نصرت مردان: قصتان قصيرتان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
موت سمكة
فجأة شاهد توقف السمكة البرتقالية الصغيرة عن الحركة. بعد فترة طفت على الماء، فاغرة فاهها الذي توقفت غلاصمها عن الحركة.
كانت قبل ثوان قليلة تتحرك وتنساب حول نفسها برشاقة، وتسبح بهدوء، دون أن يبدو عليها بأنها ستفارق الحياة بعد ثوان قليلة.
في واقع الأمر كان يشعر بالضيق من منظر السمكة الوحيدة، وهي تعيد حركاتها الرتيبة في عالمها الصغير دون انقطاع.. لكنه كان يبتلع تأففه وسخطه إكراما لولده الصغير، الذي أرغمه قبل أشهر على شرائها مع حوضها الصغير، الضيق.
أحيانا كان يفكر لو كانت لهذه السمكة القدرة على النطق، ترى ماذا كانت ستقول له عن حبسها الانفرادي في حوض لا يزيد كثيرا على حجم كف؟
تذكر، البلبل الحبيس في قفص من خوص سعف النخيل، الذي كان يربيه والده عندما كان صغيرا.. والذي كان يعود إلى سجنه طواعية، عندما كان أبوه يطلقه من القفص أحيانا..لكنها في كل مرة كانت تعود وتدخل من باب القفص الخشبي الذي يغلقه والده عليه، والذي كان يفتخر بأن بلبله مُدرب ووفي، وأنه سيعود إلى قفصه بعد جولة حزينة قصيرة ربما لأنه كان يعتبره وطنه، فهو لم ير عشا آخر غيره. وكان يحلو له أحيانا أن يغرد بترانيم عذبة مموسقة. لم يكن يدري هل أن هذا التغريد هو بسبب الغربة عن الأهل، أم انه ينادي على من لا يسمعه.
كم كان يحلو لوالده أن يسمع تغريد بلبل شريد على تعريشة العنب ليدخلا فيما بعد في دويتو من التغاريد.
كانت السمكة طافية تماما فوق ماء الحوض الصغير، لتبدو ملامح الموت على وجهها البديع لتصبح مجرد عينين جامدتين،وفم مغلق، وزعانف ثابتة، جامدة إلى الأبد.
فجأة أحس بابنه يندفع نحوه بصخب، وهو يحمل حقيبته المدرسية:
ـ أبي لماذا تنام السمكة فوق الماء؟.. احذر أن تهرب منك يا أبي وتعود إلى بيتها في النهر!
ثم انطلق لا يلوي على شيء.
دعوة عشاء
كنت أهز رأسي كوسيلة للرد على ما يوجه لي من كلام.
لم أكن أسمع أغلب ما كان يقال لي. كنت لا أزال أعيش جحيم رحيلك.كنت أستغرب،ألا يلاحظون بأنني لا أهتم بكلامهم !
صعدت الى غرفتي.نظرت الى وجهي في المرآة.كما أنا شاحبة يا الهي ! أيمكن أن ألقي بثقل الفراق عن كاهلي،وأمسح كل ما يمت إليه من قلبي؟
أحسست بندم عميق لزيارتي هذا القصر، قصر عمي.لكنني كنت مرغمة فلا مكان أخر استطيع اللجوء اليه.
جلست قرب النافذة،ودخلت لهنيهة في حوار صامت مع خضرة الغابة العميقة.
دخل الخادم الى غرفتي. ليقول لي:
"سيبدأ العشاء في الثامنة مساء."
" ومن هم بقية الضيوف؟"
" جيراننا الذين يسكنون هنا وبعض معارف عمك "
" عدت الى مقعدي قرب النافذة.
كم كنا سعداء في ذلك اليوم حينما سافرنا الى كركوك.كان الجو مضببا.حين قربنا من المدينة أخذ كلب أحد الرعاة يطاردنا ونحن ننظر إليه ضاحكين من السيارة. طلبت منك الوقوف لأجمع الورود البرية التي كانت تكشف أن الربيع بدأ يغزو البراري. بعد ربع ساعة كنا داخل المدينة التي كانت تبدو مثل صورة مرسومة بالألوان المائية بعد أن غسلتها أمطار الربيع.
اقترب مني عمي،وهو يومئ لخادمين يحملان صينية كبيرة فوقها تل من الرز وخروف مطهي خرج لتوه من الفرن.
انقطع اللغو واللهو والكلام وتجمع الكل حول الصينية كانت رائحة التوابل تتصاعد من جسد الخروف المطهي. بدأ الكل يلتهمون الخروف بنهم وشهية عدوانية.
نظرت صوب الصينية.كانت الأيدي تمتد وتتراجع وهي في كل مرة تحمل إلى أفواه أصحابها قطعة من لحم الخروف..
ألح عليّ عمي:
ـ هل ستكتفين بالتأمل فقط يا عزيزتي؟
صرخت بأعلى صوتي: لا استطيع.. لا استطيع.
جفل المدعون من قوة صرختي فتوقفوا قليلا، وأصبح جميعهم ينظرون اليّ، بدا عليهم وكأنهم ينظرون الى مجنونة قررت أن تقطع صلتها بالعالم. بدا لي رأس الخروف الذي قطعه أحدهم وحمله إلى طبقه للإجهاز عليه وكأنه رأسك الجميل يا حبيبي. كانوا لا يبصرون ذلك، لكنني أحسست بأنه رأسك الجميل الذي توسد صدري سنينا قبل أن يحترق و يتفحم في الانفجار الغادر، الذي غابت فيه شمس حياتي.