ثقافات

(4) سيرغي باراجانوف طليقاً!

-
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"الآن، وبعد اعتقالي للمرة الثالثة بوسعي إيجاز سيرتي الذاتية بطريقة ما بالجملة التالية: استدرت فرأيت نفسي وقد أصبحت رجلاً عجوزاً" (س. باراجانوف)

لندن: بعد إطلاق سراحه في ديسمبر (كانون الأول) عام ١٩٧٧عاد باراجانوف إلى مدينته تبليسي (عاصمة جورجيا) بعد أن منع من العيش في أوكرانيا، ولكن ذلك لا يعني أن السلطات السوفياتية تركته وشأنه. إن تدّخل الشاعر الفرنسي أراغون وضجيج حملة الاحتجاجات العالمية التي توجّت أخيراً بإطلاق سراحه بأمر من الرئيس السوفييتي ليونيد بريجنيف نفسه كان قد أثار حفيظة إدارة الكي جي بي بالطبع ما دفعهم إلى الثأر منه والإيقاع به بوسيلة أخرى ربما هي أشد قسوة من السجن نفسه، فقد أدرج اسمه في القائمة السوداء وحظروا عليه العمل وممارسة مهنة الإخراج أو أي عمل له شأن بالسينما بدعوى أن أفلامه لا تليق بالشاشة السوفييتية وإن الناس ليسوا بحاجة لها أصلاً!.كان باراجانوف يقيم في مطبخ بيت والدته القديم في تبليسي في ظروف غاية في الصعوبة فالمنزل كان يخلو من أبسط وسائل الراحة حيث لا توجد تدفئة ولا حمام داخلي وكان سقف المنزل يرشح عند هطول المطر، فضلاً عن أنه كان يعيش حياته اليومية من مساعدات معارفه وأصدقائه أو بيع بعض ممتلكات العائلة. لكن رغم ذلك العوز وشظف العيش لم ينصاع أو يشكو لأحد، تماماً مثلما كتب الشاعر الروسي أوسب ماندلستام، الذي لقي حتفه في معسكرات الأعمال الشاقة الستالينية: "في الفقر الفاحش والشقاء العظيم يصبح العيش هادىء ورغيد" *.كتب باراجانوف حينها: "عدت بعد ثلاثين عاماً إلى المدينة التي ولدت فيها وأنا رجل عجوز، وكان الأمر كما لو أن لي جناحان، أحمل على أحدهما الشهرة والانتصار، وعلى الآخر أحمل ذل العبد والسجين والمدان. أنا لا أمتلك ألقاباً وجوائز. أنا لا شيء. أعيش في جورجيا، في تبليسي، في المدينة العتيقة لوالديّ، وحين يهطل المطر أنام تحت مظلة وأنا سعيد لأن المطر يذكرّني بأفلام صديقي تاركوفسكي..."في فترة البطالة القسرية تلك وعدم السماح له بمزاولة مهنته كمخرج واصل باراجانوف إنتاجه الفني بعملسكيتشات لأفلام المستقبل وكتابة سيناريوهات ومذكرات. فقد أنجز أكثر من عشرين سيناريو، منها على سبيل المثال لا الحصر (الاعتراف، الشيطان، القصر النائم، استشهاد القديس شوشانيك، وسواها) ولم ينتج أي واحد منها إلى السينما بالطبع، لأن السلطات السوفييتية اعتبرت أفلامه محظورة ولا تستحق العرض على الشاشات السوفييتية. "الناس لا يعرفون هذا المخرج" هكذا كانوا يتحدثون بلسان الشعب دون تفويض منه بقسوة لا مثيل لها ونظام قسري زعم أنه أكثر الأنظمة إنسانية في العالم!.