ثقافات

عودة الى كلاسيك السينما (20): القطار

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

برشلونة: منذ فترة طويلة كان في نيتي الكتابة عن هذا الفيلم الرائع، بعنوانه القصير جدا "القطار" 1964، و المعقد التركيب و الصناعة، و المعاصر دائما، لانه يطرح المشكلة المروعة، و المتزامنة، اعني، اهوال الحروب، التي برزت برزت خلال العقد الاخير، خصوصا في جغرافيات الشرق الاوسط التي سرعان ما تبدأ حربا جديدة بعد نفض غبار الحرب السابقة، و لكن نحن هنا امام طرح فريد و مختلف. فهو لا يتحدث عن الضحايا البشرية في الحروب المدمرة فقط، هنا يضعنا الشريط امام ضحية اخرى، التي تمثل التراث و الثقافة و الابداع،
هذا السبب الاول الذي يجعلني الكتابة عن هذا الفيلم، و الثاني هو حبي الشخصي لكل محطات العالم و قطاراتها، فانا قضيت نصف عمري مسافرا فيها بين بغداد و اسطنبول، و معظم العواصم الاوربية في زمن كان فيه "جواز السفر" العراقي وثيقة محترمة لحامله، و في العديد من البلدان الاوربية انذاك تمنح تاشيرات الدخول على الحدود بعد دفع رسوم رمزية.
الان ومن شرفة عمري ساكنا تلال المتوسط أرى القطارات تسافر جنوبا و شمالا، و لا استهوي حداثتها، قطارات اليوم فقدت ميزنها كوسيلة نقل شعبي فيها تحاك الاحاديث و العلاقات الاجتماعية، ولكنني مازلت اتمتع ضجيجها منذ اكثر من 20 عاما.
منذ اختراع السينما في 1895، و بعد عقود قليلة من اختراع القطار كان هذا عنصرا عاديا في بداية صناعتها، منذ قطار "بيستر كيتون" الى قطار "الاخوان ماركس" الشهير، مرورا بكل قطارات الغرب الاميركي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. في أفلام لا تحصى.
شاهدت الفيلم اول ايام عرضه في بغداد في عام 1966، و عدت مشاهدته مرات أخرى، الاخيرة كانت الاسبوع الماضي. في صدفة غريبة حيث كان التلفزيون الاسباني يعرض فيلما وثائقيا حول مغامرة انقاذ محتويات متحف"البرادو"الاسباني العريق بينما كانت قوات الجنرال "فرانكو" تحاصر العاصمة الجمهورية الديمقراطية "مدريد"، و القوات الفاشية على مشارف المدينة قام مسؤلي المتحف و على رأسهم كان مديره، الشاعر العظيم "رافائيل

البرتي" بمغامرات عجيبة لانقاذ الاهم من كنوزه الفنية، و التي تعد بالآلاف، كي لا تسقط بيد الفاشية الهمجية، و قاموا بتهريب اللوحات في العدبد من وسائل النقل من السفن و العربات و القطارات الى فرنسا و من ثم الى سويسرا، و الجميل كان تعاون الناس البسطاء في هذه المهمة، في اعتبارهم كان انقاذ تراثهم الفني أكثر اهمية من انقاذ املاكهم الشخصية، و في حديث مع أحد الاصدقاء في لندن ذكرني هذا ما قام به الزعيم السوفيتي "ستالين" و قراره الحاسم في الدفاع اولا عن متحف "الارميتاج" العريق و كنوزه الفنية بنفس الدرجة في الدفاع عن مستودعات الطاقة و المياه، و نفذت خطة الانقاذ، و شدت الاعمال في صناديق جاهزة لنقلها الى سيبيريا، و من حسن الحظ كان فشل القوات النازية في اختراق دفاعات المدينة التي كانت تسمى "لينينغراد". كل هذه الاحداث و المشاهدات كانت بالي و انا اتذكر ما حدث في بغداد بعد أيام قليلة من احتلالها، حيث نهب متحف الاثار العراقي، و متحف الفن الحديث، و اتلفت المكتبة الوطنية بعد سرقة اهم كنوزها من الكتب و الخرائط النادرة. و فيما بعد استمرت اعمال السطو و النهب على طول و عرض خارطة العراق الاثارية و التراثية..
أعود الى الفيلم، و كما ذكرت في البداية أشعر ان الاختصار الشديد في عنوانه كان سببا في مروره البطئ في اعين النقاد و المشاهدين، ولكن المخرج الشاب حينذاك "جون فرانكهايم" 1930-2002 أصر ان يكون هذا، و أراد ان يصير القطار البطل الحقيقي لشريطه الرائع، و هو الذي اتحفنا بافلام راقية سابقا، مثل "سجين الكاتراز" او "رجل العصافير" الذي قام ببطولته "برت لانكاستر" و فيلم "مرشح منشوريا" في بطولة "فرانك سيناترا" و "لورنس هارفي" و التي فيها يلجأ الى "الاسود و الابيض" في التصوير في تعمد صريح كي يمنحها نوعا من الواقعية الوثائقية.
في فوضى الحرب، و النهب و السلب، هنا يصير القطار طوق نجاة الابداع و الاعمال الفنية، و كلها لوحات كان قد سرقها الجيش الالماني خلال سنوات احتلال "باريس" و كان الجنرال النازي المولع بالفن "فون ويلدهايم" الذي يؤدي دوره الممثل البريطاني العظيم "بول سكوفيلد" 1922-2008 الذي يعتبر واحدا من أهم أعمدة المسرح الشيكسبيري. هذا كان يخزن الاعمال الفنية المسروقة من متاحف رسمية، و من مصادرة مجموعات خاصة على طول و عرض الاراضي الفرنسية المحتلة، في نهاية 1944 و بعد عبور قوات الحلفاء شواطئ "نورماندي" و تقدمها منتصرة الى العاصمة "باريس" يقرر هذا تعليب لوحاته المسروقة في صناديق خشبية محكمة الاغلاق و حملها على قطار فرنسي باتجاه "برلين"و لكن السيدة "روس فالارد" مديرة المتحف، و بعد معرفة نوايا العسكري الالماني تسرع في الاتصال برجال المقاومة الفرنسية الذين يضعون على رأس مهماتهم منع سير القطار و لوحاته بكل الوسائل، و هذه ستكون مسؤلية مفتش طرق السكك الحديدية و عضو المقاومة "لاباش" الذي يقوم بدوره أحد اكبر نجوم هوليوود، "برت لانكاستر" 1913-1994 في أداء يفوق الخيال، وهذا في البدء يشك في جدوى هذه المهمة الخطيرة لانه كان يعرف قسوة النازيين، و أصرارهم نقل اللوحات مهما كلف الامر، و لكنه بعد أعدام احد سائقي القطار بعد محاولة هذا تخريب ماكنة القطار يقرر بذل كل ما وسعه في منع وصول القطار الى الحدود واعيا خطورة هذا القرار الذي ربما سيكلفه حياته، و هكذا تأمر قيادة المقاومة الفرنسية أنصارها و تنسق معهم على طول مسار الطريق الحديدي الذي يعبر نصف الاراضي الفرنسية، في بذل كل الجهود في منع، او على الاقل أبطاء تقدم القطار لمنح قوات الحلفاء التي كانت تطارد الجيش النازي المهزوم على كل الجبهات كي تصل لحسم الامر عسكريا، "لاباش" يشرف على العملية و كانه قرر الانتقام من قتل رفيقه سائق القطار "بابا بيلو" الذي يقوم بدوره الممثل المخضرم السويسري الاصل "ميشيل سيمون" 1895-1975 في اداء مذهل و مثيرا للانفعال، و حتى البكاء بعد اكتشاف محاولته تخريب ماكنة قطاره بوضع قطع من النقود في مستودع الزيت، و لحظة أعدامه في لقطات رائعة مثيرة للحزن و التعاطف من قبل المشاهدين. و يرفض تغطية رأسه قبل اطلاق النار عليه، و هو الذي كان في البداية يسخر من مهمة المخاطرة بحياة المقاومة من اجل انقاذ بضعة لوحات كان يشك في قيمتها و قيمة منفديها، و هكذا بين محطة و أخرى كان تقدم القطار بطيئا جدا بعد سلسلة طويلة من عمليات التخريب، و هذا يساعد من تكاثر عناصر المقاومة، و ينضم اليها العديد من الناس البسطاء و الفلاحين، و هؤلاء لا يتوقفون في وضع كل العراقيل على السكك الحديدية حتى حينما يامر العسكري الالماني بشد العشرات من الرهائن على مقدمة القاطرة في نية ردع المقاومة.
رغم هذا ام يترك "فرانكهايم" وضع لمسة عاطفية جميلة بين ضجيج القطارات و أزيز القنابل حيث يلتقي "لاباش"في فندق أحدى المحطات السيدة "كريستين" أرملة أحد رجال المقاومة، و العشق لا يدوم أكثر من ليلة واحدة كي تتورط في مهمة حمايته من ملاحقة "الغيستابو"، هذا الدور القصير تقوم به واحدة من اهم رموز السينما الفرنسية "جين مورو" 1928، و بعد سفر القطار البطيء و المتعثر يجد بطل المقاومة نفسه وحيدا في القيام بهذه المهمة الشاقة، فبعد وصول خبر نية طيران الحلفاء قصف القطار العاطل في واحدة من المحطات القريبة من الحدود، هذا يجازف بحياته، و بمساعدة سكان القرية يقوم بطلي سطوح عربات القطار التي تحتوي الكنوز الفنية باللون الابيض لتحذير الطيارين من قصفها، و هذه كانت تزدحم بأعمال فنانين فرنسيين و اوربيين من الانطباعيين، و رواد المدرسة التعبيرية، و السورياليين.
ينتهي الفيلم أخيرا بعد مرور واحدة من قوافل الجيش الالماني الهارب بمحاذاة القطار المسروق، و "لص" القطار يأمر أمر القافلة و جنوده بنقل اللوحات من القطار الى القوافل، و لكن العسكري لا يطيع هذا الامر بسبب اقتراب قوات الحلفاء التي كانت تطاردهم، و يكاد الجنرال الاصابة بنوبة عصبية امام هذا الموقف، و تغادر القافلة و يبقى العسكري الالماني وحيدا مع قطاره، و وحيدا امام "لاباش" الذي يبادله حديثا قصيرا و فريدا حول قيمة العمل الفني، و التراث الثقافي و ضرورته في الذاكرة الاجتماعية و ينتهي بأطلاق الرصاص عليه و قتله، و يبقى القطار بطلا كما متحف ثري ملكا للشعب الفرنسي.
المخرج يتبنى سينمائيا كتاب "جبهة الفن" للسيدة "روس فالارد"1898-1980 التي كانت تدير المتحف الخاص الذي أستخدمه الالمان مخزنا لاأكثر من 20. 000 قطعة فنية جاهزة لنقلها الى برلين قبل تحرير "باريس"بأيام، الفيلم يبتعد عن تقاليد الافلام الحربية التي اعتدنا مشاهدتها، و يتخلى عن الديكورات "الكارتونية" في تصوير خارجي متواصل يعطي الانطباع بواقعية حركة مستمرة و توقع مذهل، حيث لا مكان للخدع السينمائية، المسألة كانت بين قطارات و محطات حقيقية، و بطولة المقاومة الفرنسية حيث يقوم المصور العظيم "جان تورنيير"1926-2004 بأهم انجازاته التصويرية حيث أعتاد أستخدام 7 كاميرات دمرت ثلاثة منها في تصوير حقيقي لاصتدام قطارين في محطة"أويني". و لقطة قصف محطة "غاركينيل" التي مدتها دقيقة واحدة على الشاشة كلف انجازها 6 أسابيع، و بمساعدة أكثر من 50 خبيرا في المتفجرات.
في تأريخها الطويل تناولت صناعة السينما مواضيع الحروب و ماسيها، و أشكاليتها في المئات من الافلام، هنا يأخذ المخرج جانبا اخر نادرا ما حدث في هذه الصناعة، و هو "تكريم" الابداع و استعداد الانسان التضحية بحياته من أجله، ففي تلك الصناديق الخشبية المحكمة الاغلاق كانت ذاكرة المجتمع الثقافية، و أسماء فنانين في جهدهم قلبوا مسار الحركة الفنية في العالم بين نهاية القرن التاسع عشر حتى الربع الاول من القرن العشرين، مثل "سيزان. رينوار.. غوغان. فان كوخ. بونار.. لوتريك.. براك،، و بيكاسو".
فيلم رائع يستحق أستذكاره في تكريمه للمبدعين، و المقاومة الفرنسية، و عمال القطارات، أذا اعتبرنا ايضا الحوار و السيناريو الجميل الذي كتبه "فرانكلين كوين" 1912-1990 الذي يفوز على جائزة "أوسكار"، وروعة موسيقى "موريس جار" 1924-2009،
أخيرا اود الاشارة الى ان الحكومة الفرنسية وضعت تحت تصرف المخرج كل أمكانيات مؤسسة سكك الحديد الوطنية، بجانب العديد من وحدات الجيش الفرنسي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
القطار والرهائن
بوتان -

اعتقد او حسب ما اتذكره من الفلم المذكور ان الالمان جلبو اعدادا من رجال المقاومة الفرنسيين المعتقلين لديهم وربطوهم واقفين في الجهة الخارجية من عربات القطار لمنع رجال المقاومة من ضرب القطار وايقافها ..اي انهم جعلوا اولءك المقاومين بمثابة دروع بشرية لجماية القطار وما بحمله من تلك الاثار الثمينة ..ولا اتذكر نهاية الفلم المذكور ..مع تحياتي للكاتب المحترم