انتقاد الغرب والبلد الأصلي معاً في رواية محمد ميلود غرافي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لجأ الشاعر المغربي محمد ميلود غرافي إلى هذا النوع الأدبي - الرواية - نظراً للزمان والمكان الكافيين لتقديم صورة شبه مفصلة عن تجربة شخصياته، و إبراز غاياتها ودوافعها وأهدافها، وليبين أيضا للقارئ حاضرها وماضيها، ويعطيها حرية الحركة والتنقل وتبديل المكان.
يتناوب على عملية السرد في رواية "لم أرَ الشلالات من أعلى" (دار الغاوون) راويان أساسيان هما:
أولاً، الراوي - المؤلف و قصتة بالمهجر. الشخصية المحورية في الرواية مهاجر علني (طالب) وليس سريا (حراق) كما هو في العمل السردي لمصطفى شعبان "أمواج الروح".
ثانياً، حكاية الأب ونضاله السياسي.
يهيمن السارد الأول على سرد أغلب أحداث الرواية. لم يسهب في الحديث كثيرا عن الام الهجرة والحنين إلى الوطن وعن إشكالية الإختلافات الثقافية والاجتماعية وعن علاقة الأنا بالأخر، لأنه يعي تمام الوعي انها مواضيع خاضت فيها الرواية المهجرية أشواطا مهمة. لذا فالجديد في هذا الإنجاز السردي الرائع هو التطرق إلى مواضيع أكثر أهمية كمسألة انتقاد المجتمع الغربي والوطن الأم.
انتقاد البلد الأصلي - الجانب السياسي
يواصل مشبها أحد رموز اليسار السياسي المغربي إبان فترة الستينيات من القرن الماضي برفاقه: "لو كان المهدي لايزال حيا لانتهى كما انتهى أصحابه و رفاق دربه.أي وزيرا أول في أحسن الأحوال أو وزيرا بدون حقيبة". وفي خضم حالات التذكر والإسترجاع يعرض السارد لأهم الأحداث التي عرفها المغرب في الثمانينيات. تحديد الزمان وخاصة السنة والشهر يقربنا أكثر من الحدث وما عرفه المغرب من مسيرات شعبية في مختلف انحاءه مطالبة بتخفيض أسعار الخبز والزيت وما تلقته من معاملة وحشية من طرف العسكر. يقول: "بدأ العسكر المرابط أسفل المقبرة في إطلاق الرصاص. صاحت أمي عند باب البيت: أدخل ! قلت إنهم يطلقون الرصاص في السماء. كانوا يطلقونه في الجمع". وعن العسكر يواصل: "كانوا سكارى عن اخرهم و يصيحون يا أولاد القحاب". إنه مشهد رهيب! شبيه بما يجري من أحداث في ظل هذا "الربيع العربي". إن انتقاد محمد ميلود غرافي للبلد الأصلي هو إنتقاد لواقع الأنظمة السياسية العربية كذلك التي عملت على تفقير وإذلال شعوبها. اجتماعياً الوصف الدقيق للمكان (المنزل، الحي): "كان البيت الوحيد ذا السقف الخشبي و القصبي في حي سالم. ما زال واقفا. قلت مرارا إنه من عجائب الحي القليلة. أبي يقول إنه واقف بفضل ربي. أمي تقول إنه واقف بفضلها"، يجعلنا نحس بصعوبة العيش وبالفوارق الإجتماعية، ونعاود تذكر بيوت الطفولة فنحس بالخزي تجاه المكان، أي غربة داخل الوطن.