في مقابلة له مع صحيفة اللوموند الفرنسية أجراها معه المراسل الصحفي الفرنسي من أصل أرمني أ. أنيسيان عام١٩٨٠ وعنوانها (المخرج غير المرغوب فيه) قال باراجانوف: "من أجل توجيه اتهامات ملفقة ضدي سموني مجرماً، لصاً وشخصاً معارضاً للحكومة السوفييتية، واتهموني قبلها بالمثلية الجنسية وقد كلفني كل ذلك الكثير. أنا حر الآن، إلا أنني لا أشعر بالأمان مطلقاً. إنني أعيش في حالة خوف دائم، وأخشى مغادرة منزلي. أخشى أن يسرقوا منزلي أو تحرق لوحاتي. الجميع هنا ينبغي أن يدرج اسمه في مكاتب العمل، أما أنا فاسمي في مدرج القائمة السوداء وغير مسموح لي بالعمل. يمكنهم اعتقالي في أي وقت يشاؤون لأنني عاطل عن العمل. إنني لا أمتلك الحق في الوجود. أنا إنسان خارج عن القانون. لقد كان لحياتي في السجن مغزى محدد على الرغم من أن الأمر لم يكن سهلاً. أما حياتي الحالية فليس لها أي معنى على الإطلاق. لست خائفاً من الموت، لكن حياتي الآن هي أسوأ من الموت. لقد طرقت كل الأبواب الممكنة. أرادوا مساعدتي في أرمينيا. في ستوديو (أرمينيا فيلم) أرادوا إنتاج أحد سيناريوهاتي إلا إن الإدارة منعت ذلك. طلبت مقابلة الوزير نفسه، لكن في كل مرة كنت أريد فيها مقابلته يقولون لي أنه في إجازة. ليس لدي الآن أي خيار. هذا الخمول لم يعد يطاق، وأنا لا يمكنني العيش بدون عمل. محظور عليّ مزاولة أي شكل من أشكال الإبداع، لذا ينبغي عليّ مغادرة البلاد بأسرع وقت ممكن". ومع ذلك لم يغادر البلاد. وقد تحدث في تلك المقابلة بحدة وغضب حول غطرسة سيرغي باندرتشوك وموالاته المجانية للسلطات الحكومية وانتقد بشكل لاذع فيلمه (الحرب والسلام) الذي كان يشعر به أنه ـ يفتقر إلى صوت الشعب ـ كما وانتقد وضع الفن المعاصر في الإتحاد السوفييتي قائلاً: "حين أفكر في فقر وخواء الفن الرسمي الحالي، سواء كان ذلك في الموسيقى، الرقص، العمارة أو السينما، تنتابني حالة من البكاء). وحرصاً منه على جذب تعاطف الغربيين معه كان باراجانوف يتخطى ويبالغ قليلاً أحياناً في أبعاد سجنه كقوله مثلاً: "لقد سجنت مرة في أوكرانيا بتهمة كوني قومي أوكراني لأنني رفضت عمل دوبلاج باللغة الروسية لفيلمي (ظلال أجدادنا المنسيين) وقلت لهم أن الدوبلاج سيفسد ويشوه مغزى الكلمات". أو قوله في مناسبات عديدة: "أنا من أصل أرمني ولدت في جورجيا وسجنت من قبل الروس بسبب قوميتي الأوكرانية".تمّت بطبيعة الحال ترجمة ذلك اللقاء من الفرنسية إلى الروسية وأرسل إلى موسكو من قبل الكسندر كاراجانوف (أمين مجلس إدارة إتحاد السينمائيين لإتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفييتية) ليوضع في ملفات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.إن مقابلة صحيفة اللوموند تلك قد أثارت الدهشة ليس لصراحتها وجرأتها فحسب، إنما لحقيقة بسيطة جداً يعرفها الجميع وهي أن المقابلات مع الصحافة الأجنبية هو أمر غيرمسموح به مطلقاً إلا بإذن من السلطة السوفييتية.