بصقات فلسفية.. في وجهِ طوفانٍ فاتن
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
قديماً شيّد الإنسان فُلكاً ليراوغ الطوفان، أما حالياً فيعكُف على "تشييد" الطوفان ليراوغ ذاته.. أيما برعمٍ لفُلك يشطأ في تربة الروح، لا يعدم بشراً يتربصون به، يتحلقون حوله، منهالين بقبضاتٍ مسعورة على جسده المهزول.. ليصنعوا -في نهاية الأمر- من أشلائه الخشبية رماحاً رهيفة يدغدغون بها بدن الطوفان الغافي لعله يتيقظ..
الطوفان لم يذب -بَعد- عن عينيه غبار النعاس المتكلِّس، وهم حين يُضجرهم الانتظار يشهرون "رماح الدغدغة" ويتبارزون حتى الموت، فلربما نخسوا بضجيج الوغى المحموم آذان الطوفان ليتململ قليلاً..يجثون منهكين بإزاء سكون الطوفان الصارم ، كأرواحٍ شاحبة تقضم أظفارها الزرقاء.. وما أنفاسهم إلا عيونٌ تحملق لاهثةً في وجه الطوفان القسيم : مترعةً بالترقُب مضببةً بالخشوع.. لم يبقَ منهم سوى ظلالٍ مروَّعة تَمُدُّ أكفَّها نحوه في تضرع.. وما أنفاسه الخافتة إلا أشراكٌ ظَمأى: تستدرجهم بثغاء رتابتها، فيستمرئون السقوط بين أنياب فحيحها.. قال مولانا "فيتجنشتاين" أن الفلسفة هي مقاومة فتنة التفكير باللغة.. أما أنا فأقول: الفلسفة هي مقاومة فتنة الطوفان ببصقة.. طوبى للباصقين في وجه طوفانٍ لا يني البشر يهرولون صوبه بشغفٍ بغيض.. طوبى للبصقات التي تغربل أقنعتهم وتمحو زبد رونقها الزائف، وتطمس شقشقةَ ظلالهم.. إن لم يكن ثمة فُلك، فطوبي للبصقات -دَبِقةٌ كالدماءِ كالنصلِ لاذعةٌ- حين تحتشد لتصنع طوفاناً يبتلع "الطوفان الفاتن" الذي يدعونه في غفوته "حضارة".. البصقة الأولى: لا تقرأ إذا كنت تعتقد أن الكتب وسيلة لخلاص العالم،وأنها "مضاد حيوي" واسع المفعول بإمكانه القضاء على أدران البشرية المزمنة، وأنها طريقة لتغيير الواقع وإعادة هيكلة لعلاقة الإنسان بالإنسان وبالطبيعة.. إن كنت تؤمن بهذه الأمور فلا تقرأ.. إذ سيكون استمرارك في فعل القراءة هو مواصلة السعي نحو خيبة لن تنتهي.. ستكتشف أن القتلة في هذا العالم هم أقدر الناس على كتابة المراثي -المسيلة للدموع- في ضحاياهم.. ستكتشف أن اللص الأمهر هو مَن يضع يمينه في جيب الفقراء، بينما يسراه تكتب في خفة ورشاقة عن مآسيهم.. ستكتشف إن الكتب ملغومة بلغة صنعها السجانون، ليتسلى بها المسجونون ويكفوا عن الشغب أمام صفحات توحي لهم بوهم الحرية.. وبدلاً من أن تصرخ مع مولانا الشاعر هولدرين قائلاً "ما جدوى الشعراء في زمن الضيق؟!".. ستكون خيبتك عنوانها "ما جدوى الكتب في زمن الضيق؟!".. إن كنت تريد أن تكون مثقفاً فآخر ما تحتاج إليه هو القراءة.. لكي تكون مثقفاً عليك في البدء أن تكون إنساناً (من العسير أن تحاججني قائلاً: أريد أن أكون ديناصوراً مثقفاً).. الكتب في كثير من الأحايين تكون حاجزاً بين المرء والثقافة.. (هذا إن كانت الثقافة: رؤية للعالم يصاحبها سلوك مُتسق معها يمتحنها ليعززها).. أن تروي عطش قطة ضالة هو أحد التجليات الثقافية وليس أن تتجاهلها وأنت تقرأ على المقهى، ناهيك عن ركلها بغلظة.. الكتب لاتصنع إنساناً ولكنها قد تصنع قناعاً متقناً للذئاب ليظهروا أقل إفزاعاً وأكثر ألفة للحملان.. ما يخلق الإنسان ويجعله جديراً بإنسانيته هي مواقف باهظة الثمن يتخذها المرء، ليس فقط قانعاً على مضض بل ممتناً لألمها، لأنه لم ولن ينتمي إلى ذاته إلا بقدر ألمه في سبيل خلقها..الألم هو المؤشر الأكثر صدقاً على النمو والحياة.. (الاستجابة للألم دليل يدعو للتفاؤل في حالات الغيبوبة والعُهدة على مقياس جلاسكو المستخدم لتقييم الوعي في مستشفيات المسكونة قاطبةً).. عليك ان تنتظر أن يخترعوا كتب تعقر من يقرأها،أو لها وخزات تصلح مقياساً للوعي..! إذا كنت تبحث عن دفء اليقين فلا تقرأ.. فالقراءة لا تقدم جرعة من اليقين كالتي تقدمها لعبة الدومينو.. في الدومينو هناك قواعد وهناك دور للحظ معترف بوجوده وهناك مبارزة واضحة بين الخصوم.. والأهم أن هناك نتيجة معقولة فحتى هزيمتك يمكن تبريرها ويمكن التعويض عنها.. ولكن الأسوأ والأغرب من خلو الكتب من اليقين هو افتقارها لمتعة "السؤال" العاصف.. الكتب يقين بلا دفء وسؤال بلا خطر.. الكتب فاترة.. إن كنت تتلمس طريق اليقين العب الدومينو أو أي لعبة أخرى تستهويك وإن كنت تتغيا السؤال الجيد فاصنع سؤالك كمغامرة تحياها يمكنك أن تخسر في سبيلها أكثر من ثمن كتاب وبضع ساعات.. الأسئلة المكرورة المجانية لا يمكن أن تكون ممتعة.. الأسئلة المستعارة من الآخرين لا يمكن أن تزهر في تربة روحك.. الأسئلة التي يمكنك أن تدعوها جديدة وفريدة هي التي تهرب منها وأنت تهرول عبر السطور والصفحات المطبوعة.. هناك الكثير من الكُتب كتبها أصحابهم كأنهم يحفرون قبوراً لأسئلتهم: أحياناً خشية إضاعة العمر بلا جواب وأحياناً أخرى خشية العثور على جواب محبط..! قال عمنا صلاح جاهين "الكلمة إيد الكلمة رجل الكلمة باب" ولكنه لم يقل لنا ماذا تفعل هذه اليد (هل تمسك بمدية أم تغرس فسيلة).. ولا إلى أين تتجه هذه القدم (نحو الهاوية أم نحو مرتقاها).. ولا على أي الأماكن يفضي الباب (على الزنزانة أم على الأفق ).. قد يتصدق اللص على المساكين ليبدو أكثر طهراً في عيني نفسه.. وهكذا قد تقرأ لتبدو أقل جهلاً في عيني نفسك.. إن كنت تبحث عن "مكياج" يجعلك أكثر فخراً بنفسك فيما تقابله من مرايا فلا تقرأ.. لأن القراءة "مكياج" لا يمكنك أن تأمن عاقبته، يتغلغل في وجهك ولا يكون في وسعك أن تزيله إلا بإزالة الوجه. .فالأفضل أن تتصدق بثمن الكتب حتى تحتفظ بالوجه إن أردت..! بما أنك خالفت نصيحتي ولم تزل تقرأ حتى هذه اللحظة فإليك أكثر كمائن القراءة التباساً وتمويهاً: ليس بمقدورك أن تقتنع بعدم القراءة إلا بعد قراءة الكثير.. هكذا يتوجب علي -مرغماً- أن أصف لك ارتكاب القراءة كأنجع الوسائل للبرء منها.. تماماً كما كان هجاء "فيرلين" للقوافي في أبيات شعرية مقفاة بعناية..! البصقة الثانية: اخرس حتى أراك أخطأ سقراط بسذاجة حينما قال "تكلم حتى أراك".. فالكلام أقدم تكتيكات الإنسان في التخفي.. يبدو أن الإنسان أعجزته الطبيعة عن تطوير آلية للتخفي على المستوى الجسدي (مثال جلد الحرباء) فطوّر آلية صوتية للتخفي.. صوت الإنسان نظيرٌ لجلد الحرباء.. كل الكلمات أقنعة وفيها شبهة واضحة للتصنع سوى "آه".. فلنأتي بسياسي له في الخطابة نصيب الثائر من الغاز ولنلقي بحجر ثقيل على قدمه.. هل سيتشدق حينها عن الحرية والعدالة والديموقراطية؟!.. فقط ستكون استجابته "آآآآآآآآآآآآه".. زفير متطاول لم تساهم في تنغيمه كثيرٌ من عضلات جهازه الصوتي التي يرهقها في خطاباته العصماء..! في مقالة رائعة لجورج أورويل (مهندس كابوس الأخ الكبير) بعنوان السياسة واللغة الإنجليزية يصل إلى أن "العدو الأكبر للغة هو النفاق".. ولكن بالنظر إلى الجملة بزاوية مختلفة نكتشف أن "العدو الأكبر للغة هو النفاق" لأنه المحرك الأول لها والحافز الوحيد على استخدامها..إننا نتكلم لأننا ندرك أن الصمت كفيل بتعريتنا أكثر مما نود فنسارع لطمر خجلنا بالكلام.. إننا نتكلم لأننا ندرك أن الصمت لا يستر في أوقاتٍ كثيرة تلك اللامبالاة التي نشعر بها تجاه الآخرين.. إننا نتكلم لأننا في الصمت نسمع من أنفسنا همهمات لا نفهمهما وإن فهمناها لم نتبين مغزاها.. إننا نتكلم لأن شعورنا بالوحدة يتفاقم في الصمت ولكننا نرفض أن نهدم جدران الوحدة عبر تواصل حقيقي "ميتا-كلامي" لا يحتاج لجسر صوتي هش، وبدلاً من ذلك نسارع إلى "الكلام" لنرسم على الجدران نوافذ وهمية ونتفنن في زخرفتها بالبلاغة.. ولربما كان على الوجه الآخر من الجدار إنساناً آخر يسهب في رسم النوافذ الوهمية.. ويظل بين الوجهين حائطٌ من العزلة وكثير من "نوافذ-كلام"..! الأدهى من أننا حين نتكلم تتردد أصواتنا بين جدران عُزلتنا.. والأنكى من أننا نتكلم للسيطرة على "كم" ما يراه الآخرين من ذواتنا..الطامة الكبرى أننا حين نتكلم لسنا نحن مَن يتكلم ..نكون بوق لأصداء غيرنا..حناجرنا خزائن نسى فيها أجدادنا متعلقاتهم.. حناجرنا سلة مهملات يلقي بها الآخرون فضلات أذهانهم.. حناجرنا تنطوي على الكثير من الفوضى التي لا نستطيع أن نميّز من بينها ما يخصنا.. قد تقول ممتدحاً فتاة "إنتي بميت راجل" فيكون هنالك صفٌ طويل من أسلافك الذكوريين هم مَن يتحدثون عبرك.. قد تقول "أصاب الهدف" فيكون هنالك صفٌ أطول من أسلافك الصيادين أو المحاربين هم مَن يتحدثون عبرك.. لكي لا تكن بوقاً لصيحات الأسلاف ولكليشيهات شاشات التلفاز وللفضلات الصوتية للعابرين، يتحتم عليك أن تحاكم "الكلام" وتشذبه وتعيد تشكيله..لكن الدائرة المفرغة تكمن في أن رائدك في إعادة صنع "الكلام" هو عقل ساهم "الكلام" نفسه في تشكيل بنيته ومفاهيمه وأحكامه..! حين قال سقراط "تكلم حتى أراك" كان يعني "تكلم حتى أظن أنني أراك وحتى أظن فضلاً عن هذا أنني حين أتكلم تراني".. يقوم الطفل بالدندنة ليطرد الأشباح التي يتوهمها.. ولكن عندما يكبر قليلاً يجتهد في إنضاج "الدندنة" لتصير كلاماً يستعيد به الأشباح التي طردها.. إنه يتكلم لا لتراه الأشباح بل ليتوهم أن الأشباح تراه.. إنه يمنحها جسداً من الكلام لكي تكفيه مؤونة الخروج بحثاً عمن يؤنس وحشته العضال..! من المألوف أن يخيم الصمت ثقيلاً على جلسة ما، فيبادر أكثرهم في البحث عن أي موضوع وحينها يتشبثون بأوهى خيوط الكلام تشبثَ المنتحر بحبل (النجاة-المشنقة).. لِمَ؟..الصمت يعقد محاكمة نزيهة وحازمة للعلاقات.. العلاقة الحقيقية تتعطش للصمت وكأنه اللغة وقد أوجزت فأعجزت.. أما العلاقة المفتعلة فلابد لها منها غطاء صوتي يستر عورة المسافة الباردة ويغطي على أنّات الذوات الوحيدة، المتجاورة دون تواصل.. الصمت إذن مقصلة للروابط الإجتماعية "الزائفة" لكن "الضرورية" لنمط حيواتنا.. لذلك يبدو أن الصمت هو لغة لم ينتخبها أغلب البشر لتمثيل أفكارهم ورؤاهم وانفعالاتهم وانتخبوا بدلاً منه "الكلام".. وحدهم العشاق والمتصوفة وبعض الشعراء مَن يدركون أن الصمت هو الرؤية الصافية غير المضببة، وأن "الكلام" منظار معتم ملوث ببصمات قاتمة لعدد لا يحصى من الشفاه.. اخرس فلن تخسر بصمتك سوى الكثير من الأشباح.. اخرس فهناك احتمالٌ ضئيلٌ -يستحق المحاولة- لحدوث المعجزة الأروع والأندر: أن يراك أحدٌ ما..! البصقة الثالثة: أنا أشتم إذن أنا موجود عندما قرر إنسان ما في لحظة ما -من أصقاع الزمن الغابر- أن يسب، بدلاً من أن يستل خنجراً حجرياً ويطعن به مَن أثار حفيظته ليسلبه حياته.. فلابد بالاعتراف له بالصنيع الذي أسداه للبشرية.. ولا مفر من إجلال هذه القفزة التقدمية التي أمنّت لنا كنوزاً من المنافع لا نعي قيمتها وإن كُنا لم نزل نقتات من ريعها.. شكراً لك أيها السلف الصالح الذي ضمّت شفتاه أول جذوات السباب، فأنت في نظري نظيرٌ لبرومثيوس.. لكوني من أسرة محافظة بإفراط، لم أكن أمتلك موهبة "السباب".. كنت أتورط في مشاحنات مع آخرين لا أستطيع أن أسبهم دون أن أصير أضحوكة لهم ولزمرة المتفرجين، نظراً لبلاهة شتائمي الطفولية.. لذلك كانت الصفعات واللكمات والركلات هي الشتائم الوحيدة التي أستطيع بها مقارعة خصومي دون إضحاكهم.. في الكلية بدأت أدرك أن تطاحني الجسدي مع الآخرين لم يعد قابلاً لتبرير المنطقي ولا متساوقاً مع معاييري الأخلاقية، ناهيك عن تكلفته الباهظة (بالأخص قمصاني المسكينة التي فقدت أزرارها العزيزة ولم تعد عمليات التجميل المؤلمة تفلح في إعادتها لحالتها الأولى).. لذا مقتدياً بالمذهب التجريبي وواضعاً نُصب عيني المتورمة صورة "ديفيد هيوم" بدأت في تدريب جهازي الصوتي على السباب.. انسلخت الشهور وأنا أستفرغ الهمة والأحبال الصوتية في تعلم السباب وما يلزمه من مؤثرات صوتية فظة.. ويالها من نتيجة مدهشة.. سنوات تمر بلا صفعات، بلا لكمات، بلا ركلات.. صار السباب على شفتيّ بلسماً أبرأ جسدي مما قد تخلّفه أمطار العراك من "أقواس قزح مبرحة" أو ببساطة "كدمات".. على ضوء هذه التجربة الشخصية أدركت ما للسباب من فضائل، واحدة من هذي الفضائل فضيلة أخلاقية: كمتنفس آمن للغضب يحول دون التصعيد نحو أذي فيزيقي يهدد الحياة.. فالروابط الاجتماعية التي يفصمها السباب يمكن استعادتها غالباً بمحض اعتذار، لكننا لم نسمع بقاتل تمكن من إحياء مقتوله بالاعتذار منه،حتى لو ظل لسنوات يعتذر على قبره راكعاً.. هل يمكن تعيين قانون للسباب مُفاده أن العنف الجسدي في العراك يتناسب عكسياً مع كمية الشتائم..! تخلو الروابط المزيفة والقسرية من توابل "السباب"..مليئة هي بكليشيهات من قبيل "سعيد بمعرفتك".."دا شرف ليّا"..خطاب بلاستيكي يحق في شأنه قول أبي العلاء المعري.."بني الآداب سرتكم قديماً..زخارف مثل زمزمة الذباب"..(ملحوظة الذباب لا يسب).. أما في الروابط التي يمكن دعوتها علاقات حميمة فالسباب طريقة للتودد وعلامة على انتفاء المسافات ورفع للكلفة.. أنت لا تسب رئيسك في العمل ولا زملاءك ، في حين أنك تفعل هذا مع أعز أصدقائك.. هل يمكن تعيين قانون آخر للسباب مفاده أن المسافات بين الذوات المتفاعلة اجتماعياً تتناسب عكسياً مع كمية الشتائم..! كان أحد الأدعية الموجهة لملوك الجاهلية هي "أبَيتّ اللعنَ"..أي أتمنى ألا تفعل أيها الملك ما يستوجب لعنك..من بديهيات الأمور أن لعن ذوي السلطة هو أول المعاول التي تأتي على عروشهم المحصنة بالهيبة والمديح..هكذا فاللعن من جهة هو تكتيك راديكالي تلجأ له العامة للنيل من الظالمين، ومن جهة أخرى هي دليل على وعي اللاعنين بما تلحقه بهم السلطة الملعونة من ظلم..تبدأ الشعوب ثورتها عندما تواجه السلطة بالسباب الممزوج بالسخرية اللاذعة..تطلق شتائمها الساخرة في كافة أشكال التعبير (النكات والأغنيات..إلخ) كنذير للمستبدين.."نذير" من الغباء تجاهله ، ففي التغافل عنه مخاطرة بتحوله إلى "نفير" يكون بذرة للثورة..في روايتيه "ألوان العار" و "العنف والسخرية" أجاد العظيم ألبير قصيري (مثلي الأعلى في الكسل) تشريح هذه الطريقة في المقاومة وكشف عما في السباب الساخر من حكمة لئيمة تحوزها العامة ويقدّرها المثقفون القريبون من روح شعوبهم..(لا تجادل بأن سباب العامة الساخر من شأنه أن يكون تنفيساً للغضب يعوق مسيرة الثورة.. فالثورة التي يبدد فورتها "التنفيس بالسباب" هي ثورة لم تكن لتحدث من الأساس).. هل يمكن تعيين قانون ثالث للسباب مُفاده أن استقرار عروش المستبدين يتناسب عكسياً مع كمية الشتائم..! قال ييتس "يُولد الجمال من رحم الموت"..وبالنظر للموت على أنه آخر مسبة قاتمة في جعبة الزمن يسخر بها من الإنسان ككائن بالغ في تقدير نفسه وحيزه من الوجود..فلمَ لا نقول "يُولد الجمال من رحم السباب"؟.. فضلاً عن كونه نافع وأخلاقي وثوري ،فالسباب جميل.. السباب أحد المواد الخام المهيأة للشعر ويستطيع عبرها إيصال أسمى الرسائل..ها هو فيليب لاركن يسب ويبدأ قصيدته "هذا هو الشعر" باتهام أبيك وأمك بما لا يسرك..ها هو العظيم أبو العلاء المعري يسب بقدرة لغوية معجزة.. ها هو نجيب سرور يسب كأنما الجروح الغائرة لا تنزف بل تسب.. ها هو شيكسبير يُبدع في السباب ويشكلها في صيغ أشبه ما تكون بالأحاجي التي تتحدى قدراتك الذهنية.. ها هو هوميروس يجعل الآلهة في إلياذته تتبادل أفحش القول وأقذع المسبات (بافتراض صحة نسب الإلياذة اللقيطة له).. وليس من التطرف في رأيي أن السباب يحمل خصائص شعرية في حالته الأولية دون تطعيمه في جسد الشعر.. الغموض ،الإيحاء ،الإيجاز ،المجاز كلها صفات يتشاطر فيها السباب مع الشعر ولن تعدم العثور على نكهتها الجمالية بينما تسب.. كما ينطوي كليهما على شحنة عاطفية مكثفة مفعمة بالخفق تغيب عن شتى ضروب الحديث (على سبيل المثال حديث "خدمة العملاء" الثلجي التهذيب وأحد أقوى الحوافز على انتحارالعملاء).. كم هو بليغ ورقراق بيت الأخطل حين يهجو جرير أو بمعنى أدق "يوسعه شعراً" قائلاً.. "قومٌ إذا استنبح الأضيافُ كلبَهم..قالوا لأمهم بُولي على النارِ"..حتى جرير يعترف بقوة البيت ويتصدى لجلاء مواطن روعته المستدقة.. من الطريف أننا لم نسمع أن الشعراء الذين تهاجوا بهذا الفُحش ترصدوا لقتل بعضهم بعضاً.. بينما التاريخ مُترع بالذين قدموا الأشربة المسمومة لضحاياهم محلاة بشهد الكلمات (بالهنا والشفا).. ونعلم على وجه اليقين أن القناصة لا تنقش الشتائم البذيئة على الرصاصات قبل أن تغرسها في الرءوس.. كما أن المناجل الذرية -الناصعة الفُحش والمتخمة بالبذاءة- التي ألقيت على هيروشيما و ناجازاكي لم تكن ملطخة بالسباب .. هل يمكن تعيين قانون أخير للسباب مُفاده أن الجمال الدافىء والصادق يتناسب طردياً مع كمية الشتائم..! في النهاية لدي مقترحان..أولهما فيما يخص الحروب.. قبل البدء في أي حرب، أقترح أن يواجه كل جندي جندياً من الجيش المُعادي ويتلاعنا لمدة أربعة أيام مع ضمان وجود مترجم ماهر في حالة اختلاف اللغة.. قد يؤدي تفعيل هذا الاقتراح لوأد الحروب، وكشف سذاجة وضبابية الدوافع التي تقف وراء نشوبها في غرف يمكن تسميتها "ساحات السباب الحربي"..ثانياً أقترح الانكفاء على مشروع قاموس للسباب يتضمن كافة أنواع الشتائم الغابر منها والمُحَدث مع تصنيفها بدقة..ففي ذلك فرصة لإعادة بعث بعض الشتائم إلى الحياة وفرصة لدراسة تطور المجتمع من منظور جديد ،عبر تحليل أنماط السباب في مراحل زمنية ومكانية متباينة.. أدعوك للتأمل ملياً في فضائل السباب الجمة..ويسعدني أن تبدأ الآن بسبي..التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف