في رصف الكلمات، بصرف النظر عن كل ما فيه من بذخ بوهيمي، ثورة تقدمية على قاموس مكتظ ومنتقى بافتعال من أجل ألا يعكره أي شيء براني، ثورة على الانطاعية التي كانت ترتشف الحياة بقصبة، ثورة على الرمزية التي أصبحت باطلة في خوائها السماوي، على زينايدا هيبيوس Zinaida Hippius وامثالها، وعلى كل الليمونات المعصورة الأخرى وعظام الدجاج العارية للعالم الصغير الذي تعيش فيه الانتلجنسيا الليبرالية ـ الروحية. وإذا استعرضنا بانتباه الفترة التي خلفناها وراءنا، لا يسعنا إلا ان ندرك الى أي حد كان عمل المستقبليين حيويا وتقدميا في مضمار الفيلولوجيا. ومن دون المبالغة بأبعاد هذه "الثورة" في اللغة، علينا أن ندرك ان المستقبلية طردت من الشعر الكثير من المفردات والعبارات البالية التي دخلت أو تدخل قاموس الشعر، والتي يمكن ان تغني اللغة الحية. ولا يتعلق هذا بالكلمة المنفصلة وانما بموقعها بين الكلمات، أي تركيب المفردات وبناؤها. وفي مجال التراكيب التي يمكن ان تصطف بها الكلمات كما في مجال تشكيلاتها فان المستقبلية حقا تخطت الحدود التي يمكن ان تتحملها لغة حية. ولكن الشيء نفسه حدث مع الثورة، وهذه هي "خطيئة" كل حركة حية. صحيح ان الثورة، وخاصة طليعتها الواعية، تبدي نقدا ذاتيا أكبر مما يبديه المستقبليون، ولكن مقابل ذلك لاقت الثورة ايضا مقاومة اشد من الخارج، والمؤمل انها ستلاقى مزيدا منها في المستقبل. فان ما انتفت الحاجة اليه سوف يسقط وهو يسقط بالفعل، ولكن العمل التطهيري اساسا والتثويري حقا، الذي يُنجز في مجال اللغة الشعرية سيبقى.

تقف المستقبلية ضد الغيبية وضد التأليه السلبي للطبيعة، ضد الارستوقراطي وغيره من اشكال الكسل، ضد النزعة الحلمية وضد استدرار الدموع، ومع التكنيك، مع التنظيم العلمي، مع الآلة، مع التخطيط، مع قوة الإرادة، مع الشجاعة، مع السرعة، مع الدقة ومع الانسان الجديد، المسلح بكل هذه الأشياء. وترتبط "الثورة" الجمالية ارتباطا مباشرا بالثورة الأخلاقية والاجتماعية. وكلاهما تلجان بصورة تامة وكاملة الخبرة الحياتية للشريحة الجديدة، الشابة والجامحة من انتلجنسيا اليسار، البوهيميا الخلاقة. وينتج القرف من تحديدات الحياة القديمة وابتذالها اسلوبا فنيا جديدا كطريقة للهروب، وبذا ينتهي القرف. وفي تراكيب مغايرة وعلى أسس تاريخية مختلفة شهدنا قرف الانتلجنسيا يشكل أكثر من اسلوب واحد جديد. ولكن هذا كان دائما نهاية الأمر. وهذه المرة قامت الثورة لتجد المستقبلية في مرحلة معينة من نموها فدفعتها الى الأمام. وأصبح المستقبليون شيوعيين. وبهذا الفعل ذاته ولجوا عالم الأسئلة والعلاقات الأعمق، التي تتجاوز ببعيد حدود عالمهم الصغير، ولم تترسخ عضويا في نفوسهم. ولهذا السبب يكون المستقبليون، بمن فيهم ماياكوفسكي نفسه، في أضعف حالاتهم فنيا عند تلك النقاط التي يصبحون معها شيوعيين. وهذا نتيجة ماضيهم الروحي أكثر منه حصيلة اصولهم الاجتماعية. فان الشعراء المستقبليين لم يتقنوا عناصر النظرة الشيوعية والموقف الأممي بما فيه الكفاية لإيجاد تعبير عضوي في الكلمات. وهم لم يدخلوا دماءهم، إن جاز التعبير. ولهذا السبب كثيرا ما يكونون عرضة لهزائم فنية ونفسية ـ لأشكال خشبية مفتعلة ولكثير من الجعجعة بلا طحين. وتصبح المستقبلية في أكثر اعمالها ثورية وجاذبية "عملية اسلوبية". ومع ذلك فان الشاعر الشاب بزيمَنسكي Bezimenski، الذي تربطه آصرة قوية بماياكوفسكي، يعطي تعبيرا صادقا بحق عن وجهة النظر الشيوعية، والسبب ان بزيمَنسكي لم يكن شاعرا مكتمل التكوين حين أصبح شيوعيا بل ولد روحيا في الشيوعية.