أمر كهذا يضاف اليه ثقل أعباء البطالة والتراخي والهمود، كل ذلك كان ينذر بتوقعات عودته إلى السجن ثانية في أية لحظة، وهذه المرة ربما بسبب التطفل على الآخرين ونفاد الصبر. كان الوسط الثقافي الجورجي غاضب إزاء ما يقاسيه فنان كبير مثل باراجانوف من قمع وعنف وقساوة السلطة، لذا قام حشد متنوع كبير من المثقفين بالتوقيع على نداء احتجاج ضد ما يتعرض إليه باراجانوف، هذا نصه:"نحن الموقعون أدناه من الكتاب والفنانين والعلماء ذوي وجهات النظر السياسية المختلفة نشعر بالقلق إزاء مستقبل الفنان سيرغي باراجانوف الذي نعتقد أن بوسعه كمخرج سينمائي قول الشيء الكثير عبر وسائله الفنية، شرط أن يسمح له بالعمل. لذا نناشد زملائنا من كل الأمم والقوميات لحّث حكوماتهم ومنظماتهم كمنظمة قلم ومنظمة العفو الدولية (حيث كان لفرعها في فرنسا الدور البارز لإطلاق سراحه من السجن)، نناشدهم للاحتجاج ضد قيود الحكومة السوفييتية المفروضة على حريته والمناشدة بالسماح له بالعمل. لقد دفع باراجانوف الثمن الذي فرض عليه من قبل، والآن نود أن نراه يستأنف مهنته كفنان. فإذا لم يتم استعادة هذا الحق ينبغي أن يكون البديل هو السماح له بالهجرة، رغم أنه لا يريد مغادرتة وطنه الأم". لم يلق النداء آذاناً صاغية بالطبع لا في جورجيا ولا في موسكو وذهبت الجهود كلها أدراج الرياح.بعد أن يئس تماماً من إمكانية عودته للعمل في السينما اضطر باراجانوف إلى البحث عن منفذ لحل معضلة العيش والتطفل على الآخرين فراح يتاجر ببيع التحف واللوحات والأشياء القديمة، فإبتدأ وضعه المعيشي يتحسن شيئاً فشيء.في أكتوبر ١٩٨١ تلقى باراجانوف دعوة من موسكو من المخرج المسرحي ومؤسس مسرح "تاگانكا" الشهير في موسكو "يوري لوبيموف" لمشاهدة البروفة الأخيرة لمسرحية "فلاديمير فيسوتسكي"** وكان من المقرر عرض المسرحية أمام الجمهور في ٢٥ يوليو من نفس العام لمناسبة الذكرى السنوية لوفاة فيسوتسكي.حضر باراجانوف إلى القاعة إلى جانب شخصيات من وزارة الثقافة وعناصر من جهاز المخابرات السوفييتية (كي جي بي). تم عرض البروفة أمام الحضور وبعد انتهائها وأثناء المناقشات أشار باراجانوف إلى الجوانب القوية والهشة في العرض وقدّم الكثير من المقترحات إلى المخرج. إلا إنه وكعادته لا يستطيع مقاومة سخريته ومرارته ومشاكساته، فاستدار نحو لوبيموف وقال: "يوري، لا تقلق كثيراً إذا طردوك من المسرح بسبب هذه المسرحية، فلن تبق عاطلاً عن العمل لمدة طويلة. فأنا على سبيل المثال عاطل عن العمل منذ عدة سنوات. صحيح إنني لا أقوم بفعل أي شيء، لكن يوجد ثمة من يدعمني. إنه البابا بطبيعة الحال، فهو الذي أنقذني حقاً، إنه يرسل لي الماس والجواهر وأنا أبيعها لأعيش. أستطيع حتى أن أتناول الكافيار كل يوم.. لقد أردت أن أنافسك وأقوم بعمل ما يا يوري. آه، أيّ عرض مسرحي مذهل هذا!. أيّ حركة مدهشة تلك التي كان يؤديها الممثلون! إنه شيء أشبه بقدّاس. إنني أساويك بموتزارت ياعزيزي يوري.إن كل ما قمتَ به الآن وإن ول لقاء لي مع رجال الأمن على خشبة مسرحك هذا كان بمثابة صدمة لي حقاً. آه، الأمر الجوهري قد حدث اليوم وهنا. فإذا ما أوقفوك عن العمل، دعهم حينها يوقفوك رغم ذلك!. أنا أعرف ذلك تماماً. لا تكتب أية رسالة، ولا تستجدي أحداً. ينبغي أن لا تتوسل وأن لا تستكين! إنك يوري لوبيموف، ونحن نفضلك على جميع أنواع الماكينات هناك".ثم واصل شتائمه وسخريته من السلطة السوفييتية واصفاً إياها بالفاشية، قائلاً: "إن أفضل الناس يتعفنون اليوم في السجون ومعسكرات الأعمال الشاقة، فيما يرتدي البيروقراطيون قبعات المنك القادمة من لوبيانكا (المقصود مقر جهاز كي جي بي). إنهم لن يهدئوا مطلقاً وهاهم قد وصلوا الآن حتى إلى المسرح".إن نوبات ومشاعر غاضبة كهذه ستفضي بطبيعة الحال إلى أن توضع حريته ثانية تحت المجهر. لقد فوجىء الناس الذين حضروا الإجتماع بحديثه لا سيما ما يتعلق بتلقيه الماس والجواهر من البابا. فليس من المستغرب أن تعتبر السلطات الحكومية مثل هذه التعليقات والتصريحات وتلك التي سبقتها في صحيفة اللوموند ماهو إلا تحدٍ مباشر لهم.وهكذا أرسلت موسكو نص ما صرح به باراجانوف إلى الكي جي بي في جورجيا مع تعليمات لإيجاد ذريعة لإلقاء القبض عليه. استدعي حينها من قبل الكي جي بي لقراءة المحضر المكتوب لغرض التأكيد على دقة محتواه، قرأ المحضر بصوت مسرحي وحين انتهى من قراءته أعلن أنه لن يحذف أي شيء منه، بل والأكثر من ذلك أراد التأكيد على ما قاله!.وبما أن التهم الموجهة ضده غير كافية بعد لاعتقاله وسجنه وخوفاً من قيام ضجة احتجاجات عالمية من تلك التي ساعدت في إطلاق سراحه من قبل، أخرج باراجانوف لكنه وضع تحت مراقبة الكي جي بي لغرض جمع أدلة وتهمووقائع أخرى لسجنه. لم ينتظر باراجانوف طويلاً فقد تم القاء القبض عليه في العام ١٩٨٢ هذه المرة بتهمة الرشوة (قيل أنه أهدى خاتم من الماس إلى عضو في لجنة القبول في معهد السينما والمسرح للحصول على مقعد لإبن أخيه، وأعطى أيضاً مبلغاً من المال لضابط شرطة كي يكتم سر الخاتم لأنه كان على علم بالصفقة. ففي ١١ شباط من العام نفسه التقى باراجانوف بذلك الضابط داخل سيارة وسلمه المبلغ، لكن في تلك اللحظة نفسها داهمته سيارة أخرى وتم القبض عليه بتهمة الرشوة. وقيل وقتها أن الأمر مدبرّ!).اعتقل وزج في سجن مجهول في تبليسي اسمه (أورتاتشالا) وأمضى عدة شهور هناك بانتظار قرار المحمكة. وقد عقدت المحكمة جلساتها القضائية الثلاث من ٢٢ ديسمبر إلى ٥ أكتوبر ١٩٨٢، ومثل باراجانوف أمام القضاء في الجلسة الأخيرة متعباً مكسور الشوكة وغير قادر على تحمل السجن ثانية معترفاً بإحساسه بالذنب مناشداً المحكمة أن تغفر له مؤكداً لهم أنه يحترم الحكومة السوفييتية موعداً إياهم بعدم إحداث مشاكل أخرى في المستقبل. في أثناء ذلك دخلت الممثلة الجورجية الشهيرة سوفيكو تشياوريلي *** قاعة المحكمة ومثلت أمام القضاء وصرخت بأعلى صوتها: "أي نوع من الناس أنتم لتحاكموه!؟ هل تعرفون من تحاكموا؟. إنه سيرغي باراجانوف؟". وكانت محصلة هذا السيرك القانوني الأخير أن أطلق سراحه، ولعل أحد العوامل الرئيسية وراء ذلك الإفراج هو تدخل السيناريست الإيطالي تونينو غوييرا وزوجته الروسية لاورا صديقا باراجانوف منذ السبعينات، فقد التقيا الرئيس أدوارد شيفرنادزه بالصدفة في أحد المنتجعات وطلبا منه الإفراج عن باراجانوف الذي أمر فوراً بالإفراج عنه. لكن وبسبب مشاركته في النداء لإطلاق سراح الشاعرة الروسية التترية بيلا أخمدولينا قررت المحكمة معاقبته بأن يوضع تحت المراقبة لمدة خمس سنوات.بدأ المناخ السياسي يهدأ في البلاد في منتصف الثمانينات وسمح لباراجانوف بالعودة إلى العمل ثانية بعون من النخبة المحلية له لاسيما نفوذ الممثل الجيورجي دودو أباشيدزه وأصدقاء آخرين، حيث عرض عليه ريزو تشيخددزه رئيس ستديو جورجيا السينمائي فرصة إخراج سيناريو فيلمه (أسطورة قلعة سورام). وحين تم الإعلان عن فيلمه الجديد تساءل الكثيرون عما إذا كان بوسعة مواصلة مهنته بعد فترة توقف دامت خمسة عشر عاماً بضمنها فترةسجنه. وهكذا ظهر فيلمه الجديد (أسطورة قلعة سورام) بمثابة هدية لمسقط رأسه، فهو يصور الحكاية الشعبية الوطنية الفانتازية الجورجية التي أعاد كتابتها كاتب جورجي من القرن التاسع عشر اسمه دانيال تشونكادزه والتي تتحدث عن التضحية بالنفس من أجل الدفاع عن الوطن.مرة أخرى يثير باراجانوف دهشة المتفرج بقوة وخصب مخيلته وفتنة جمالياته وثراء ألوانه وأيضاً الكثافة الشعائرية المدروسة مسرحياً لعنصر التمثيل، فضلاً عن أزيائه الغرائبية المتسمة بالعظمة والجلال وهو الضالع في ابتكارها بشكل مباشر.كان أيزنشتين قد فكر من قبل في إخراج فيلم عن عملية الإرواء في الشرق الأقصى السوفييتي بإطار تأريخي من خلال حكاية القائد المغولي تيمورلنك وقلعته الإنسانية. هنا يمكن القول أن باراجانوف في فيلمه (أسطورة قلعة سورام) ربما حقق الجانب الأسطوري لفكرة أيزنشتين. في عام ١٩٨٥ بدأ سيرغي العمل على فيلمه الوثائقي القصير (Arabesques on the Pirosmani theme) الذي يتحدث عن ثيمة الرسام الفطري الجيورجي نيكو بيروسماني "١٨٦٢ـ ١٩١٨"، إلا إن الوفاة المفاجئة لصديقه أندريه تاركوفسكي، الذي كان يلقبه بالعبقري، حالت دون إكماله الفيلم.عام ١٩٨٨ عاد باراجانوف إلى مشروع سابق كان قد بدأ به وأوقفه حينها وهو اقتباس القصيدة الملحمية المعتمة (الشيطان) للشاعر الروسي ميخائيل ليرمانتوف، إلا أنه بدلاً منها فضل العمل على حكاية قوقازية أخرى للشاعر نفسه وهي حكاية بعنوان (عاشق غريب). إنها قصة حب أخرى تشبه حكاية روميو وجوليت تتحدث عن علاقة منشد وعازف اسمه عاشق فقير ووسيم وعشيقته ماكولماكيري إبنة رجل غني يرفض طلب تزويج عاشق منها لأنه لا يحتمل رؤية إبنته تتزوج من شخص معدم وهو ما يدفع بعاشق إن يشرع في رحلة طويلة تستغرق سبع سنوات ليختبر نفسه ويصبح جديراً بطلب يد حبيبته.