عودة الى كلاسيك السينما (21): الاخوة كارامازوف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الى علي درويش
برشلونة: التبني السينمائي لرواية "ف. دستويفسكي"الشهيرة "الاخوة كارامازوف"1880، كان مغامرة شاقة نجح في انجازها المخرج الاميركي الرائع "ريشارد بروك"1912-1992 بسبب من تعقد تركيبها و تعدد شخصياتها الرئيسية، و كل شخصية في تعقدها و عالمها الخاص و المختلف، من كل نواحي تكوين الشخصية الانسانية في تشابكها المرير و بالتالي قدرها الانساني. و يتمكن من تكثيف الرواية الطويلة جدا، و اختصارها بشكل ذكي و مخلص لفكرة المؤلف بحدود امكانية التيني السينمائي في شريط لا يصل طوله الى اكثر من ساعتين قليلا باعتباره من قلة المخرجين الذين تخصصوا في نقل الاعمال الادبية الرائعة الى الشاشة، مثل فيلم "لورد جيم"و "قطة على سطح الصفيح الساخن"و أفلام اخرى.
قصة الفيلم تروي حياة رجل فاسق و ارعن، غارقا في ملذات الحياة و طمع الدنيا، و هو ابا لثلاثة أبناء من زوجتين في زمن مختلف هذا هو السيد "فيودور كارامازوف" الذي يقوم بدوره الممثل الثانوي الابدي "جيمس. ل. كوب"1911-1967، و هذا كان قد لعب كل الادوار المحتملة في السينما على مدى عقود، و في هذا الفيلم يعطي الانطباع الحقيقي لشخصية متعثرة، و نفسية مقسمة بين المتعة و الطمع الذليل بجانب قسوته الصارمة على ابنائه، خصوصا في علاقته مع ابنه الاكبر من زوجته الاولى "ديمتري" الضابط في الجيش القيصري و هذا يكاد يفوق والده في الفسق و المجن و البوهيمية ليصل منافسته في غرام غانية حسناء، و هذا يعقد الامر أكثر و يزيد من الكره والخصام بينهما، اذا اضفنا
هذا الى المشكلة الاساسية بين الاثنين حول أرث يعود ل"ديمتري" و الاب يرفض منحه. يختار المخرج لهذا الدور الممثل الروسي الاصل "يول براينر" 1920-1985 و هو الذي اشتهر بصلعته البراقة في العديد من افلامه رغم انه لم اصلعا في الاصل، و في هذا الفيلم يقوم "براينر" بأجمل ادواره و يتمكن في أداء التحول البطئ من القسوة و المجون الى طراوة الروح و التسامح بعد عشقه للغانية "غروشينكا"التي سأتحدث عنها فيما بعد، و هذا التحول يتنبأ به شيخ الراهبنة اثناء توسطه في النزاع العائلي في انحنائه بخشوع امام "ديميتري"مما يثير تسأول الكل عن سر خشوع المتدين امام الزنديق، و هذه واحدة من المعظلات التي اعتاد طرحها الكاتب الروسي في معظم رواياته.
يتورط الضابط الشاب في مغامرة مع ابنة أحد القادة العسكريين حيث يساعدها في تجنب تعرض والدها للسجن لتقع في غرامه، و تقرر الزواج منه رغم الاختلاف الاجتماعي فهي تنتمي للطبقة الارستقراطية، و هذا الدور تقوم به الممثلة البريطانية "كلير بلوم" 1931.... و يقبل الزواج منها اولا طمعا في ثروتها خصوصا بعد خسائره الدائمة في القمار و بذخه في المتع، ثم تمنع والده صرف ارث امه له، و لكن الصراع يزداد تعقدا بعد تعرفه على الغانية صاحبة الحانة "غروشينكا" لينافس والده في غرامها هذا الدور تلعبه بجدارة الممثلة النمساوية "ماريا شيل" 1926-2005. فيصل الحقد بينهما قاتلا، لهذ السبب كل اصابع الاتهام تشير الى "ديميتري"بعذ حادث قتل والده في ظروف غامضة، و يسجن متهما بالقتل العمد رغم برائته، حينها تكتشف الغانية انها عاشقة فعلا لهذا الشاب التعيس الحظ، و تبذل الجهذ و المال من أجل انقاذه من الاعدام.
الشخصية الرئيسية الاخرى هي الابن الثاني "ايفان" الذي يلعب دوره الممثل "ريشارد بيسهارت"1914-1984. وهذا بدوره يحمل في صدره كرها صامتا لوالده، وهو المثقف، الكاتب المتنور ذو النزعة الوجودية و في صراع دائم مع فكرة العدالة و الحق، و الشر، و يتسأئل عن وجود الله و جدوى وجوده و شانه في حق عباده و الذي سينتهي بوعي او بدونه أيجاد طريقة قتل الاب دون الشعور بتوبيخ الضمير، و هذا يتم على يد "سميردياكوف" الشاب الذي يعمل خادما و طباخا في منزل الوالد، و في شائعات يقال انه كان ابنا غير شرعي ل "فيودور"، و الخادم هذا كان من اتباع "ايفان" في افكاره الوجودية، و كان من اكثر الاخوة كرها لسيد العائلة، و يقوم بترتيب خطة القتل بتفصيل دقيق، و يترك براهين و اثباتات تتهم الاخ الاكبر في تنفيذ الجريمة، و بعد اكتشاف لعبته يقوم بالانتحار، هذا الدور يقوم به الممثل "البرت سالمي"1928-1990، و من غرائب الصدف انه ينتحر فعلا في عام 1990 بعد قتل زوجته.
اما الاخ الثالث الاصغر "اليكسي" كان يمثل الاخلاص و النقاء و التضحية في هذه العائلة المفككة، و كان يمتص حقد الاخرين بصبر قديس، و كل احداث القصة تدور اثناء زيارته منزل العائلة قادما من الدير الذي يدرس فيه و يتأمل، و يقوم بهذا الدور الممثل الشاب حينذاك "وليام شانتر" 1931..... و هو كندي الجنسية و الذي سيرافق طفولتنا على مدى سنوات في لعبه دور "الكابتن كيرك" في المسلسل التليفزوني الشهير "ستار تريك".
في النهاية تتمكن "غروشينكا"بمساعدة "ايفان" تهريب حبيبها من السجن بعد رشوة بعض الحراس، و ينتهي الفيلم الذي يقترب كثيرا الى أصل الرواية رغم المئات من صفحاتها و تعدد طروحاتها الفلسفية و الاجتماعية و هذا كان امرا شاقا بالتأكيد كما قال المخرج فيما بعد.
كل صناعة الفيلم و تصويره كان داخل الاستوديو رغم ذالك يتمكن المصور "جون التون"1901-1996 الهنغاري الاصل منحه أجواء روسيا القيصيرية في منتصف القرن التاسع عشر، اما الموسيقى التي وضعها الموسيقي البولندي "برونسيلاو كابير"1902-1983 تغني هذا الانطباع بألحان غنائية غجرية في معضمها راقصة و سريعة الايقاع، و الفيلم لا يخلو من الاحتفالات الراقصة بين الحانة و منزل السيد "فيودور كامارازوف"، و نجاح الفيلم يعود بشكل كبير الى جهد كاتبي السيناريو الاخوين التوامين "جوليوس و فيليب ايبستين"1909-2000 بعد تفصيل و تقطيع الرواية و اعادة قرائتها مرة بعد أخرى، وهما مؤلفي أجمل سيناريو في تأريخ السينما الذي سمي فيما بعد"كازابلانكا"، اخيرا تنتهي "مترو غولدين ماير"من انتاجه في عام 1985.
أخيرا اود الاشارة الى ذاكرتي بشان الفيلم، عندما شاهدته لاول مرة منذ عقود، أثار انفعالي و ابكاني مشهد الضابط بعد هربه من السجن رغم اهمية الاسراع في الخروج من المدينة، يتذكر أهانته لاحد الضباط المتقاعدين امام ابنه الطفل الذي يسقط فراش المرض معتقدا ان والده كان جبانا في عدم الرد و تحدي "ديمتري" في مبارزة شرف، و رغم خطورة هذا ياتي هذا منزل الضابط العجوز، و امام ابنه يقدم له الاعتذار و الاحترام. فيشعر الطفل من جديد حبا لوالده. و انا شاهدت الفيلم مرات عديدة و ما ازال أجرب نفس الانفعال الاول. فيلم رائع اوصي مشاهدته.