في شعر مالك المطلبي: عشٌّ أو قفص
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالرحمن طهمازي: ان البحث عن نظير واقعي للغة يدخل في اطار قصّة قديمة من قصص التحليل والقصد الى المعنى، وقد وصل الامر الى تقسيم الكلام اصطلاحيا الى حقيقة ومجاز، وهذه القصة مع قدمها فان فصولها ما زالت تروى باشكال وبمستويات متعددة ومختلفة، وانتهينا الى الاقرار الضمني بأحقية ان تكون قراءة الشعر - نقديا - مقرَّرة بوساطة النثر، سواء كان النقد مباشرا او غير مباشر، وبعبارة اخرى فان قراءة الشعر تتم في العادة نثريا، ويمكن تقدير الفارق - مهما كان النثر بارعا وحساسا وتكميليا - بين النص الشعري والقراءة النثرية، و اذا اردنا الاتساع: فالفارق قائم كذلك بين النص النثري والقراءة النثرية، وفي صلب العمل الثانوي للقراءة تقع قضية البحث عن نظير واقعي للغة والمسمّيات.
الملاحظة التمهيدية الاخرى متعلقة بالنقص في معرفة الحدود وبالتصور لعالم الشعر مما يزيد من صلاحيات القراءة النثرية والتقديرات المضاعَفة، لضرورة وغير ضرورة،
وكان لهذا المسلك الخاص بنقص المعرفة بالحدود او التغاضي عنها خارج نطاق الشعر نتائج واضحة في العلوم اللغوية العربية، حيث اتسعت دائرة النحو والبلاغة الى حدود دينية واخلاقية، تبدو ذات قيمة عامة في حين انها محددة الاصل فربما صار النحو- مثلا - نحوا دينيا ملزما في اخلاقيات الواجب والعاطفة معا (شبيها بلجاجة علم الكلام في افق بارد عقيم) ومن دون مناسبة؛ تلتبس احكامه وتتضارب احيانا مع النص من حيث تناهيه ولا تناهيه، فمع نجاحه في كونه دليلا الى النص وحافزا لاثارته وتحريك دلالاته، الا انه قد يضعه في بئر عميقة لا يستطيع النظر ان يخلص الى شئ منها (يقترن النظر في بئر عميقة عند ماثيو ارنولد بالعميان الذين يطحنون في صحراء) ولهذا علاقة بأصل نشأة النحو ثم باشكالات النشأة، فنحن - اذا عدنا الى موضوعنا المباشر - قد نحتاج الى الشعر في وظائف نثرية فيتوسع النثرعلى حساب تقلّص الشعر. لذلك لابد من ردّ الملاحظات النثرية الى الشعر، اذا اخذناه موضوعا للنثر ومرجعا غير صامت وليس موضوعا نثريا فحسب، وما لم نقم بهذا الرد فان التمادي في استبدال وظيفة بوظيفة قد يغير ملامح الاثنتين. انه ليبدو احيانا، نتيجة للتطرف في التلقي، ان الشعر نفسه منذور لتربص نثري بحق وبغير وجه حق. وبقدر تذكيري للقارئ بهاتين الملاحظتين فاني ارغب في عدم الانحراف عن شعرية قصيدة "عش البومة" لمالك المطلبي لاسيما وانّ الشاعر نفسه على علاقة متمرسة بالفكر اللغوي (بالاخص النحو والصرف) وعلى صلة حميمة بالادب العربي تأثّر بها ايقاع شعره في ستينيات القرن الماضي.
لكن النظير الواقعي هو ضرورة للاستمرار في قراءة من القراءات، وهكذا فان البومة هو اسم لطائر يقع على المذكر والمؤنث يخرج من عشه ليلا ليعود اليه نهارا وتدور حوله افكار وثقافة متعلقة في الغالب بالشؤم والشرور. كما يذكر ذلك مؤلفون عرب قدماء كثر (مادة بوم في حياة الحيوان للدميري).
تنقطع الخنثوية اللغوية في القصيدة ابتداءاً، فالمؤنث هو الصفة المطلقة، بدلالة اسم الاشارة "هذه" ثم بمجموعة الصفات التي تبدأ بـ"مقرورة" وتاء المضارعة: (تترك، تحط، تنزع...) والضمير "ها" في "عجيزتها" و"عينيها"، ومن هذا المدخل اللغوي يتطلع الاسم الواقعي للطائر الى النظير المجازي للانسانة، المؤنث ايضا، فالبومة "مجعّدة" مرتين، وهي صفة تخرج من الريش الى الجلد، وهي "معطرة بعطر العجائز" ثم كلمة "العجيزة" التي تستعمل للنساء (اذا استعملناها للرجال فعلى سبيل التشبيه - مادة عجز - لسان العرب) هذا اول اجراء تقوم به القصيدة في اتجاه النظير، بعد ذلك تقوم بنزع الصفة المتواترة عن البومة طيران الليل والركون في النهار: تتركني في النهار فارغا وتحطّ بي ليلا
امّا عشّ البومة فهو قفص القصيدة، وتعبر عنه بـ "قفص جسمي" وهنا يكون الجسم والبومة في مكان واحد، والفارق جدير الملاحظة، وهو واضح بين "اختيار" البومة واضطرار الجسم... ويعمل النظير عمله المشؤوم ليضاعف اتجاه القصيدة الى مرجعها الداخلي اللصيق حيث اقسى الشرور الخانقة
تنزع اعضاء حلمي واحدا بعد الاخر
وتضعها تحت عجيزتها
ثم ترقد عليها
وهي تدور بعينيها الليليتين
في قفص جسمي.
في اطار البحث عن المعنى (وهو هنا غير ادبي كما انه اضطراريّ) نجد "انا" القصيدة متعلقا بأنا الشاعر، حيث تكون ياء المتكلم قد تخلصت من خنثويتها في: تتركني في النهار فارغاً. وليس هنا من مبرّر شعري لتحويل المجاز الى رمز، فانا اقوم بذلك لغرض اضيق من حقل المجاز، الذي كان يسمى عن حق بالاتساع. انّ "فارغاً" هي الكلمة الوحيدة التي تعطي المتكلم صفة الذكورية في حين تكون البومة في حالة غياب لغويّ محكوم باسم الاشارة " هذه" الذي يعاني من الاستفهام غير الحقيقي "ما هذه" ومن جماعة الفاعلين المستترين المتكررين في تقدير ضمير الغياب "هي": تتركني، تحط بي، تنزع، الخ... ويقع انا القصيدة: المتكلم او المتعلق به، في دائرة المفعولية.
انّ ما يجعل الرمز في هذه القصيدة حلاً مقبولاً ومرحليا هو الرغبة في التوصل الى معنى غير ادبي مسوّغ بالدلالة المزدوجة لكلمة قفص. ففي الاضافة المحضة: قفص جسمي يقع الجسم مقفوصا في الوقت الذي يستضيف فيه البومة باعتباره عشاً. انّ اعضاء الاحلام المنتزعة ليلا لا تستطيع التهيؤ للاحلام.
ويأتي في اثناء هذا المعنى؛ وهو الاكثر اهمية من الناحية الادبية؛ نحوُ المحذوفات الكثيرة اضافة الى بنية اسم المفعول ومعناه المعجميّ، فالافعال كلّها مضارعة وفاعلها مقدَّر يعود على البومة، ثم ان اسماء المفعولين (وعلاقتها بالمضارع معروفة) كلها عاملة بتقدير نائب الفاعل، مع قدرتها على لعب الدور المتوسط للاسم في الثبوت وللفعل في الحدوث ويلتحق بهذا اسم الفاعل "فارغا" غير المتفرّغ صراحة لمعنى بنيته لكنه يتصف بها، اي انّ اسم الفاعل هنا يتصف بالفراغ اكثر من صلته بالذي يفعل الفراغ. فهذه الطاقة المتزايدة من الحركة والتي تنتسب الى محذوفات "نحوية" متكررة ومتعددة والى ابنية صرفية متنوعة تجعل من الرمز: البومة وانا القصيدة بؤرة للمعنى اللاادبي، لكنها بؤرة ادبية تؤطرها الجملة الكبرى: البومة المجعدة تتركني في النهار فارغا...
حيث لا يثبت مبتدأ الجملة الاسمية الاّ بحدوث خبرها... الجملة الفعلية... (وهو ما يدعوه المصطلح جملة كبرى)
اننا امام معنى لا ادبي، قابل للتداول، من حيث هو رمز، يحايثه معنى ادبي يقود اليه المعجم، وقدرة المحذوفات نحويا على الحضور في المعنيين (الادبي وغيره) وتأويل الحدوث في اسم المفعول على الاخص حسب الشروط. (الشروط النحوية في البناء الصرفي!)
قد يكفي اثنا عشر سطرا لبناء قفص حقيقي لبومة رمزية (ماذا لو ازاح الشعر في انتظامه المتلازم الخالد معناه الادبي الى معنى لا ادبي فصار القفص رمزيا والبومة حقيقية؟ لا بأس! فان النظير يتوعّد.)*
* في الصفحة نفسها من عدد الاقلام نشرت قصيدة "اللغة" للشاعر الى جنب "عش البومة" وتحت عنوان عام: قصيدتان، وعدا هذه المجاورة فقد كانت كلاهما باثني عشر سطرا. وكان لي سبب غامض للفضول في معرفة العلاقة بين القصيدتين، وبعد اعوام كثيرة، زهاء عشرين سنة، سالت الشاعر عن قصيدة "اللغة" فذكر لي ان القصيدتين كانتا واحدة.
قصيدتا مالك المطلبي
اللغة
الشمطاءُ ذاتُ الجلباب الابيض
والاسنان الحديديّة
التي تسمّي الأشياء!
كلا! شمطاء وذات جلباب ابيض
واسنان حديدية.
تسميّ الاشياء ؟ كلا
لقد زعمت ذلك.
لتغطية فعلها الشائن!
فكل ما اسند الى هذه الشمطاء
ذات الجلباب الابيض، والاسنان الحديدية
هو منح الاشياء حجوما"
متساوية!!!
عش البومة
ماهذه البومةُ المقرورةُ في قفص جسمي
البومَةُ المجعَّدةُ المعطَّرةُ بعطر العجائز
ذوات الحجوم المفقودة!
البومة المجعَّدة
تتركني في النهار فارغاً
وتحطّ بي ليلا
البومة المقرورة:
تنزع اعضاء حُلمي واحداً بعد الاخر
وتضعها تحت عجيزتها
ثم ترقد عليها
وهي تدور بعينيها الليليتين
في قفص جسمي.
مجلة الاقلام