رجائي موسى: رماد القيامة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أحسستُ بطعنةٍ. تذكرتُ ماضىّ، عندما كنت أبحث عن جذور الفول فى رمل ناعم ومضاء بندى النهار. وعندما أمسك بواحدة أحشرها فى فمى وأكلها برملها وأبكى. أبكى لأنى لا أقدر على التوقف عن أكل الفول النىء وهو مغموس بالرمل وبطنى تنتفخ. أكل مثل ثعلب صغير. أكل بنهم وبجوع شديدين. بطنى تنتفخ وأحس بقىء ولا أتوقف عن الأكل. أغطى وجهى بالرمل، وأزرع عليه الفول، وأمضغ الجذور. كنت أنقل الفول، أملأ جيوبى منه وأجلس تحت شجرة صغيرة فوق غيط الفول وأضعه فى كنكة سوداء وأشعل النار فى حزمة حطب واغليه وأشرب المياه وأكل الحبات مسلوقة ومملحة.
كنت شيطان الفول
الشمس كانت تتخلل وجهى عبر حبات الرمل والماء، وتلسعنى، كانت تبدو لى من خلال الرمل كأنها مرآة كونية. كنت وحدى وسط حقل الفول. لا أرى سوى صبية يلهون بمياه الترع ويتسلقون أشجارا عالية. أنا وحدى أدفن رأسى بالرمل. هم يريدون عصافير وأنا أريد جذور الفول. كانوا يطيرون وأنا انزلق. هم ذهبوا إلى إله فوق، وأنا إلى إله تحت. هم ملائكة وعصافير، وأنا شيطان وحبة فول عظيمة
هل ترين وجهى؟
أنا رأيتك. كنتِ الشمس. كنتِ زهرة الفول. هل تذكرين البلوزة التى كنت أحبها. البلوزة الصفراء التى كانت تزهر كزهر الفول. تلمع كأشعة شمس تداعب صحراء رقيقة. شممت الرمل. كفك ملىء برمل. كنت أريد أن أمد لسانى وألحس رملك. رمل كفك الصغير. لم يأت أحد مثلك. أؤكد لك لم يأت أحد مثلك. رائحة عرق إبطك نقية مثل صحراء. أسمع موسيقاك، وكفك ممدوة كصحراء، وعروقك هى جذور الفول. وجهك يلمع.
أنت شمس عظيمة. تُرى لو ثقبتُ كفك بلسانى هل أصل الى حبة الفول فى الجهة الأخرى، أم أهىء جسدك للصلب وأجلس مثل مجذوب على باب جسدك وأنتظر القيامة؟
كفك للحياة. عندما لوحتِ لى مرة من القطار رأيتُ كفك يلمع مثل بحيرة. وحلمت بأشجار وبعصافير، لم تكن بحيرة، كانت كفا راحلة. وعدتك ببحيرة. قلت لى ذلك. أنتَ وعدتنى ببحيرة وها أنا أنتظر أن تحقق وعدك لى.
قلت لك: كنت أمزح. أنا اصنع الرمل. لا بحيرات فى تاريخى. من أين تأتى البحيرة؟
سأحكى لك قصة صغيرة. عندما كنت طفلا، يعنى لا أذكر عدد السنوات التى مرت منذئذ. نقلت حيوانا صغيرا مثل يرقة من الرمل ووضعته فى الدقيق. قالوا لى سيكبر ويصير غزالة. انتظرها.
انتظرتُ. وكنت أنام وأنا أحلم بغزالة تخرج من كيس الدقيق. ولا أعرف لماذا تخيلت لونها أخضر. كم يوم على أن أنتظر؟ يومان، أسبوع، شهر...
وبعد يومين ذهبت فلم أجدها. عرفت أنهم يكذبون على، فخرجت إلى الصحراء ليلاً أبحث عنها. فى هذه الليلة كانت البنت التى أحبها تعقد قرآنها فى الكنيسة. لم أكن أعرف ولكنى شممت رائحة بخار. بخار يصعد من ماء خلفى. من أين يأتى الماء؟. أنا هنا فى الصحراء والجبل ينمو كطاغية أمامى. الرمل يتنفس. هذا نتح. للرمل نتح.
خلفتُ ورائى البنت والدقيق والكنيسة ورحلت.
الآن..
أنتِ بصحراء أخرى. شممت رائحة. للصحارى لقاءات سرية يا أنتِ. رملٌ يسقط من عينى. أتنفس رمل. أبصق رمل. أنا رمل. لا أحس بوقع خطى الحياة على جسدى، فقط عندما يبلل روحى المطر.
صلاتى للمطر.
هات يدك والمسى وجهى. ماذا يصنع الغياب بالوجه؟ لا تخافى. وجهى مشتت مثل الأرض. محروق مثل حبة فول صافية ومملحة.
هل رأيت وجهى؟
أنت أنت. ذات الكف المثقوب. سأدخل هذا الكف لكى التقى بصحرائى. صحرواتان نائمتان على حلم حقل الفول.
عيناى تنظران الى أبدية ثعالب.
نوفمبر2012
القاهرة