تتكون المنطلقات الايديولوجية المطلوبة للثورة قبل الثورة، وأهم الخلاصات الايديولوجية التي تتمخض عنها الثورة لا تظهر إلا لاحقا بزمن طويل. وسيكون من الخطل تحديد هوية المستقبلية والشيوعية بعقد مشابهات ومقارنات، والخروج بنتيجة مؤداها ان المستقبلية هي فن البروليتاريا. فان مثل هذه الإدعاءات يجب ان تُرفض، ولكن هذا لا يعني اتخاذ موقف ينظر بازدراء الى عمل المستقبليين. فنحن نرى انهم حلقات ضرورية في بناء أدب جديد وعظيم. ولكن سيثبتون انهم لم يكونوا إلا واقعة مهمة في ثورتها. ولإثبات ذلك يتعين مقاربة المسألة مقاربة ملموسة وتاريخية أكثر. فالمستقبليون بطريقتهم الخاصة مصيبون عندما يردون على المقاربة التي تذهب الى ان أعمالهم تقف فوق رؤوس الجماهير، بالقول ان عمل ماركس "رأس المال" ايضا يقف فوق رؤوس الجماهير. وبالطبع ان الجماهير ليست جاهزة ثقافيا وجماليا، ولن تنهض إلا ببطء. ولكن ما هذا إلا سبب واحد في كون المستقبلية فوق رؤوس الجماهير. وهناك سبب آخر. فالمستقبلية في اساليبها وأشكالها، تحمل داخلها آثارا من ذلك العالم، أو بالاحرى من ذلك العالم الصغير الذي وُلدت فيه، والذي لم تتركه، نفسيا وليس منطقيا، حتى يومنا هذا. ومن الصعب تجريد المستقبلية من أهاب الانتلجنسيا صعوبة الفصل بين الشكل والمضمون. وعندما يحدث ذلك ستمر المستقبلية بتحول عميق ونوعي حتى انها لن تعود مستقبلية. وهذا ما سيحدث ولكن ليس غدا. بيد اننا حتى اليوم نستطيع ان نقول بثقة ان كثيرا من المستقبلية سيكون نافعا ويسهم في الارتقاء بالفن واحيائه، إذا ما تعلمت المستقبلية أن تقف على قدميها، دون محاولة لنيل اعتراف الحكومة بها مدرسة رسمية، كما حدث في بداية الثورة، فالأشكال الجديدة يجب ان تجد لنفسها، بصورة مستقلة، منفذا تصل منه الى وعي العناصر المتقدمة من الطبقة العاملة فيما تتطور هذه الأخيرة ثقافيا. ولا يمكن للفن ان يعيش، أو يتطور من دون اجواء مرنة من التعاطف تحيط به. وعلى هذا الطريق، ولا طريق سواه، تقع عملية بناء علاقة متبادلة معقدة. ومن شأن التطور الثقافي للطبقة العاملة أن يساعد ويؤثر في اولئك المجددين الذي حقا لديهم ما يقدمونه في صدورهم. وستتلاشى الخصوصيات السلوكية التي لا مفر من ظهورها في المجموعات الصغيرة، ومن البراعم الحية تنبثق اشكال منعشة لإنجاز مهمات فنية جديدة. وتعني هذه العملية أول ما تعنيه، تراكما في بناء ثقافة مادية وتناميا في الازدهار وتطورا في التكنيك. وليس هناك طريق آخر. ويتعذر ان نظن جادين ان التاريخ سيحفظ ببساطة اعمال المستقبليين، ويقدمها الى الجماهير بعد سنوات طويلة، حين تكون الجماهير نضجت وخلفتها وراءها. وسيكون هذا، بالطبع، تجاوزا بأنقى صوره. وعندما تحين تلك الساعة، وهي ليست قريبة، وتردم التربية الثقافية والجمالية للجماهير العمالية، الهوة بين الانتلجنسيا المبدعة والشعب، سيكون للفن وجه مختلف عنه اليوم. وفي مجرى تطور هذا الفن ستثبت المستقبلية انها كانت حلقة ضرورية. فهل هذا بالشيء القليل؟(...)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف