ثقافات

"عزرا ستولر".. وصوره المعمارية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ماذا تعني الصورة.. معمارياً؟ انها تعني الكثير. وهذا "الكثير"، حافل بتنوع المقاصد، ومترع في الغايات المتعددة. فالصورة المعمارية تعد بمثابة "الولادة" الثانية للمنتج التصميمي. إذ من خلالها (من خلال الصورة، وزاويتها الملتقطة)، يتبدى المنشأ للمتلقي، مثلما يتوق المصور الفوتوغرافي به "عكس" الحدث المرئي الملتقط، مبيناً تصوراته واسلوب ادراكه له. وكلما كانت الصورة الملتقطة، تتضمن ما يمكن ان ندعوها بمواصفات الصورة المهنية الناجحة، كانت النتيجة "التصويرية"، لافته وهامة في حضورها "الافتراضي". بل واضيف، بان قيمة الصورة المعمارية مهنياً، تتماثل مع اهمية "وفائدة" lt;اللقطة المعادةgt;، لحدث "التهديف" في لعبة كرة القدم. فنحن، عادة، نتفاجأ، ونأخذ على حين غرة، عند لحظة التهديف الواقعية، وبالتالي "تفلت" منا مراقبة ذلك "الفعل"، وتبيان وضعية اللاعبين وامكنتهم. بينما، توفر لنا "اللقطة المعادة" امكانية "متعة الرؤيا"، في تتبع إسلوب اللاعب الهداف، وطريقة لعبه، كما تظهر مواقع رفاقه ومنافسيهم قبيل التهديف وما بعده، ما يجعلنا، نحن مشاهدو اللعبة، نعي جيدا وباهتمام ملحوظ، مهارة اللاعب الهداف وطريقه عمله. والحالة ذاتها، تكاد تقترب من طبيعة واهمية "الصورة" المعمارية الملتقطة. فهي بمقدورها ان تختزل المشهد المرئي بصورة محددة، تكون عادة "ملتقطة" من سياق البيئة المبنية، مثلما تخبرنا الصورة اياها بوضوح (وبواقعية ايضاً)، عن طبيعة عمارة المبني، ونوعية مواده الانشائية، فضلاً على منحنا تصوراً عن مقياسه ومقاسه، ونوعية ملمسه وتفاصيله الخارجية أو الداخلية، تبعا لخصوصية ومكان اللقطة الفوتوغرافية وزاويتها.
كثيرون هم الذين منحونا "رؤية" العمارة، عبر صورهم الفوتوغرافية. كل منهم، اهتم بـ"تفصيل"، ينزع به لان يقدم لنا عنواناً للمشهد المرئي المثبت في لقطة مصورة. لكن صور "عزرا ستولر" (1915-2004) Ezra Stoller، التى من خلالها عرف العالم نماذج عمارة الحداثة بالصيغة والزاوية التى راها المصور النيويوركي المشهور، تظل تمثل اللحظات الثانية لولادة العمارة المبنية. فهذا المصور البارع، الذي اشتغل كثيرا على نماذج صور عمارة الحداثة المعمارية، استطاع ان "يهب" الوسط المهني الهندسي العالمي، (والمعماري على وجه الخصوص)، ما يمكن ان نسميه روائع صور عمارة الحداثة وسجلها التوثيقي المميز. وأن يشاهد ذلك الوسط المهني، المنتشر في ارجاء العالم كافة، لقطاته المصوره عالية المهنية، الحافلة بجمالياتها والزاخرة بحداثتها، وأن يجعل من تلك الصور ومن نشرها، وسيلة هامة في تكريس معنى عمارة الحداثة ومفهومها في المشهد المعماري وخطابه في آن واحد.
ليس من ثمة مبالغة، القول، بان كثراً من الدارسين للعمارة في مدارس العالم المختلفة تعرفوا على ذلك المنجز الحصيف عبر صور "ستولر"، الصور المعبرة التى تنضح جمالاً وعذوبة. اعترف، شخصياً، باني تعلمت عمارة الحداثة، أيضاً، منه، كما علمّت لاحقاً طلابي تلك العمارة من خلال الصور الرائعة اياها، التى لا تنسى، هي التى جسدت امثلة عمارة الحداثة المبنية وثبتتها في الذاكرة البصرية، وباتت بمنزلة "ايقونات" المنجز المعماري الحداثي وسجله التوثيقي الرائع. لست وحدى الذي يقول هذا. يقوله، ايضاً، عديدون: اساتذة وطلاب فضلا على متابعي المنتج المعماري الحداثي، منتشرون في جميع ارجاء هذا العالم الفسيح! من هنا، في إعتقادي، تنبع الاهمية المعرفية.. والجمالية لتلك الصور التى سجلت للمنجز المعماري الحداثي، خيرة نماذجه التصميمية.
