انطباعات رحلة إلى كراكوف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تروقني زيارة المدن دون انتباهٍ إلى أجندة الزيارة. هكذا أحبّ التعامل مع كلّ ما أراه فيها، بمتعة الصدفة وحدها وحسب التساهيل.
حين ركبت الطائرة من برشلونة، كان في ذهني هذا الخاطر فقط : سأزور مدينة كوبرنيك وشيمبورسكا. الفلكي العظيم والشاعرة الكبيرة. الأول ولد وعاش هنا. والثانية أمضت عمرها الطويل هنا أيضاً، باستثناء سنوات طفولتها السبع الأولى.
في السماء، لاحظت تغيّر الطبيعة: طغى اللون الأخضر على كل شيء.
سألت مرافقتي رافييلا أين نحن؟ فقالت فوق ألمانيا. يا لها من مناظر بديعة. أكاد لا أرى غير الخضرة. غير لونَي الأخضر والأصفر.
نزلنا في مطار ميونخ، قرابة نصف ساعة، ثم ركبنا طائرة كراكوف، التابعة لنفس الشركة : لوفتهنزا.
بعد قليل، تكثّف الأخضرُ تحتنا. غابات هائلة تتخللها مروج الأصفر الفتّان.
استرجعت وأنا بجوار النافذة، قديمَ ما قرأته عن بولندا. جيرانها الأقوياء الذين لطالما مضغوها. ماضيها الشيوعي. أدباؤها. جامعتها الرائدة. أول شرارة انعتاق انطلقت منها في الشرق الأوروبي. تشاركت مع راعيتي الحديث، فعلّلت سبب تلك الشرارة بأن البولنديين كاثوليك.
سحرتني طبيعة البلد من خلل النافذة. أيُّ جمال هذا!
نزلنا في المطار المتواضع، وبعد وقت قصير ركبنا التاكسي لفندق بارك إن. حيث سيتجمّع في هذا الفندق حديث البناء، أدباءُ نادي القلم الدولي وموظفو مؤسسة إيكرون، من أربع جهات الأرض.
هاهي كراكوف إذن. جبال كثيفة الخضرة، مجاري ماء، وطبيعة تحس كما لو أنها مازالت تحتفظ بعذريتها الأولى.
الخضرة!
الخضرة أينما نظرت. وهو ما افتقدته نوعاً ما في برشلونة. وبشكل كليّ في غزة: المكان الذي محت إسرائيل خضرته بجرّة بلدوزر.
وصلنا ووضعنا حقائبنا ثم نزلنا فوراً، لنذهب بالأقدام إلى المركز الثقافي الياباني، حيث تُعقد وقائع المؤتمر تحت شعار "ريدنغ فريدام" أو شيء قريب من هذا.
لاحظت النهر الغزير عن يميني. سألت فتاة عابرة عن اسمه، فتوقفت ولم تكتفي بالاسم. ما أجملهم وألطفهم! إنه نهر فيسوا الأطول في البلاد. عريض وبُنّيُّ الماء، وذكّرني بدجلة بغداد أيامَ عزّه.
في المركز، رأيت قرابة مئتين من المدعوّين. دخلنا فوراً لمحاضرة ثم كان الغداء. وأنا، في مثل هذه المؤتمرات، لا تعنيني البرامج، وإنما اكتشاف الأمكنة .. البشر، والهامشيين منهم على نحو أخصّ.
كأن تلتقي بمواطنك الجليلي الأصل، البيروتي المولد، الشاعر والمترجم مازن معروف. القادم من ريكيافيك، والمهدّد، هو المعجون بماء القلق، بالقذف - مجدّداً - إلى فم الهاوية.
أو أن تلتقي بمناضل وشاعر مُعذّب، اسمه منصور راجح. أختطفه جلاوزة علي صالح، ثاني يوم من عرسه، فألقوه في غيابة الجب خمسة عشر عاماً، ومن الغيابة مباشرة إلى فم الرخ المعدنيّ، فمدينة استافنغر جنوب النرويج .. فيتكشّف لك عن كتلة نُبْل لم يُعطبها الألمُ. ثم تُبنى صداقة قوية من التقاء صدفتيْن.
في شرفة المركز، أثناء تناول الشاي، لاحظت أننا بمواجهة قلعة مهيبة ضخمة. سأعرف فيما بعد أنها قلعة فافيل، وأنها تضم مثوى العديد من عظماء بولندا على مرّ العصور. بل سأرى فيما بعد، في زيارة مخصوصة، لوحة دافنشي الأصلية: بورتريه سيسيليا [سيدة مع إرمين] معروضة فيها.
والآن، فليسمح لي القراء بأن أنسى وقائع وتفاصيل المؤتمر، وأركّز على ما لفت نظري من أشياء وأمور في المدينة:
* كنت أتوقّع ألا أجد الناس هنا بمثل هذا الانفتاح وهذا اللطف. فعقود الشيوعية الستالينية كلكلت عليهم بجهامتها، ولا شكّ تركت آثاراً نفسية. لكنْ يبدو أنهم تخلّصوا من معظمها بالفعل. حتى لتراهم لا يقلّون إلا قليلاً عن سكان أية مدينة كبيرة في غرب أوروبا.
* كنت أتوقع فساد ذوق في المعمار. مبان كابية وكئيبة، كما جرت العادة خلال الحكم الشيوعيّ. لكنّ مباني كراكوف بالإجمال ليس فيها لمسة الخشونة تلك، وإن احتوت على إيحاء الصلابة. ربما لأنّ غالبها تاريخيّ، بُني قبل الحقبة الشيوعية. وبحكم وجودنا بالقرب من قلب المدينة العتيقة [ستاريه مياستو] التي هي عبارة عن متحف آثار كبير، لم يتسنّ لي رؤية المعمار الحديث.
* زرت الحيّ اليهودي كاجيميج، الواقع على يسار الجسر مباشرة من فندقنا. تجولت فيه لمدة ساعات، ثم أمضيت سهرة بديعة مع شابين من مصر: ناهز زكريا، ومحمد. تعرّفت عليهما بالمصادفة، أثناء ممارسة رياضة المشي المسائية على ضفة النهر. كانا رائعين، مثقفيْن وحنونيْن. وتكلمنا عن هموم المنطقة وهمومهما في كراكوف. ثم أوصلاني للفندق، على وعد بالتواصل الإلكتروني.
* في "الرينيك" السوق الأعتق والأبهى، دخلنا مكتبة تأسست سنة 1614 ولاتزال تمارس عملها كمتجر كتب. وعلى ذكر المكتبات والقراءة، تقول آخرُ إحصائية قرأتها قبل يومين، أنّ الشعب البولندي - للأسف - هو أقل شعوب القارّة الأوروبية قراءة. رغم أنك تراهم غالباً وهم يحملون كتاباً. وفي هذا السياق، يُشار والعهدة على المشير، إلى أنّ رجالهم لا يتسمون بالذكاء. مع لفت النظر إلى ظلم التعميم في جل الأحيان.
* شاركنا في أمسية شعرية في حانة تحت الأرض. وقيل لنا إنها حانة بنيت منذ 700 سنة، ولم تنقطع عن العمل كحانة منذ ذلك التاريخ.
* استمعنا إلى محاضرة في الجامعة الياغييلونية الأعرق في الشرق الأوروبي كله، حيث بنيت هذه الجامعة عام 1364. كان المتحدّث أمريكياً شاباً. تكلّم عن تأثير الميديا الحديثة في عالم اليوم. وكان واضحاً أنه "اختصاصي" لا رجل ثقافة يحمل بُعد نظر. ومع هذا دُهشت من كمّ الحضور ومن حجم الحفاوة والترتيب. حيث عقدوا له المحاضرة في واحدة من أعرق القاعات التاريخية بالمبنى. ما يليق بحامل نوبل لا باختصاصيّ ميديا.
* أمضينا يوماً طويلاً في معسكر الاعتقال النازي الأكبر: أوشفيتس. مررنا على جزئيه. قلت للدليلة السياحية التي كانت تتكلّم من أحشائها عن فظائع النازيّ، وما الفائدة يا أُخت؟ لقد بدّلتم ظلماً بظلم. وجعلتم الفلسطينيين الأبرياء يدفعون ثمن ما جرى هنا.
وفي واحد من مباني المعسكر، رأينا من خلف ساتر زجاجي، أكبر كمية من شعر النساء يمكن أن يراها بشريٌّ فانٍ، مثلي ومثلك. إيش هاذ؟ يبدو شعر النساء بمختلف ألوانه وكأنه حبال مجدولة، حالَ لونها واكتسبت اللون الترابي بتأثير الزمن. سألت فأخبرني الجزائري الجميل نوفل بأنّ النازيَّ كان يحتفظ هنا بسبعة أطنان من شعر النساء!
لهذا ولغيره: سكّري ارتفع وجفّ ريقي. فما كان مني إلا أن اشتريت لتر ماء على دفعات من مقصف داخلي، فكان ثمنه الإجمالي 12 يورو. والمفارقة أنك بهذا المبلغ تستطيع في برشلونة العظيمة، شراء ثلاثة لتر من النبيذ الإسباني الفاخر، وربما أكثر.
* لأول مرة أرى وأتنفّس عبق الغابات. أخيراً أرى ماقرأت عنه في الروايات والشعر. الغابة! بعد ثلاث وخمسين سنة: الغابة! وأية غابات؟ غابات الجنوب البولندي الشهيرة بجمالها الكلاسيكي. الغابات التي تغطّي ما يزيد على ربع مساحة البلد الكبير المساحة. وهي محميّات طبيعية لا يقدر أحد على المساس بها. وشيئاً آخر أيضاً: الفيللات. أو التحف المعمارية! شيء فوق الخيال أن تمرّ في الباص على كل هذه الطُرُز من المعمار. فيللات تبدو كنقاط متفرّقة وسط سجّادة الطبيعة الخضراء. آه لو يقضي المرء بقية حياته في هذا الريف الباذخ الساحر. ألهذا اختار العديد من أدباء وفناني بولندا والعالم العيشَ هنا، وسط الصمت والعزلة؟ معهم حق. فماهي الجنة إن لم تكن هذه؟
* تعرّفت على الروائي الإيراني العبداني محمد بهار لو. ومحمد يقيم في ألمانيا مع نادي القلم هناك. ويصرّ على الرجوع لعبدان بعد انقضاء العامين. فهو لم يستسغ ألمانيا، لا جوّها ولا حتى نساءها. ويقول عن عبدان إنها باريس الشرق. كنا نتحاور بخليط من العربية والإنكليزية ولغة الإشارات. له سمت وروح ممثل كوميدي، هذا الكهل البلا زواج. تحاورنا وتجادلنا وانتهى هو إلى عدة صياغات، أنقل أخفّها هنا وأحتفظ لنفسي بالباقي.
ألله: تخريب العالم.
الرجل: تخريب المرأة.
المرأة: تخريب الكلمات.
لذلك اختار محمد قضاء هذه المسخرة التي يسمونها "الحياة" وحيداً. سواء في عبدان أم في ألمانيا. أقول له: ولكنْ يا محمد، المرأة تظلُّ نعمةً وغيمةً يا رفيق. فيقول: لا يا "مجرَّد" [وكان عرف أنني أقيم في برشلونة وحيداً، فأطلق هذا اللقب عليّ] لا .. المرأة إن دخلت حياة أمثالنا قضت على كلماتنا. المرأة تخريب كلمات!
ثم يأتي راعيه الكاتب الألماني الشيخ، وينضمّ إلى طاولتنا، فيقول عنه إنه يعيش في بيت هو غرفة أشبه بزنزانة. وإنه حمار شغل. طوول الوقت: يكرا يكتب. مجنون! ولا يركب المواصلات أبداً. لديه درّاجة هوائية يركبها كل مساء ويأتي لزيارتي. إضافة إلى أنه: "مُجرَّد" مثلنا.
كم غسَلَ قلبي هذا العبداني. هذا الوحيد من بين الكتّاب المضطهدين جميعاً، المصرُّ على العودة إلى مسقط القلب والرأس.
* إفتقدت عزيزاً ما كان يجب أن يغيب عن ندوة بهذا الشعار. إنه صديقي وصديق العديد من الكتّاب والشعراء الذين حضروا: الشاعر فرج بيرقدار. كنت آمل أن أراه وأتعرّف إلى شخصيته العميقة. ولكن شاء ترتيبُ سيدات وسادة المؤتمر ألا يحضر. مع هذا صدّقني يا فرج لم تغب عن أحاديثنا، ولا غاب طيفك الإنساني عن أمسياتنا الناعمة، وسط ربوع هذه المدينة الوادعة.
* وبالمناسبة : كراكوف كانت عاصمة بولندا طوال خمسة قرون: من 1038 إلى 1598
وهي ما زالت العاصمة الدينية والثقافية والأكاديمية للبلد، رغم الحضور السياسي المشعّ لوارسو. ولذلك كان من الطبيعي أن تضم اليونسكو قلبَها العتيق إلى لائحة الإرث الثقافي الإنساني.
ولو اختصرتها بكلمة لقلت: الخضراء. ولو سُمح بالإضافة، لأضفت: والنظيفة والهادئة على مدار الوقت.
أما نساؤها، ونساء بولندا عموماً، فمعروف عنهنّ أنهنّ من أجمل نساء أوروبا. ومعروف عن أوروبا الشرقية أنّ أجمل نسائها هنّ الأوكرانيات والروسيات والبولنديات. والمرأة البولندية أنيقة جداً. كما شاهدت وكما يؤكد صديقنا نهاز زكريا، المتزوج من بولندية والمقيم في كراكوف منذ ثماني سنوات. وهو يقول إنها أحياناً لا تملك النقود للطعام، ولكنها دائماً تملك النقود للملابس والاكسسوارات [هل هي محض مصادفة أن تخرج من هذه المدينة بالتحديد هيلينا روبنشتاين رائدة مستحضرات التجميل بأمريكا؟].
كما أنها نظيفة جداً ودائما تفوح منها رائحة طيبة. وهي امرأه قوية، بمعني أنها هي التي تدير المنزل في كل شيء، حتي في التعامل مع السبّاك أو مدرّس الأطفال. أي بالمعنى العامي العربي هي: "رجل البيت". فالرجل يُسلّم لها كل شيء ويطيعها في كل شيء. وإذا تحدثت هو يصمت ولا يتكلم. وإذا حدث طلاق فلها النصف في كل شيء. والبعض يردد أن زيادة حالات الطلاق في بولندا سببها الحرية الزائدة التي تتمتع بها المرأه البولندية!
أما عن الرجل البولندي فهو ضخم الجسم، ذو بُنية متينة. مفلطح الرأس من الخلف وجبهته عريضة. وإذا مشى فإنه يفرد صدره ويحاول أن يُظهر أهميته بأي شكل كان. وربما يعود ذلك إلى فداحة الإرث التاريخي. وهو عموماً [ليس أنيق الملبس ولا يتميّز بالوسامة. فمن المعتاد هنا أن تجد امرأة غاية في الجمال تمشي مع رجل قبيح] كما يقول نهاز. وغالبية رجالهم قصار الشعر.
ومع كل ذلك، فللنساء هنا طعم آخر من الجمال الأوروبي المتنوّع. إنه الجمال السلافي الخاص المختلف عن الجمال اللاتيني. جمال له خصوصية تاريخية وجغرافية وغذائية: جمال السنتر الأوروبي. البشرة البيضاء الصافية .. الطول الأهيف، العيون الزرق [لم أر في رحلة الخمسة أيام فتاة بعيون خضر، وإن رأيت العيون البنية والعسلية]، كذلك الشعر الأشقر. لكن كل هذا وصف خارجي لا يفي بالغرض. ثمة سرّ في الجمال السلافي. سرٌّ لا أستطيع القبض عليه. فلو قلت مثلاً إنه جمال أنعم وأدق وأصفى من اللاتيني، لعارضت نفسي فوراً: وماذا عن قوة ومتانة هذا الجمال؟ باختصار وبعجز أيضاً أقول: جمال له ذبذبات خاصة. نكهة أخرى من نكهات هذا الفردوس المنفتح فجأة، على واحد قادم من فراغ الصحراء!
شكراً كراكوف.