قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عندما يتعلق الأمر بفيلم عن ألفرد هيتشكوك، المعلم الأول لآلاف المخرجين حول العالم فإن سقف المطالب يكون عادة مرتفعا جدا في حجم و قيمة المخرج البريطاني. "ساشا جرفازي" مخرج فيلم هيتشكوك 2012 كان يدرك ذلك جيدا وأقدم على الأمر في خطوة جريئة على الرغم من غياب نجاحات مدوية تذكر في مسيرته السينمائية. المخرج اختار تضييق زاوية التصوير إلى أقصى حد ممكن ليلقي الضوء على فترة من حياة هيتشكوك كان خلالها "رائد التشويق يستعد لتصوير فيلم "سايكو"، أشهر أفلامه و أكثرها إثارة على الإطلاق.هي إذن عودة ممتعة إلى أواخر سنة 1959 عندما بدأت فكرة إعداد شريط "سايكو" تخامر ذهن ألفرد هيتشكوك إثر اطلاعه على كتاب "روبرت بلوتش" الحاملة لذات العنوان. في تلك الفترة كانت الولايات المتحدة الأميركية قد خرجت للتو من سنوات الماكارثية والرقابة الخانقة التي كانت السلطات تمارسها على الأعمال الفنية. وعلى الرغم من جو الإبداع النسبي الذي كان ملائما إلا أن "الكود هايس"، وهو قانون كان بمثابة مقص رقيب مسلط على المبدعين، كان ما يزال فاعلا. المخرج البريطاني عرف أوج تألقه بعد النجاح التجاري الباهر الذي حققه شريط "نورث باي نورث واست" وكان بإمكانه المضي قدما في نفس الأسلوب المربح ماديا لكن "هيتشكوك" هذه المرة اختار السباحة ضد التيار. ترفض هوليود تمويل الفيلم فيقوم بتمويله بنفسه عبر رهن ممتلكاته. يدخل هيتشكوك في لعبة كان التحدي عنوانها الأكبر. رُفع الرهان أمام الكل: استوديوهات "باراماونت"، زوجته، القيم السائدة و لكن التحدي الأعظم كان أمام نفسه وهو الرامي إلى حقن دماء جديدة في شرايين مسيرته. كان يأمل في فيلم من دون نجوم، أو هي نجمة واحدة "جانيت لي"تخلص منها بالقتل في الثلث الأول من الشريط، فقدم فيلما زعزع فيها القيم السينمائية آنذاك بأن جمع فيه المحظوريْن: الدم والعري. كل ذلك بلغة سينمائية لبقة بعيدة عن الابتذال. هذا ما رسّخ سينما "هيتشكوك" في الأذهان، تلك القدرة الرائعة على التحدث عن كل شيء بلجوئه حصرا إلى تقنيات المونتاج، الموسيقى، لعبة الإضاءة وقيمة الإيحاء دون الوقوع في فخ المباشرتية الفجة. فيلم "ساشا جرفازي" أبدى طموحات توثيقية بالأساس واقتحم مناطق شخصية جدا من حياة "هيتشكوك". إذ تزامن إخراج شريط "سايكو" مع دخول علاقة "هيتشكوك" الزوجية منعرجا بالغ الأهمية بعد أن تعكرت العلاقة مع قرينته "الما ريفي"، إمرأة الظل في حياته ومصدر إلهامه الذي لا ينضب.نسق المد و الجزر الذي ميز العلاقة بين الزوجين في تلك الفترة شكّل العمود الفقرة للحبكة الدرامية لفيلم "جرفازي" حيث تضيق "الما" ذرعا بهوس "ألفرد" بالشقراوات و بميله الجارف نحو بطلات أفلامه عبر استراق النظر إلى أجسادهن في غرفة التبديل ولصورهن عند اختلائه بنفسه، في طقوس تحيل على نوع من الفيتيشية (فيتيشيزم). الأمر يندرج طبعا في خانة السر المشاع لمحور "الشقراء الهيتشكوكية" التي طالما مثلت مصدر الشرور في أفلام هيتشكوك عبر نموذج موحد ينطوي على الجمال الهادئ المرفوق دائما باضطراب نفسي معيّن: " النساء كما التشويق، كلما داعبن خيالك أكثر، كلما أيقظن فيك أحاسيس أكبر"، القولة لهيتشكوك نفسه وهي جامعة لفلسفة الرجل السينمائية.هنا تحديدا يكمن الرهان عندما يتعلق الأمر بتقديم فيلم يكون موضوعه "هيتشكوك"، في أن المتطلبات تكون أكبر من المعتاد. "ساشا فرزاجي" ولئن قدم عملاً يعد مقبولا حسب المقاييس الفنية للأعمال التي تعنى بالسيرة الذاتية للمشاهير إلا أن الإخراج تميز بـ "الوداعة"، إن صح التعبير، في تناقض صارخ مع الطابع الناري للموضوع. فضلا عن ذلك، تم التعامل مع الجانب السايكولوجي للموضوع بطريقة تفتقر إلى الحنكة أحيانا، من ذلك اللقطات التي نشاهد خلالها "هيتشكوك" تفضي به مخيلته إلى رؤية "ايد جاين"، القاتل المضطرب الذي استوحى منه قصة فيلم "سايكو"، على مستوى الشكل كما على مستوى المضمون بدت اللقطات المذكورة شديدة التباين مع النبرة العامة الفيلم وساهمت في كسر نسق كان متوازنا في مجمله. فضلا عن ذلك، لا يمكن فهم الأسباب وراء المرور بطريقة استعجالية جدا على اللقطات المفاتيح في فيلم "سايكو" لاسيما لقطة غرفة الحمام الشهيرة أين تم طعن الضحية و اكتفى المخرج بـ 5 دقائق على أقصى تقدير لرواية حيثيات تصويرها. "جرفازي" اختار لشريطه طابعا كوميديا على إيقاع السخرية الانجليزية اللاذعة التي ضمنها حوارات "هيتشكوك" مع زوجته، فكان النفس كوميديا أقرب إلى أسلوب الـ "فودفيل" منه إلى الدراما وربما كان هذا الاختيار طريقا مختصرة أكثر من اللزوم في بعض الأحيان لتبليغ المعنى دونما تعقيدات تذكر.على مستوى الشخصيات، على رأس الكاستينغ "أنتوني هوبكينس" الذي استنجد به المخرج لتقديم دور "ألفرد هيتشكوك" و رغم قيمة الرجل الفنية إلا أنه بدا غير مرتاح بتاتا في التعامل مع متطلبات الدور وانزلق في منحدر أداء مسرحي مبالغ فيه في بعض فترات الفيلم ما أثر على النتيجة النهائية على الشاشة. لم يكن سيئا لدرجة تنفير المشاهد لكن عندما يتعلق الأمر بـ "أنتوني هوبكينس" فإن الجميع يرفع سقف المطالب وكان من الواضح أن المخرج كان يفتقر إلى الكاريزما التي تجعله قادراً على الإشراف وتوجيه نجم بحجم "هوبكينس". على النقيض من ذلك بدت "هيلين ميرين" رائعة في دور الزوجة "الما" فجمعت في أدائها بين الدقة الاحترافية والعفوية اللازمة وسرقت النجومية من "هيتشكوك" ذاته، في حين أدت "سكارليت جونسون" دور "جانيت لي" بطلة فيلم "سايكو" لكن الفترة الزمنية لظهورها لم تسمح لها ببلورة شخصيتها تماما كما هو الأمر لـ "جيمس دارسي" الذي أدى دور "أنتوني باركينس" أشهر مجرمي "هيتشكوك" على الإطلاق. ناحية الديكور، كانت الأمور تسير بشكل أفضل و استطاع "ساشا جرفازي" أن يأخذ المشاهد في رحلة شيقة في قلب استوديوهات هوليود أواخر الخمسينات بطريقة شيقة للغاية. رغم بعض الهنات، الفيلم جدير بالمشاهدة ولعل اللقطة المركزية التي أنقذته من براثن الرتابة تلك التي اجتمع فيها "هيتشكوك" مع رئيس لجنة المراقبة مقترحا عليه الحضور للإشراف بنفسه على تصوير إحدى اللقطات المحرجة (لقطة الافتتاح التي سجلت أول ظهور لإمرأة تحمل صدرية لأول مرة في السينما الأمريكية)، و انتظر الجميع قدوم الرقيب لاستوديو التصوير...الانتقاد أمر بسيط، أصعب من ذلك بكثير، قدرات الخلق و الإبداع .