ولئن ولد "عزرا ستولر" في شيكاغو، فانه ظل يعتبر "نيويوركياً" دوما. هو الذي تعلم في جامعة نيويورك، ودرس فيها العمارة والتصميم، ليحصل بعد ذلك منها دبلومه في التصميم الصناعي عام 1938. مكرسا حياته المهنية اللاحقة للتصوير، ولاسيما تصوير نماذج عمارة الحداثة، ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في اماكن آخرى من العالم، حيث "تحضر" تلك الابنية، مثرية المشهد المبني بنماذجها اللافتة. في نيويورك، المدينة التى عاش وعمل فيها جل حياته المهنية مستفيدا من وجوده فيها، كون ان المدينة الامريكية المشهورة كانت (ولاتزال) مقرا للكثير من المجلات الفنية والمعمارية المهمة، ولكون، في هذه المدينة تحديدا، تم انجاز وبناء خيرة نماذج عمارة الحداثة، مما سهل عليه تصويرها ومتابعة متغيرات البيئة المبنية في تلك المدينة التواقة للتغيير، والمتخمة في حب الحداثة، اياً يكن جنسها الابداعي.
ظل "عزرا ستولر" على امتداد حياته المهنية، التى امتدت نحو نصف قرن، اميناً ومحباً للصورة الملتقطة بالابيض والاسود (عدا حالات قليلة صوّر فيها بالالوان). وصوره ذات التدرجات والظلال المستخدمة فيها شتى مشتقات اللون الرمادي برهافة، مع الابيض والاسود، كانت تفتن المعماريين انفسهم: مصممي تلك العمارة الحداثية، قبل ان تسحر محبي العمارة ذاتها. اعتنى "ستولر" كثيرا في تثبيت اللحظة المصورة. وكان يصرف وقتاً طويلاً قبل ان يضغط على زر كاميرته، ذات الحجم الكبير؛ هي التى دعاها "رولان بارت"، يوماً ما، lt;بالعلبة النيرةgt;، كناية عن الصندوق الاسود لكاميرا التصوير. كان يردد كثيرا، بانه. يعدل "الصورة، وlt;أحررهاgt;، قبل ان أضغط على الزر". وهو يصف اسلوب عمله التصويري" ..ارى عملي مماثلا لعمل الموسيقار، هو الذي يحول العلامات المرسومة الى حركة كفوءة تنبض بالحياة. وبما اني ليس بمقدوري، ان اجعل من المباني الردئية اعمالا جيدة، فاني بمستطاعتي ان انتزع طاقة جديدة من العمل، الذي اراه ينبض بالحيوّية!". ويقول ايضا بان " التصوير الفوتوغرافي، ما هو الا حصيلة تجميع الفضاء والضوء والملمس، بيد ان العنصر الاكثر أهمية هو - الزمن، تلك lt;النانوgt;/ لحظة، التى بها يرسم الفضاء ذاته على الزجاج المعتم". وعن علاقته بالمعماريين المصممين الذين يصور منجزهم التصميمي، يقول ".. في السابق، عندما يكلف المعماريون مصوريين لتصوير اعمالهم، كانوا يحددون لهم ماذا وكيف يمكنهم تصوير بناياتهم، والآخيرون يعملوا ما قيل لهم. معي، كان الامر مختلفاً. فالكثير منهم، يترقب، بعد طول انتظار، نتيجة عملي للصورة!".
في صوره التى "ثبت" بها نماذج عمارة الحداثة، العمارة المتعاطف معها ومع مصمميها، يحلو للكثير من المتلقيين :طلاب العمارة واساتذتهم، وحتى المتابعين لهذا المنجز الابداعي، يحلو لهم، ان يروا تلك النماذج المعمارية واقعياً، بالزاوية والمكان الذي التقط "عزرا ستولر" صوره لها. فمن خلال تلك الصور وزوايا رؤيتها، يتكشف المبنى المصور باحسن حالاته. ينطبق هذا على الـ"سيغرام بيلدينغ": المبنى النيويوركي الشهير، لـ "ميس فان دير رّو"، مثلما على "بيت الشلال" لفرنك لويد رايت، كما ينطبق على "رونشان" لو كوربوزيه، وعلى كاثدرائية برازيليا لاوسكار نيماير، وعلى مطار كندي النيويوركي الشهير، عمارته التى تخلو من اي خط مستقيم، بعد ان هجر معماره "ايرو سارنينن"، اسلوب ميس فان دير رّو العقلاني، والذي جسدته عمارة مجمع "جينرال موتورز" في وارن / مشيغان للمعمار نفسه، صورته الملتقطة من قبل "ستولر"، مافتئت تعبر بصدق عن روحية عمارة المبنى وعناصره التصميمية. وهل يمكن للمرء ان ينسى صورة مبنى "ليفر هاوس" النيويوركي المشهور، (المعمار غوردن بونشافت)، او اللقطة التى امست تاريخية لـ "انترير" الجناح الفنلندي في معرض نيويورك سنة 1939، للمعمار آلفار آلتو، فضلا عن صورته التى باتت "ايقونة" بصرية لمعهد lt;سالكgt; للابحاث البيولوجية في كاليفورنيا، هي التى تحضر بقوة كلما دار الحديث عن منجز معمارها المشهور "لوي كان"، فتتجلى للناظر بـ "سيمتريتها" الصارمة، وأشكال عمارتها الصافية، المختزلة والعارية حد الصدمة. وكل هذة الصور وغيرها من اللقطات الفنية الآخرى، التى بها "عكس" عزرا ستولر مزاجه و"مزاج" عمارة مبانية بشكل مقنع، وصريح وبوضوح لا لبس فيه، تتواجد الآن، في الكتاب الصادر مؤخرا، بعنوان "عزرا ستولر: مصور فوتوغرافي" (المؤلفان: نينا رابابورت و ايريكا ستولر، منشورات جامعة يال، نيوهيفن، 2012، عدد الصفحات 288 ورقة من القطع الكبير).
تشترك الصور المنشورة في ملف العمارة (يتضمن الكتاب ملفاً آخرا، يتعاطى مع ثيمة الإنسان والآلة)، تشترك في إنها، بغالبيتها، ملتقطة بالابيض والأسود. وتظهر العمارة المصورة فيها، وكأنها "بورتريه" شخصي للمبنى. بها تُعرف، ومن خلالها "يرى" العالم اسلوب عمارتها بـ "اميجها" البصري. ورغم تباين المقاربات التصميمية، وإختلاف زوايا النظر الى الصور الملتقطة، فإن ثمة رابطاً واضحا يوحدها، هو رابط ثيمة الحداثة. كما لو إن الصور قادرة فعلاً على تجسيد الحداثة المعمارية. كما لو إن الصور تبتغي، أيضاً، ان تكون جزءاً لا يتجزأ من ذلك المفهوم، المحبب الى قلب المصور، هو الذي ناصر الحداثة، وأعجب بها إيما إعجاب!
وهذه الصور العديدة الملتقطة عبر كاميرا ستولر الخاصة، والتى تنتمي الى مناطق جغرافية متنوعة، أمست اليوم "رقمية"، ومتاحة للجميع سيما لدارسي العمارة، وخصوصا عمارة الحداثة، هي التى غيرت كثيراً من البيئات المبنية لمدن عديدة في الفترات الزمنية الماضية. لقد أخذت "اريكا ستولر" (وهي ابنة المصور، وهي ذاتها احد مؤلفي الكتاب)، على عاتقها ان تستمر في تهيئة مستلزمات "الترقيم" لتلك اللوحات الفنية، من خلال lt;مجموعة "ايستو" Estogt;، التى أسسها والدها في إواخر سنين حياته. وعبر ارشيف هذه "المجموعة/ الشركة" يتبين ثراء منجز "عزرا ستولر" التصويري، وأهميته في حفظ الذاكرة البصرية لعمارة الحداثة. ولعل "اندي غروندبيرغ" وهو استاذ فن التصوير الفوتوغرافي، وعميد كلية كوركوران Corcoran للفن والتصميم في واشنطن، كان على حق، عندما كتب في مقدمته للكتاب " أخذاً في نظر الاعتبار، التوسع الكبير لانتاج الصورة اليوم، والتى تبُدع لغايات متنوعة ومتلقيين متنوعيين، فان صور "عزرا ستولر" لم تعد تحمل "علامتها" بكونها وجدت لتكون مفيدة. وفي الحقيقة، فان فائدتها، هي جزء من سحرها، وعذوبتها، وجماليتها الكلية. انها شُغلت كي تسلينا، وهي ما برحت طوال تلك السنين العديدة، تقوم بذلك. انها باختصار تكاد ان تكون بمنزلة مواطن درجة اولى!". حاز "عزرا ستولر" عام 1961، الجائزة الذهبية للتصوير الفوتوغرافي من إتحاد (معهد) المعماريين الامريكي. كما اصدر كتابا نشر سنة 1999، بعنوان "عمارة الحداثة: بعدسة عزرا ستوار".
توفي "عزرا ستولر" بمدينة "وليمستاون، في ماساشوستس، وذلك في 29 تشرين الاول (إكتوبر) 2004، اثر مضاعفات سكتة دماغية.□□

د. خالدالسلطاني/مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف