بيتر التينبرغ... حياة النثر اليومية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يعتبر بيتر التينبيرغ أول من أنتبه إلى أهمية قصيدة النثر البودليرية كأسلوب حديث وخط كتابي ذي إمكانيات هائلة، رائيا فيها إمكانية إيقاظ النثر من غفوته الأدبية، لاحتضان مباهج الحياة الحديثة. فأصدر عام 1896 "الأشياء كما أراها"، الذي أُعتُبِر من قبل النقاد، فيما بعد، أول ديوان قصيدة نثر باللغة الألمانية.
ولد بيتر التينبرغ عام 1859 في فيينا، التي درس في جامعتها القانون، تلبية لرغبة أبيه، ثم تحول الى دراسة الطب، وسرعان ما ترك الطب ليتعلم مهنة بيع الكتب في مدينة شتوتغارت. وهذه التقلبات ليست سوى نتيجة انعدام قدرته على التصالح وروتينية العمل وذلك بسبب جهازه العصبي كما حدد الطبيب. لذا قرر ترك العائلة واستئجار غرفة في فندق، وبقي طوال حياته يتنقل بين غرف فنادق فيينا من دون شقة خاصة به.
انفصاله عن عائلته، أشعرته باستقلاليته، فراح يرتدي ملابس غريبة قريبة من ملابس النساء، ويحتذي صندلا، ويعاشر شابات أصغر من عمره، ويبدي حركات أنثوية، مما أصبح في نظر أعدائه "خنثى" وفي نظر الذين يفهمونه "بوهيمي البوهيميين". وبحكم كونه عاطلا عن العمل بإرادته، أصبح التينبرغ واحدا من الرواد الدائمين للمقهى المشهورة "غرين شتايدل" (وعندما اغلقت تحول الى كافي سنترال) التي كان يؤمها كبار كتاب النمسا الطالعين آنذاك كالمسرحي هيغو فون هوفمنستال، كارل كراوس، ارثر شنيتزلر ... وذات يوم، دفعهم حب الفضول إلى معرفة محتوى الأوراق والبطاقات البريدية التي كان التنيبرغ المنزوي الى طاولته، يسوّدها واحدةً إثر أخرى، فلم يكن في علمهم أنه يكتب:
وإذا بالدهشة تصيبهم من النثر الحي الذي كانت تنبض به هذه الأوراق حيث وجدوا سردا لم يعهدوا أسلوبه من قبل، يتدفق بلغة ألمانية تكاد تكون أشبه بمقهى تنبض بالحركة والضجيج من كافة طبقات المجتمع... فأخذ كارل كراوس حزمة من هذه الأوراق وأرسلها الى صديقه الناشر صموئيل فيشر في برلين ليطّلع عليها...
إن الاسم الحقيقي لبيتر التينبرغ هو ريتشارد انغلندر، و"بيتر" هو اسم خطيبته التي كان عمرها 13 سنة و"التينبرغ" هو اسم القرية التي تعيش فيها هذه الفتاة، وبما أن الخطبة انفسخت وتركته "بيتر" عائدةً الى قريتها، قرر أنه لن يتزوج أبدا، و، وفاءً لحبّه لها، غيّر اسمَه من ريتشارد انغلندر الى بيتر التينبرغ الذي أصبح معروفا به حتى مماته عام 1919 بعد معاناة من أمراض عديدة وعزلة رهيبة. ذلك أن التينبرغ على الرغم من أنه اصبح اشهر كاتب في فيينا أواخر القرن التاسع عشر، إلا أنه ظل، دائما، في حاجة الى معونة أصدقائه الكتاب، خصوصا في السنوات الأخيرة من حياته.
معظم الذين كتبوا قصائد نثر بعد بودلير في نهاية القرن التاسع عشر، كانوا إما شعراء قبل كل شيء ويحدث لهم، من وقت الى آخر، أن يدلوا بدلوهم النثري قصائدَ نثر رمزية، كمالارميه أو النمساوي ستيفان جورج، وإما روائيين معروفين بأعمال طويلة، كايفان تورجينييف وأوسكار وايلد، فإن ديوان بودلير "كآبة باريس" هو الذي أوحى لهم بكتابة سرد مكثف ومقفل لا هو بالرواية القصيرة، ولا بالقصة القصيرة. بيتر التينبرغ هو الكاتب الوحيد الذي كانت قصيدة النثر انطلاقته الأدبية الأولى والأخيرة. فهو لم يمارس أبدا كتابة الشعر ولا الرواية. بل قراءته لقصائد بودلير النثرية هي التي ولّدت فيه الرغبة في أن يكون كاتبا. فقد وجد في النموذج البودليري لقصيدة النثر الوسيلة الأسمى ليس لرسم مشاعر بقدر ما للقبض على المتحرك والمثير في الأحاسيس العابرة، بلغة مقتضبة، مضمرة، وموحية. وهذا واضح في الطبعة الأولى من كتابه الأول "الأشياء كما أراها"... فالكتاب هذا لم يتضمن بيانا أو مقدمة، وإنما تصدرته فقرة طويلة، بالفرنسية، مقتبسة من رواية هويسمن "بالمقلوب" (1884)؛ الفقرة التي يشرح فيها بطل الرواية إعجابه الشديد بقصيدة النثر التي احتوت، في نظره، "ضمن حجمها الصغير، جوهر الرواية حاذفة منها التطويلات التحليلية والحشو الوصفي... أنها لبّ الأدب ورائحته؛ الزيت الجوهري للفن؛ إنها الفن الثرثار مُختزَلا الى صمتٍ، وبحرُ النثر إلى قطرةٍ من الشعر".
في الحقيقة أن قصيدة النثر عند التينبرغ، تكاد تكون أشبه بحكاية خرافية معاصرة تحررت من لازمة "كان يا ما كان" كما لاحظ مترجمه الانجليزي فروتسمان؛ ليس أبطالها فرسان وأشباح، وحيوانات خرافية ولا تدور أحداثها في عوالم الجن السحرية، وانما النادل، العاهرة، الشحاذ، المستطرق العابر كما هم بلا رتوش أو تهويل، عند منعطف او في علبة ليل. كما أن المقهى بكل دخان زبائنه له حضور كبير في قصائده. ففي نظر التينبرغ، إذا كنت مفلسا- اذهب الى المقهى، إذا كنت قلقا- اذهب الى المقهى، وإذا كنت مديونا وملاحقا- الى المقهى، اذا شعرت وكأنك تريد أن تنتحر- الى المقهى، إذا كان حذاؤك ممزقا- الى المقهى، اذا لم تجد صديقة تلائمك- الى المقهى... وإذا الّفت قصيدة جديدة ولا تريد ازعاج صديق لك بقراءتها عليه- اذهب الى المقهى....الخ. وكارل كراوس كان صائبا في تشخيصه لالتينبرغ عندما قال عنه: "مثالي متفرد يكتشف بهاء العالم كأعقاب السجائر في منافض المقاهي".
قصيدة التينبرغ النثرية صورة شمسية لحدث يمرق أمام العين، والروعة فيها هو ان الناثر يعاين هذا الحدث - المشهد كما يتجلى فيصوره بعدسة نثره ويتركه كما التقطه، من دون أن يثقل عليه بغاية أو حكمة ما. وقد كتب التينبرغ موضحا لعدد من قرائه بأنه يجب أن يُـفهم من العنوان أن الأشياء المروية هذه ليس كما يراها هو، وإنما كما تتبيّن، تتراءى هي أمامه. وأضاف إن ما يدونه مرة لا يمسه ثانية. يتركه كما اقتطعه من نثر الحياة اليومية.