وخصص الروائي حيزا مهما في الرواية للتناقض الديني للمهاجر المغاربي أو المسلم بشكل عام، حيث الإلتزام بالشعائر التعبدية من صلاة وصوم و زكاة و... و التراجع في الجانب السلوكي و الأخلاقي. يقول عن الناجم :"يقيم الصلوات الخمس في مواقيتها أو في غير مواقيتها و يفتح الباب خلسة مرة في الأسبوع لأول امرأة عابرة. يقول إن الله غفور رحيم". يضيف عن مصطفى: "... وثلاجة صغيرة أعلاها لحم حلال و أسفلها زجاجات بيرة". وعن الشاب كريم: "يمضي النهار كله وبعض الليل يرديد عاليا الآيات القرآنية نفسها أو بكلام لا نفهمه. رائحة البخور تتسرب من غرفته كل مساء وتملأ الجناح السكني و الغرف المجاورة". أمام هذه الإزدواجية يمكن القول أن بعض أفراد المجتمع الإسلامي تعاني حالة مرضية، أي انفصام الشخصية. حالة تناقض بين ما هو تعبدي و بين ما هو اعتقادي و سلوكي. يرجع هذا إلى سوء فهم فلسفة الدين ومقاصده. إذن أين الخلل؟ هل الشخص هو المسؤول الوحيد عن هذه الحالة المرضية أم هناك دخل للمناهج التعليمية و التأطير و التكوين في هذه الإشكالية؟فعلا الشخص نفسه يتحمل قسطا من المسؤولية كما للساهرين عن المناهج و البرامج التعليمية دور كبير لهذا السلوك. إن دروس المساجد والمؤسسات والجامعات مازالت تقدم دروسا عن مبطلات الوضوء، والعملية التعليمية التعلمية في مجملها لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب. المدرس أصبح تاجرا والمدير مخزني! يقول:" أخي الذي يرغمه أستاذه في كلية الحقوق على شراء مطبوعه الرديء وإلا "صفر" له يوم الامتحان الشفوي". "كان المدير الجديد للحي الجامعي يحمل شاربا أسود بارزا. كان مديراً سابقاً للسجن!".
انتقاد الغرب - سياسياً وإعلامياً
يبين الروائي أن أغلب خطابات الأحزاب السياسية وعود كاذبة، فالسياسيون يحاولون إقناع الشعب بكل الوسائل من أجل كسب أصواتهم. يقول: " و شيراك مازال يخطب و يكذب". ويرصد بكل وضوح أن هذه الأنظمة تعمل على توفير المجال الحيوي لشعبها فقط. يقول: " حقوق الإنسان أمر يهم الساسة الفرسيين حين يتعلق الأمر فقط بمواطنيهم". حقيقة الدول الغربية تعمل جاهدة لتحقيق رغبات أولئك الذين يسيطرون على النظام الإقتصادي. تعمل على إرضاء الطبقة المسيطرة في المجتمع، لأن هذه الأخيرة تملك وسائل الإعلام فبفضله تقوي مركزها وتدعم نفوذها السياسي وذلك بتضليل الرأي العام وتزييف الحقائق. يقول: " نشرات الأخبار مملة وفيها الكثير من الإنتقاء والزيف والأكاذيب". اجتماعيا أزال الروائي الستار عن مجموعة من المشاكل و المظاهر الإجتماعية التي تعرفها المجتمعات الغربية كمشلة السكن التي تفاقمت بشكل كبير.كما أشار إلى بعض المظاهر الإجتماعية التي يعرفها المجتمع الغربي. نذكر منها الشذوذالجنسي، الشح، إستغلال النفوذ، السرقة، النفاق والتمييز العنصري...إن مستوى التمييز على العرق ولون البشرة واللغة خاصة لايزال يمثل واقعا يبعث على الحزن. يقول: "كنت أقرأ جرائد عربية في القطار و ينظر إلي بعض المسافرين بنوع من الحقد والحذر"، "العربي القذر!". بهذا يكون الروائي قد صحح بعض المفاهيم الخاطئة التي كانت عالقة في أذهان أغلب السياسيين و المثقفين لدول الجنوب عن المساواة وحقوق الإنسان في العالم الغربي.لجأ محمد ميلود غرافي إلى الحوار لإعطاء الموقف قوة الإقناع و التبرير، فربيكا الأنجليزية الأصل تتكلم وفق ثقافتها فلا دخل للروائي فيما يحصل. تقول: "إن البريطانيين بشكل عام منافقون و لا يظهرون ما يبطنون". يقولون غير ما يفعلون، ويعلنون غير ما يضمرون و ذلك خوفا من القوانين التي شرعت لمعالجة هذه الظاهرة ليس إلا. ويمكن أن نلخص السبب الرئيسي لهذا التمييز العنصري في الشعور المرير بفقدان الهوية عند البعض وانتشار الحيرة والمخاوف والإستياء.
لقد أبرز الروائي محمد ميلود غرافي بكل وضوح عيوب المجتمع الغربي والبلد الأصلي معا، وصوَّر مجموعة من المظاهر قصد الإصلاح بلغة جد صادقة تمتعت ببعد أدبي وبلاغي كبير وهو ما قوَّاها من الناحية الفنية دون إغفال أهمية الحكاية.