وجد باراجانوف، لحسن الحظ، التعبير الأفضل لمأزقه في فيلمه هذا، حيث ينبغي على المنشد أن يتحمل المشاق والمعاناة والألم عن طريق تعزيز روحه، في محاولة منه أن يصبح إنسانا حقيقياً، ليكون يوماً ما يستحق موقعه الصائب في عملية الخلق والإبداع.لم يستثير هذا الفيلم أي خلاف سياسي خاص في جورجيا مثلما أثار فيلميه السابقين "أسطورة قلعة سورام" و "ظلال أسلافنا المنسيين". بدلاً من ذلك، كان ثمة سبب آخر لتعقيد ظهور الفيلم إلى النور وهو تصاعد التوتر بين الأرمن والأذربيجانيين ووقوع اشتباكات في أقليم كاراباخ في جمهورية أذربيجان الأشتراكية السوفييتية. ففي يناير العام ١٩٨٨ بعث آلاف من أرمن كاراباخ عريضة إلى موسكو يطلبون فيها استفتاء بشأن وضع المقاطعة أو الأقليم. وفيما كان الفيلم قد تم تصويره وابتدأت مرحلة المونتاج أصر باراجانوف أن يضيف مشهدين مترابطين للفيلم هما: (الدير المدنس) و (الرب واحد) كاستجابة شخصية منه نحو الصراع الذي تشهده البلاد. في المشهد الأول يلجأ عاشق إلى كنيسة مهجورة يغزوها لصوص ويقوموا بتهديده. المشهد الثاني يقف عاشق هو ومجموعة من الأطفال في داخل الكنيسة. يقول باراجانوف بهذا الشأن: "لقد عملت هذا الفيلم لي أنا شخصياً ولشعبي. أنا شخص مسيحي لكنني عملت فيلماً عن الشعب الأذربيجاني المسلم.... وفيما كنا نصور الفيلم كانت هناك حرب تدور رحاها في كاراباخ بين الأرمن والأذربيجان. ووفقا للقوانين الوطنية كان علينا أن نترك الفيلم ونذهب إلى الخنادق، لكننا لم نذهب. فلو كنا فعلنا ذلك نكون قد خذلنا شاعرنا العظيم ليرمانتوف. لذا فقد عمدت أن أضيف مشهدين للفيلم كموقف منا لما يحصل من أحداث دموية".فيلم (عاشق غريب) في الواقع يعد واحداً من أبرز وأجمل أفلام باراجانوف، فهو يشرع من خلاله في رحلة إلى داخل أحد العوالم السرية للشرق بثقافته وتقاليده، طقوسه وموسيقاه الخلابة وشعره، حيث تتحول الشاشة إلى لوحة من المنمنمات الشرقية تجمع بين التأثير الفذ للألوان والغناء والرقص والأصوات الموسيقية.سمح لباراجانوف في ذات العام وللمرة الأولى بالسفر إلى الخارج تلبية لدعوة وجهت له من مهرجان ميونيخ السينمائي لعرض فيلمه (عاشق غريب). وفي كلمة افتتاح الفيلم قال سيرغي باراجانوف:"لدي شيء أود قوله بشأن فيلمي هذا. إنني أحب هذا الفيلم. ينبغي على كل فنان أن يعرف متى سيموت. أحب أن أموت بعد هذا الفيلم لأنني شغوف به. وهذا الفيلم مهدى إلى ذكرى صديقي الراحل أندريه تاركوفسكي. لذا ألتمس منكم جميعاً أن نقف لحظة صمت لذكرى هذا المخرج العظيم.(...........) آمين" (****).يبدو أن ثمة تلميح ما في هذا الإهداء وفي مضمون الفيلم أيضاً إلى استبداد وعسف والد العروس في الفيلم الذي هو بمثابة صورة أخرى لأجهزة القمع السوفييتية التي كبحت صوته وسجنته وأجبرت صديقه تاركوفسكي قسراً إلى المنفى.تدهورت صحة باراجانوف في عام ١٩٨٩ وتم تشخيص إصابته بمرض سرطان الرئة (المرض ذاته الذي أصيب به تاركوفسكي)، إلا إنه مع ذلك بدأ التحضير لفيلمه الجديد الذي هو بمثابة السيرة الذاتية له وهو بعنوان (الاعتراف)، الفيلم الذي (ليس بوسع أحد القيام بإخراجه سوى مخرج وحيد ولد في عام ١٩٢٤ في تبليسي. التوقيع: مؤلف توفي في طفولته... ١٩٦٩) وهي الكلمات المدونة في الصفحة الأولى من سيناريو الفيلم.كان لدى باراجانوف حلم مخبىء منذ عام ١٩٦٩ ألا وهو تحقيق فيلم يعتبره هو نفسه "أكثر الأفلام قداسة". كان يقول: "لدى كل مخرج فيلم اعترافي واحد، هو الأهم من بين كل أفلامه مثل فيلم (المرآة) لتاركوفسكي". ويضاف: "من بين كل سيناريوهاتي غير المدّونة وغير المنجزة بعد أود أولاً وقبل كل شيء أن أخرج مثل هذا الفيلم. ينبغي أن أعود إلى طفولتي لأموت فيها... أريد العودة إلى جذوري، لأعيد صياغة الماضي، لأوقظ ظلال أجدادي من كِسَرْ وشظايا وقصاصات ذلك الماضي، من ابتسامات الأشياء والوجوه، أن أحاول لصق صور طفولتي بعضها ببعض، لأنقذها من النسيان والموت..".هذه المقاطع مجتزئة من مقدمة نص سيناريو (الاعتراف) الذي هو بمثابة فيلم ـ ذاكرة، ارتقت إلى صورة!.بدأ باراجانوف تصوير الفيلم في في منتصف عام ١٩٨٩ في (ستوديو يريفان) وكان العمل على الفيلم متقطعاً بسبب سوء وضعه الصحي. فقد أمضى يومين فقط في موقع التصوير استطاع أن يصور مشهداً واحداً فقط من مذكرات طفولته وهو جنازة إبنة الجيران فيرا. كان يتوسل الطبيب وهو في حالة احتضار أن يمدد حياته "ولو لستة أيام فقط" كي يستطيع أن يوظف الوقت المتبقي لكتابة سيناريو عن طفولته.لم تسعفه العملية التي أجراها في موسكو فنقل إلى باريس بناءاً على دعوة من الحكومة الفرنسية للعلاج لكن مرضه لم يكن قابلاً للشفاء.توفي سيرغي باراجانوف في ٢١ يوليو ١٩٩٠ ودفن في يريفان وسط أبهة عظيمة في (مقبرة العظماء الأرمن) بجانب الملحن الكبير آرام خاتشوتريان والكاتب وليم سارويان.ووفقاً لولده الوحيد سورين الذي كتب في مذكراته يقول: (... في أعقاب نعش والدي وصل آلاف الناس قادمين من موسكو وكييف وتبليسي وكان العرق يرشح من أجسادهم من شدة وهج الشمس فقد كانت درجة الحرارة تصل إلى أربعين درجة مئوية، فكان سكان المنازل المجاورة يسقون موكب الجنازة بالماء على طول الطريق. وعندما ألقيت الحفنة الأخيرة من التراب على القبر، إبتدأ صوت الرعد وهطلت حينها أمطار غزيرة).هكذا توفي باراجانوف وهو يشهد تواً فقط بدء شهرته. مخرجون وفنانون كبار أمثال فيليني وتونينو غويرا وفرانشيسكو روزي والبرتو مورافيا وجوليتا ماسينا ومارسيللو ماسترياني وبيرتولوتشي وسواهم من بين من نعوا وفاته فبعثوا ببرقية عزاء تقول: "برحيل باراجانوف فقدت السينما العالمية أحد أهم عباقرتها وآخر سحرتها العظام، ولكن ستبقى أعماله تسعد الناس زمناً طويلاً".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف