ثقافات

"مصطبة" الامارات: "العمارة النحتية" بوصفها تنويعاً إبداعياً

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

تحتفظ الذاكرة المعمارية بنماذج تصميمية مشيدة، تنطوي على ضخامة في الكتل، وتتسم بفرادة الاشكال، فضلاً عمّا تتميز به من أهداف وظيفية ملتبسة، وغموض في اساليب التنفيذ. نحن نتحدث عن منشآت رحبة وفسيحة، مبنية في مناطق مختلفة من العالم، ما انفك مقياسها ومقاساتها يثيران لدينا كثيراً من الدهشة والحيرة. والاهم، تتمظهر بها جرأة وعزم (وحتى شجاعة!)، قبول فكرة تلك المباني وتبنيها، من قبل اصحاب الشأن، هم الذين ملكوا أمر اصدار اجراءات التنفيذ. كثير من الناس تساءلوا (ونزعم بأن مثل هذا التساؤل، سيظل قائماً، ما دامت المخيلة الانسانية قادرة ان تسبح بنهر مياهه سريعة ومتغيّرة)، عن مسوغات بناء تلك الاعمال الضخمة والهائلة، هي التى تبتعد كثيرًا عن كونها مجرد اعمال معمارية، أو إعتبارها منجزات فنية بحتة. إنها أقرب لتكون جنسًا ابداعياً قائمًا لذاته، يمكن ان ندعوه بـ lt;العمارة النحتيةgt;، التي تمزج مفهوم الفعل المعماري بالمنتج الفني في صيغة إبداعية واحدة، رغم التناقض الظاهر، في نحت المصطلح اياه. فهي بفورماتها وكتلها، تقترب من مفهوم العمارة، لكنها تظل غير نفعية، في حين تتراءى بهيئاتها المميزة منتجاً فنياً، ولكن بتنفيذ هندسي.
وفي هذا الصدد نحن، مازلنا، نتساءل عن جدوى وجود الاهرامات مثلاً. نعرف، بالطبع، إنها مقابر، مقابر لفراعين مصريين، ملكوا الدنيا ..وما بعدها، وفقاً للذهنية المصرية القديمة. لكننا، لحد الآن، لا نعرف، تحديداً، اسباب اختيار تلك الاشكال، ومبررات تلك الضخامة، بل وحتى اساليب تنفيذها تبدو غير واضحة، وهي مثار جدل ونقاش واسعين بين المختصين. لماذا، ايضاً، تم اصطفاء هيئات معينة للزقورات بكتلها المتدرجة وعلة إستخدام الوان طبقاتها المتدرجة؟ ماهو سر lt;اسرار(؟!)gt; بواعث وجود "خطوط نازكا" Nazca Lines المرسومة في صحراء البيرو بأميركا الجنوبية، بأشكالها المتنوعة والهندسية فائقة الدقة، وحجومها الهائلة، هي التى يعود تاريخها، بحسب العلماء، الى مابين 200 ق. م. و 600 ب. م.؟ والتي تم اكتشافها مؤخرًا (1920)، فقط عبر تحليق طائرة للمرة الاولىفي سماء البيرو. ماذا تعني، بل الى أي شيء ترمز "خطوط نازكا الشرق اوسطية" التي اكتشفت، مؤخرًا، في الصحراء الممتدة من سوريا وحتى السعودية، والتى دعاها العلماء بـ "العجلات"، وهي عبارة عن تراكيب حجرية في صيغة دوائر تشع من الداخل، باقطار تتراوح ما بين 66 مترًا و 35 مترًا، ويقال بأنها اقدم من مثيلاتها البيروفية. وهل يمكن، لحين الوقت الحاضر، ايجاد اجابات مقنعة، لـصخور وهيئة "ستونهنغ" في انكلترا؟ وماذا عن تماثيل رؤوس جزيرة "ايستر" العملاقة في مياه المحيط الهادئ، هي التي يصل طول بعضها الى الى 12 متراً ووزنها يقارب 82 طناً؟. وغير ذلك من الصروح الضخمة، المنتشرة في اصقاع العالم الفسيح، التي يتعذر ايجاد تفاسير مقنعة، لموجبات تشييدها، أو توضح، لنا، اسباب اختيار هيئاتها العملاقة.
أتكون هذه الاعمال بمثابة "شطحات" اللاوعي، هو الذي ما انفك يختبئ في مكان ما في العقل البشري، وكان في الماضي (الماضي السحيق!)، الوسيلة المهمة ..والوحيدة للمعرفة وكيفية السلوك، قبل أن يتغلب عليه "الوعي": الوعي العقلاني، لتمسي معايير الأخير هي التي تحكم طبيعة المعرفة وتحدد نوعية السلوك. واياً كان السبب، فنحن ما فتئنا، نسعى الى تفسير بعض تلك الظواهر والاحداث، ونعزوها الى "سلطة" خارجة عن اقانيم "العقل" وسطوته ومعاييره. فليس العقل، في الاخير، سوى أداة معرفة، ضمن أدوات "أخرى". أيكون هذا التفسير مقنعاً وعقلانياً، لفهم وادراك بعض من تلك الظواهر والاحداث، التي عرفتها الانسانية، ولم يجد العقل تفسيراً لها؟ لكنّ ثمة اعمالاً أخرى، بجانب تلك، قد يبدو وجودها مدركاً من قبل "العقل"، بيد أن مسوغات تشييدها، وكلفها الباهظة، وقصر حضورها في المشهد، يطرح كثيراً من التساؤلات عن جدوى تنفيذها.
تثير الاعمال "الفنية" المنفذة، من قبل الثنائي "كريستو وجان كلود" اهتمام الاوساط الفنية العالمية، لما لها من فرادة في الخصوصية، تنبع من طبيعة الافكار التى تسعى وراء تسويقها، ونتائج تلك الافكار المفضية، في المحصلة، الى رائدية في التشكيل المنتج و"غرائبيته" ايضاً، هو الذي يعد في كثير من الاحيان، تشكيلاً بيئياً نادراً وغير مسبوق في المشهد الفني العالمي.
ولد "كريستو جافاشيف" (كما ولدت زوجته جان كلود) في 1935، وسكنا معًا في نيويورك منذ 1964، وحصلا بعد ذلك على الجنسية الاميركية. (هو من اصول بلغارية، وهي فرنسية الاصل)، ونفذا اعمالاً ضخمة، من بينها: "تغليف الساحل" (1968-69) في استراليا، و"ستارة الوادي" (1970-72)، في ريفل بولاية كولورادو، و"السور المنساب" (1970-72)، في كاليفورنيا، "الجزر المحاطة" (1980-83)، في فلوريدا، وكذلك مشروع "تغليف الجسر الجديد- بون نوف" (1975-85)، في باريس؛ الذي استخدم في عملية تغليفه، ما مقداره 40 الفاً و876 متراً مربعًا من قماش البولي آميد المنسوج، و13كيلومتراً من الحبال. ومشروع "المظلات" (1984-91)، في اليابان واميركا. ويعد مشروعهما الجريء "تغليف مبنى الرايخستاغ" (1971-98)، في برلين، من اشهر منجزاتهما الفنية، وحظيباهتمام كبير وواسع. فقد استخدمت في عملية "التغليف" حوالي 100الف متر مربع من نسيج البولي بروبلين، و15 الفاً و600 متر من الحبال. بعد ذلك انجزا معاً مشاريع اخرى مثل: "تغليف الشجرات" (1997-98) في ريهن بسويسرا، و"البوابات" (1979-2005)، في نيويورك..

وفي هذا المقام، ينفذ كريستو جافاشيف، في الوقت الراهن، في الامارات العربية المتحدة، مشروعًا مثيرًا ضخما وفريداً، يرجع تاريخ فكرته الى عام 1977، اشتغل عليه هو وزوجته طيلة فترة زمنية طويلة (توفيت زوجته جان كلود في سنة 2009). إنه مشروع "المصطبة"، الذي اختير له موقعاً في منطقة داخلية ، تبعد بحوالي 160 كيلومترًا إلى الجنوب من مدينة أبو ظبي، بالقرب من واحة "ليو" بالغربية. وهذا المشروع الذي عد أول منتج فني lt;دائميgt; يعمله الفنانان، سيكون بأبعاد قياسية، قلما عرفها العالم لمنتج فني. تعيد هيئة "المصطبة" أو "الدكة"، شكل المقاعد الشعبية والتقليدية التي تبنى عادة خارج المنازل، ليرتاح عليها المسافرون. وهي تشيّد على شكل هرم مقطوع القمة، فهي تمتلك جدرانين مائلين وجدرانين عموديين، يعلوهما سطح مستو. ستكون ابعاد "المصطبة"، كما اشرنا، غير مسبوقة، اذ سيكون ارتفاعها بنحو 150 مترًا، اما ابعاد قاعدتها 225متراً بين الجدران المائلة بدرجة 60 درجة، و300 متر بين الجدران العمودية، (أي بتناسب 2، 3، 4،، وهي نسبة محببة الى قلب الفنانين). في حين سيكون عرض "قمة" المصطبة العلوي 126.8مترًا وعمقها 225متراً. وستستخدم لبناء المصطبة براميل سعة كل منها 55 غالوناً (الغالون يعادل حوالي 4 لترات)، وقد اختار الفنانان الوان ومواقع هذه البراميل في العام 1979، الذي شهد زيارتهما الاولى لدولة الامارات.
ووفقا لحديث كريستو الاخير، ستستخدم في بناء المصطبة "الاماراتية" نحو 410 آلاف برميل جديدة وملونة؛ بيد أن إختيار تلك الالوان سيكون طبقا لموضعها في المصطبة. فالجدران المائلة سيكون لونها برتقالياً مع خط أصفر غامق في وسط كل طبقة من طبقات البراميل المرصوفة افقياً. أما الجدران العمودية التي سيظهر فيها الجزء الأعلى من البراميل، فستستخدم فيها عشرة ألوان، هي: الاصفر الفاتح، العاجي الفاتح، البرتقالي الغامق، الاحمرالياقوتي، الزهري الفاتح، الاحمر الارجواني، الازرق المخضر، الاخضر العشبي، الاخضر الفاتح، والبني الشاحب. ويأمل كريستو بأن ".. التأثير البصري لرؤية جميع هذه الألوان سيكون شبيهاً بآلاف النقاط الصغيرة، التي تشكل معاً لوحة تنقيطية، أو لوحة من الموزائيك الإسلامي" ويستطرد قائلاً في رده عن سؤال في كيفية اختيار الالوان وطريقة ترتيب البراميل ".. نحن دومًا نقول إن هناك علاقة بين تقاليد الفنون الاسلامية والتجريد. عندما انجزت مجسمًا للمشروع، وضعت الالوان بشكل عشوائي، وبذلك لم يكن هناك نمط محدد. كان ترتيب الألوان غريباً وعفوياً. بعد ذلك أدخلنا مواقع الألوان حسب نموذج المجسم إلى جهاز الكمبيوتر لتخزين المكان المحدد لكل برميل. ونحن نعرف الآن موقع كل برميل حسب لونه!".

طبعا يظل السؤال قائمًا، سؤال المعنى، والرمز، والغاية من وجود هذه "المصطبة": هذا المنتج الفني الفريد والغريب. إنه سؤال يتردد باستمرار، عندما يرد الحديث عن "المصطبة". لكن كريستو يجيب ببساطة متناهية عن "اشكالات" ذلك العمل، وما يثير حضوره من تساؤلات ".. ليس هناك اية غاية سوى إبداع شيء جميل" يقول الفنان ويضيف ".. كانت جان كلود تقول دائمًا lt;نحن نقدم أعمالاً ممتعة وجميلة فقطgt;. بالنسبة اليّ، أي شيء له معنى هو مجرد دعاية، فهل هناك فن في المعنى؟ أليس الفن عن الجماليات؟". وسواء اتفقنا مع كريستو في مقاربته هذه أم لا، فإن الفنان ومعه "ظل" زوجته التي إفتقدها، هي التي عملت معه على انتاج هذا المنجز الفني لعقود عديدة، يسير سريعًا في اكمال واكتمال هيئة ما تم انجازه عن المصطبة"، منذ "السكيج" الاول للمصطبة المعمول في سنة 1977، والذي لم يرَ كريستو وجان كلود غضاضة في المحافظة على عفوية ذلك الشكل المنتج وطزاجته، وظل "ينحت" فيه حتى وصل الى مراحله الاخيرة النهائية، من دون أن يتغيّر كثيرًا عن هيئته الاولى؛ الهيئة التى تشي بالمصطبة، لكنها "مصطبة" معمولة بعناصر غير عادية، وبإبعاد غير مسبوقة. وفي ما يخص السمة الاخيرة، فان ابعاد مصطبة الامارات ستكون أكبر صرح عالمي، وستتجاوز في حجمها الهرم الكبير بالجيزة بمصر، وكنيسة القديس بطرس في روما.
وبما أن ابعاد الصرح الفني المستقبلي، بهذه المقاييس، فإن إجراءات تنفيذه ستكون ليست مهمة هندسية عادية. وهو ما حدا بالفنان، وكما ذكر ذلك اثناء رده على سؤال يختص بأسلوب التنفيذ، من أنه "..تعاقد في العامين 2007 و2008 مع كبار أساتذه الهندسة في أربع من أشهر كليات الهندسة في العالم، وهي: المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ، وجامعة إلينوي في أوربانا شامبين بالولايات المتحدة الاميركية، وجامعة كامبردج في المملكة المتحدة، وجامعة هوسي في طوكيو باليابان، وذلك من أجل إعداد دراسة تفصيلية حول الطريقة الممكنة لبناء المشروع والفترة الزمنية اللازمة لتنفيذه وكلفته. وقد عمل كل فريق من هذه الفرق الاربعة بشكل فردي ومستقل من دون أن يعرف أي منهم بأننا كنا نستعين بالآخرين. وقد قام كل فريق بتقديم رؤية مختلفة. وبعد التحليل من قبل شركة المانية لنتائج عمل المؤسسات الهندسية، تبين أن مقترح جامعة هوسي كان الافضل، والاكثر ابتكارًا من الناحية الفنية. وهو ينص على تجميع كامل الهيكل وطبقات البراميل، بشكل مسطح على الارض، ليتم رفعها بعد ذلك بواسطة عشر رافعات عمودية على سكة لنقلها إلى موقعها النهائي على مدى عدة ايام. وفي سنة 2012، عرضنا تقرير جامعة هوسي على شركة متخصصة باستشارات البنية التحتية بابوظبي؛ فقامت بمراجعته وأعدت دراسة تحليلية حول التصميم ونفقات البناء والتشغيل المتعلقة به. كما حددت ايضًا، البنية التحتية اللازمة لدعم الصرح وخدمة زواره".

لا يزال العمل جارياً في تنفيذ المصطبة، وتتطلع الامارات ومعها العالم لرؤية الصرح الفني وهو يربض في صحراء الغربية. عنذاك ستضاف تساؤلات أخرى، الى تلك التساؤلات الكثيرة التي رافقت ظهور هذا المنتج الفني، كما رافقت، بالمناسبة، الكثير من انجازات الثنائي الاميركي، هما اللذان برعا في ابهارنا وإمتاعنا، وجعلانا نطرح تساؤلات أخرى، عن قيمة المنتج الفني وجدواه في المشهد وفي ..الخطاب، منظوراً اليه بوعي..وبـ "اللاوعي" ..ايضاً!.

* استفدنا في كتابة مقالنا هذا على المعلومات المتوفرة في الكتاب الصادر مؤخرًا بعنوان:
Christo and Jeanne- Claude: The Mastaba, 2012, Taschen, Cologne, Germany.

مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف