ثقافات

من التراث البغدادي ألأصيل: مدرسة ألإعدادية المركزية للبنين

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

.... إسمٌ عريق وتأريخ وطني ناصع

تحظى معاهد التعليم المتميزة في العالم المتحضر بكثير من التقدير والإحترام والرعاية من قبل جميع فئات المجتمع ؛ وعلى المستويين الرسمي وألشعبي. فالذين يلتحقون بها ويتخرجون فيها يشعرون بالزهو والفخر طوال حياتهم. ويظل هذا الشعور الجميل يلازمهم دون فكاك. وكلما ضمتهم مناسبة او لقاء للخريجين تتفجر تلك المشاعر فتنتصب أمام أنظارهم تلك المشاهد والمناسبات البهيجة التي سبق وجمعتهم يوما ما في المدرسة او المعهد وفي أحد صفوفها او مختبراتها او ساحاتها او قاعاتها. او في سفرة مدرسية او ندوة او مناظرة. وقد لاتسنح فرصة مواتية لإلتقاء الخريج بزملائه وأصدقائه بعد التخرج قبل مرور سنوات طويلة. وإن حصل مثل هذا اللقاء فلعله يفاجأ بأنه ليس بإمكانه التعرف عليهم قبل ان ينعم النظر مليا في وجوههم عله يلتقط إشارة او حركة متميزة. فهو قد تركهم يوم كانوا شبانا يافعين فأمسوا كهولا أوشيوخا ؛ بأجساد مرتجفة وجفون شبه مقفلة وظهور منحية. وبعد أن يتعرف على صاحبه نراه ينطلق نحوه ليحتضنه ودموع الفرح تنهمر من عينيه ؛ فيذكرّه بإسمه. وهنا يأخذ ألإثنان بإعتصار أحدهما ألآخر من الشوق والحنين!.
ومعظم الخريجين يحتفظون بآثار ثمينة وجميلة تؤرخ للمدرسة او للمعهد ؛ كالأوسمة او الملابس الخاصة او الكتب او الكراسات وما شاكلها. فكلما نظر اليها يتجدد شبابه ونشاطه فيعيش حالة من التأمل والشعور اللذيذ. وكثيرا ما كانت تلك الآثار محفزا للأبناء وألأحفاد لينهجوا عين النهج. وقد تسنح لهم الفرصة ليلتحقوا باحدى المدارس المتميزة كآبائهم وأجدادهم.
والمدرسة ألإعدادية المركزية هي من هذا الطراز من المدارس المتميزة التي لايمكن للخريج ان يتناساها. فقد كانت مدرسة رسمية نموذجية بكل ما يعنيه هذا الوصف. كما عرفت بتميز أساتذتها علميا وبدماثة أخلاقهم وعشقهم للعمل. وبرصانة مناهجها التربوية والتعليمية وتقدمها ؛ وحنكة وإلتزام مديرها ؛ وإحكام نظامها ألإداري وجدية طلابها وحبهم للتعلم والتفوق والتعاون.
والدراسة فيها مجانية والكتب المدرسية متوفرة. وألأساتذة لايبخلون على طلابهم في توفير ما يعينهم على الفهم والإستذكار. وإن تعذر على الطالب شراء الكتب والمراجع الجديدة فما عليه سوى السير خطوات نحو (سوگ الصرايْ) ويتوجه مباشرة الى مكتبة (أحمد أبو شهاب) ليحصل على مبتغاه من الكتب المستعملة وبأثمان متهاودة. وبمقدوره ايضا شراء اسئلة إمتحانات (البكلوريا) للسنين السابقة.
والمدرسة الإعدادية المركزية كانت بمثابة النجم القطبي الذي يشير الى نظام التعليم العام وألى المدارس والمعاهد الأخرى التي أنشئت منذ اواخر العهد العثماني وحتى الحكم ألوطني الذي وضعت لبناته الأولى عام 1921 . فقد تم إفتتاح المدارس العمومية والرشدية بنوعيها الملكي والعسكري وكذلك دور المعلمين ؛ على وفق القانون العثماني المسمى (معارف عمومية نظام نامه سي) والذي صدر عام 1869 م. ثم أفتتحت (كلية ألأعظمية) ألإسلامية عام 1911. وبعد إحتلال العراق من قبل بريطانيا توالى إفتتاح المدارس الثانوية عام 1919 م ؛ ومن بينها المدرسة (الثانوية) التي تحولت الى مدرسة (ألإعدادية المركزية للبنين) عام 1938 م.
وتقع المدرسة العتيدة في الشارع المؤدي الى بناية (الصراىْ) والذي يبدأ عند بناية المدرسة المأمونية ألإبتدائية الشهيرة التي إلتحق بها الملك (غازي) وكثير من الشخصيات البارزة والواقعة في ساحة الميدان. وتقابل باب (ألإعدادية) الرئيس بناية (التيلخانة) التي أنشئت عام 1913 م والتي تحولت فيما بعد الى دائرة البرق والبريد المركزية. وينطبق هذا الوصف الذي أسرده ألآن حين إلتحقت فيها طالبا عامي 1946 م و1947 م بعد ان جئتها من المدرسة (الغربية المتوسطة).إذ كانت من ألأعوام البارزة والحرجة التي إشتدت فيها الحركة الوطنية بعد ان دخلت في مخاض طويل خلال سنوات الحرب العالمية الثانية ؛ وإستمرت حتي بداية الخمسينات من القرن الماضي. فقد تفجرت أيامئذ وثبة كانون الثاني الباسلة عام 1948 م لأسقاط معاهدة (بورتسموث) البريطانية الجائرة. وكانت (معركة الجسر) من الملاحم الشعبية التي سالت فيها دماء زكية وسقط فيها شهداء.
ويقع خلف بنايتها (البرلمان) الذي أنتخب في العهد الملكي ومقر (نادي الضباط). وأنشئت بناية المدرسة على وفق طراز معماري جميل من ألأقواس وألأعمدة الجدارية التي بنيت بالطابوق العراقي الجميل. فالبناء مكون من مربع واسع من طابقين يضمان الصفوف والقاعات والمختبرات التي تنفتح على الطارمات والمماشي ؛ ووفق نسق الدور البغدادية القديمة من حيث ألأساس ؛ حيث تتوسطه ساحة كبيرة أشبه بـ (الحوش) التقليدي. وللبناية باب حديد رئيس يحرسه ؛ وبكبرياء ؛ الفراش (مُرْبَط) وهو يحمل (الزنجيل) و(القفل) الكبير. ولِمَ لا وبيده (المفتاح) الذي يفك به (عقد وأربطة) الطلبة الذين يرغبون بالخروج من المدرسة لقضاء حاجاتهم الضرورية. وبعد إجتياز المرء للباب الخارجي تواجهه الساحة الأمامية الكبيرة ؛ حيث يتجمع قسم كبير من طلبة القسم العلمي أثنار الفرص وليكونوا قريبا من صفوفهم التي تمتد الى الجانبين من البناية. فالشُعَب من (ألألف) الى (الجيم) تقع الى يمين المدخل المؤدي الى الفناء الداخلي الرئيس ؛ حيث مكتب المدير ألأستاذ القدير (علاء الدين الريس) ؛ ويقابله مكتب معاون المدير الأستاذ الفاضل (نعمان التكريتي) ذي القلب الكبير الذي يلتجئ اليه الطالب كلما ألمت به مشكلة. بينما تقع الشُعب من (دال) الى (واو) الى اليسار منه. وهنا يقع مكتب المعاون الثاني الأستاذ الشهير (ذو النون أيوب) ؛ القاص المعروف ومدرس الرياضيات القدير. كما نجد في المقدمة ايضا غرفة لإستراحة ألأساتذة ؛ حيث يشرف عليها رجل كرخي نشيط يعتمر السدارة الفيصلية هو( مجيد رشيد) ؛ قارئ المقام المعروف. وكان واحدا من خبراء المقام العراقي في الإذاعة ألعراقية. ولشدة تعلقه بالمقام تراه يبدأ بالدندنة حالما يسأله أحدنا عن مقام معين وكيف يحرر ويختم.
وحين نجتاز المدخل او الممر ونحن نسير على أطراف أقدامنا إحتراما وهيبة لشخصية الأستاذ (الريس) ألآسرة وتفاديا لنظراته الحادة الفاحصة التي تنطلق في كل الإتجاهات....نجد أنفسنا في الساحة الداخلية أو (الحوش). وهنا تقع شعب القسم ألأدبي وبقية المرافق التعليمية والمساعدة. ومن أشهر مرافق هذا الجزء مختبر الكيمياء الذي يقع الى اليمين. وهو مختبر مزود بالإجهزة والمعدات اللازمة : حيث الخزانات والرفوف التي تحفظ المواد الكيميائية ؛ والمناضد المزودة بالغاز لتشغيل مصابيح (بنزن) والذي يولد من بخار بنزين الطائرات بطريقة التبخير بواسطة ماكنة خاصة تعمل بالأثقال والبكرات وتدار وتشحن يدويا. وكان من يقوم بهذا العمل الجميل شخص أحبه وأحترمه الطلبة وهو (عمران). وكان أيضا مسؤولا عن المختبر. فقد كانت لديه المقدرة على التمييز بين الكثير من المواد الكيميائية الرئيسة وذلك من ألوانها او مواقعها اوأشكال القناني او من الشكل العام للكتابة ألإنكليزية ؛ او من روائحها المتميزة !؟. وكان في بعض الأحيان يكلفه الأستاذ بمعاونته على إجراء التجارب الكيميائية. ولقد توطدت بينه وبيننا ؛ نحن الطلبة الذين نعشق الكيمياء ؛ المودة وألإحترام. وحين كنا نسأله بإنبهار: (عمي عمران ....إشلون تفرقْ بين المواد الكيميائية وأنت متعرف إنگليزي)!؟. فتآتی إجابته الواثقة: (كله من فضلْ الله.....ومثل ما أفرقْ بينكم أفرقْ بينها ...)!؟. ورحم الله (عمرانا) تلك الشخصية النابهة. فقد كان إيقونة جميلة من إيقونات المدرسة (المركزية). أما في الطابق الثاني فيوجد (المرسم) الذي كان يشرف عليه الفنان التشكيلي الكبير (إسماعيل الشيخلي).
ولعل من ابرز مرافق المدرسة هو ( متحف التأريخ الطبيعي) ومختبرألأحياء الذي يحتوي على نماذج جميلة من الحيوانات المحنطة التي ينجذب اليها زوار المدرسة وضيوفها قبل أي مرفق آخر. وكان قد زار المتحف (الملك فيصل الثاني) بصحبة (الوصي عبد الإله) وعدد من الوزراء وذلك عام 1957 م. وكان يرافقهم المدير ألأستاذ (علاء الدين الريس) وألأساتذة المختصون. ونحن حين نذكر هذا المرفق العلمي الجميل لابد وأن ينصرف تفكيرنا ومشاعرنا نحو الأستاذ القدير والمربي الكبير ( محمد سليم صالح) ؛ مدرس مادة (ألأحياء) والذي رعى هذا المتحف ودأب على تطويره. وهو أيضا مؤلف أفضل (البوم) للأحياء في ذلك الزمن. وتضم بناية المدرسة أيضا مختبرا للفيزياء مزودا بالأجهزة والمعدات التعليمية الرئيسة. وكان يشرف عليه ألأستاذ القدير (ناجي عبد الصاحب) وألأستاذ المحبوب (ناجي عبد الله). وهناك المكتبة الغنية بالكتب الدراسية والثقافية العامة. وكذلك توجد ساحة للنشاط الرياضي ؛ ومرافق للخدمات.
ولعل طلبة المدرسة يتذكرون جيدا القاعة الرئيسة والمسرح الواقع خلف مجمع المدرسة. وكانت تقام فيها التمثيليات وألإحتفالات والمناظرات. وأتذكر جيدا ذلك الموقف المثير الذي فجره الفنان الفطري القدير ( شهاب أحمد القصب). فبينما كان يؤدي دوره في تمثيلية وطنية مشحونة بالعواطف المتأججة خاطب وبصوت عال أحد الممثلين: (إنت لو بيكْ خيرْ چان أخذتْ نفطكْ...!؟). وهنا علت هتافات الطلبة والحضور.... فتكهرب الجو ؛ حيث كانت الحفلة برعاية (معاون مدير المعارف العام) والمدير (ألأستاذ (علاء الريس). وكان الكاتب في هذا الوقت يؤدي برنامجا للألعاب السحرية الكيميائية كجزء من التمثيلية. لكن الجميع تجاوز هذا الموقف وأستمر البرنامج كما كان مخططا له.
إن من يعكف على دراسة تأريخ مدرسة (ألأعدادية المركزية للبنين) ومسيرتها الطويلة الباهرة لابد وأن يتناول ويتفحص فلسفتها التربوية والتعليمية ومناهجها وخططها الدراسية ونشاطاتها اللآصفية التي تنوعت وتلونت فشملت الفعاليات الرياضية والفنون التشكيلية والتمثيل والندوات العلمية والأدبية والثقافية العامة والسفرات الترفيهية. فالدراسة في المدرسة كانت بفرعين هما (العلمي) و(ألأدبي) ولمدة عامين ؛ الرابع والخامس. وكانت المحاضرت تنقسم على قسمين (نظري) وعملي) حيث يفوم الأستاذ بإجراء التجارب امام الطلبة. وكثيرا ما كان الطلبة يقومون انفسهم بإجراء بعضها وتسجيل مشاهداتهم ونتائجهم وكتابة التقارير. وكان اساتذة المدرسة يتم إختيارهم من بين ألمتميزين من خريجي (دار المعلمين العالية) او الكليات والمعاهد الأخرى. وكان بعضهم يحمل درجة (الدكتوراه) كالأستاذ (أنور كيسو) وألأستاذ (يوسف العطار) اللذين تخصصا في الكيمياء. وكان يغلب على جو (الصف) أثناء قيام الأستاذ بإلقاء المحاضرة الجد وألإلتزام والهدوء ؛ حيث تتجلى هنا المقدرة الواضحة للأستاذ المحاضر فيقابلها ألإنتباه وألإنصات التام من قبل الطلبة. وكان لنا نحن الطلبة الخبرة في تشخيص المقدرة العلمية للأساتذة وإسلوب أدائهم للمادة او في معاملتهم للطلبة. فالعلاقة بين ألأستاذ والطالب كانت علاقة حميمة يسودها الإحترام المتبادل. لذلك كان من المألوف ان يشاهد المرء أستاذا وقد التف حوله الطلبة بعد خروجه من المحاضرة وهم يتناقشون في ما ورد فيها. او يتبادل معهم بعض الطرف او الحكايات او التعليقات. وقد يطول النقاش إن كان الموضوع جادا. وكان ألأساتذة يتجنبون الحديث مع الطلبة في شؤون السياسة والدين كما هو شائع. لكن ذلك لم يمنعهم من التعليق العابرعن ألأوضاع العامة التي تسود البلاد. وخصوصا وان بعض المدرسين كانوا من المنغمسين في العمل السياسي او الحزبي. وكنا نحن الطلبة نميز أيضا بين ألأساتذة من حيث سلوكياتهم الشخصية. فبعض ألأساتذة لا يميلون الى التبسط اوالإختلاط مع الطلبة ؛ بينما نجد البعض ألآخر يتبسطون في الحديث معهم ويتبادلون الطرف والتعليقات البريئة ؛ او يشاركون في السفرات والفعاليات الطلابية المختلفة.
وكان عام 46 وعام 47 ( وألأعوام القليلة التي سبقتها والتي تلتها) من ألأعوام المشحونة بالنشاط الوطني الذي إتخذ له صورا متنوعة من الفعاليات من قبل الطلبة وألأساتذة. وقد تفهمت إدارة المدرسة طبيعة تلك ألأجواء. إذ لا خيار لها في مناهضته ؛ لاسيما وأن الجو السياسي العام في البلد كان يعارض سياسة الحكومة إتجاه علاقتها ببريطانيا. فنشطت أيامئذ حركة تكوين الجمعيات العلمية والثقافية وبتشجيع من الإدارة وبإشراف الأساتذة. وكان من بين تلك الجمعيات (جمعية الصناعات الكيميائية) التي أنتخب (الكاتب) رئيسا لها. وكان من أعضائها الطالب ( يوسف سعيد) ؛ المعروف بكنيته الشهيرة (حجي يوسف) و( راغب فخري) الإدعاء العسكري السابق و(أحمد وحيد) وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة على إستظهار إسمائهم. وقد اشرف عليها مدرس الكيمياء القدير ألأستاذ (شاكر الخفاجي). وكذلك (جمعية العلوم) التي ترأسها الطالب (عبد الوهاب صالح القدوري) وجمعية (الهدى) ورئيسها الطالب (حسان البزرگان). ولم ينحصر نشاط تلك الجمعيات في أهدافها الضيقة المعلنة ؛ بل تناول الشأن الوطني العام الذي علت رايته على ما سواه من شؤون طوال تلك السنين.
وكانت جمعيتنا من أكثر الجمعيات نشاطا ؛ نظرا لطبيعتها العملية الجذابة التي إستهوت عددا كبيرا من الطلبة ؛ ومن الفرعين العلمي وألأدبي. فقد كانت تقوم بصناعة دهون و(كريمات) الشعر ومبيدات الذباب ومزيلات الشعر والمواد الخاصة بإزالة البقع من الملابس وما شاكلها. وقد وضعت الإدارة تحت تصرفنا مختبر الكيمياء. فجلب الطلاب من دورهم القدور وألأواني للتحضير والقناني والعلب لتعبئة المنتوجات. وقمنا بإقتراض بعض المال من الطلبة الموسرين لشراء المواد ألأولية. وشعر الطلبة بنشوة كبيرة وهم يشاهدون إنتاجهم الصناعي بأعينهم. لكنهم سرعان ما أصيبوا بخيبة عابرة. فحين ذهب الطلبة الى (الشورجة) لتصريف بضاعتهم جوبهوا بتردد بعض أصحاب الدكاكين في شراء المنتوجات التي كانت أسعارها لا تزيد كثيرا عن كلفة المواد ألأولية. ومع ذلك تم تصريف الكثير منها. وقد عرفنا السبب فيما بعد ؛ وهو اننا وضعنا المنتوجات في قناني وعلب قديمة ومختلفة. ولصقنا عليها اوراقا عادية تحمل أسم المنتج. ومنذ ذلك الوقت عرفنا أهمية العبوات والوانها ودور ألإعلان والدعاية في الترويج للمنتوج. وراح بعض أصحاب الدكاكين يطلقون النكات والتعليقات المازحة ويغمزون بضاعتنا. من ذلك قول بعضهم: (إبني ؛ هذا مبيد للذبان لو مُقوّي...!؟) وقول آخر: ( أخافْ يطلع دهن الشعر دوا حمام...!؟). وهو مزاح إعتاد عليه أبناء بغداد بين الحين والآخر. وكانت مناسبة طيبة ان يحصل الطلبة النشيطون على ما تبقى من المنتوجات. فمن أحق بالمرق من أزياقهم...!؟.
والحديث عن (ألإعدادية المركزية) لابد وأن يقودنا الى الحديث عن أساتذتها الذين هم بمثابة ملح ألأرض. فهم عقلها المفكر وقلبها النابض. ونظرا لكثرة عددهم في المدرسة وتنوع إختصاصاتهم فسوف نذكر ما تستعيده الذاكرة الغاربة من أسمائهم اللآمعة. فمن بين الذين تناولوا تدريس المواد العلمية لطلبة ألأقسام العلمية ألأستاذ القدير والمثقف الثبت ( ناجي عبد الصاحب) ؛ مدرس الفيزياء. فقد كان الطلبة يعدونه بمثابة أب رحيم واخ كبير لهم. فقد عرف عنه إجادته قواعد العربية وأفانينها ؛ فوق تمكنه من علم الفيزياء الذي يعد أحد أساطينه. وكان ايضا أحد رواة شعر الجواهري الكبير. وما دمنا في مجال تدريس الفيزياء فلا يمكننا تخطى الأستاذ المحبوب (ناجي عبد الله) ؛ تلك الشخصية اللامعة التي لم نخطئ حين وصفناها بطير (السند وهند) السريع الحركة. فقد كانت أقلامنا تعجز عن اللحاق بأنامله وهو يسطر المعادلات على السبورة ويتتقل من زاوية الى أخرى كمثل ذلك الطير الرشيق. وعلى الرغم من لهجته (القافية) اليهودية المتميزة فقد كان يتحدث إلينا باللهجة البغدادية الأصيلة كأحد أبناء (أبو شبل) او (الفضل).
وكان هناك ألأستاذ المتمكن والمتعدد المواهب (شاكر الخفاجي) ؛ مؤلف كتابي (إزالة البقع) و(الكيمياء السحرية). فقد كان من أكثر المدرسين قربا إلى الطلبة وفي تقديم العون لهم. فهو من ألمع من درس الكيمياء في ذلك الزمن ؛ إذ تميزت محاضرته بالعمق والوضوح. ولم يتركه الطلبة يتمتع بالفرصة ؛ حيث تراه محاطا بهم إحاطة السوار بالمعصم. ولم يبخل عليهم بجهد او بوقت حين أشرف على جمعيتنا. فكنا نطبق تعليماته بحذافيرها في المختبر خوفا من الوقوع في أخطاء كيميائية لا تعرف عواقبها. وقد زامله في تدريس الكيمياء الدكتور (أنور كيسو) الذي كان قد وصل حديثا من ألمانيا. وقد كانت طريقته في التدريس تختلف قليلا عما ألفه الطلاب. فقد إعتمد على إسلوب مشاركتهم في النقاش وطرح ألأسئلة الكيميائية وألإجابة عنها تحت إشرافه.
أما ألأستاذ الرصين والشخصية البالغة النشاط ( محمد سليم صالح) ؛ والذي نوهنا بمنجزاته العلمية ؛ فانه يتميز بخصال محبوبة وفريدة. ففضلا عن غزارة علمه كان بالغ الجد وألإلتزام والضبط أثناء إلقاء محاضرته. ويكاد المرء يسمع صوت دبيب النمل في صفه...!. لكنه متى ما غادر الصف فهو واحد من الطلبة في شفافية روحه وبساطة تعامله مع الطلبة والمساعدة في حل مشاكلهم. وكان قد زامله في تدريس مادة (ألأحياء) الأستاذ الرصين ( عبد الحميد الناصر). ذلك ألإنسان المثقف الملتزم الذي حظي بإحترام شديد من قبل من درسهم من الطلبة.
اما دروس الرياضيات فقد تناوب على تدريسها نخبة من الأساتذة المتميزين وهم (سليم نعش) و(ذو النون أيوب) و(شاكر زلزلة) و(عبد الجبار وهبي) والذي لم يستمر طويلا. ولكل من هؤلاء ألأساتذة المقتدرين صفاته وخصاله المتميزة. فقد كانت محاضرة ألأستاذ (ذو النون) بالغة الجد والسرعة. فكان أشبه بالقاطرة التي لايمكن اللحاق بها. وقد تميز بدماثة الخلق والرصانة في السلوك. فهو الى جانب مهمته في التدريس كان المعاون الثاني للمدير. وكان مسؤولا عن شؤون الطلبة. لكنه لم يكن سخيا في منح الطالب إجازة مغادرة المدرسة مالم يقتنع بالسبب. وهو أمر كنا نعرفه عنه سلفا....لذلك كان الطلبة يلتجئون الى المعاون ألآخر ألأستاذ (نعمان بكر التكريتي) الذي كنا نصفه بواحد من أولياء الله الصالحين. فقد كان قلبه يرق للطالب الذي يشرح له مرض أبيه الشديد (؟) ليحصل على إجازة لمغادرة المدرسة وليكسر بها كبرياء الفراش (مربط) !.
اما ألأستاذ (سليم نعش) فهو من المدرسين القلائل الذين كانوا يرفعون خيمة العلم وألأخلاق الحميدة من جميع أطرافها. فهو أستاذ متمكن من علمه الى جانب دماثة أخلاقه وإحترامه للطلبة والتعاون معهم. وكان لايبخل بالمشاركة في سفراتهم وفعالياتهم اللآصفية. وأتسمت طريقة تدريسه بالرصانة والسلاسة. فكانت المادة العلمية تصل الى الطالب بيسر بالرغم من صعوبتها.
ويتميز زميله ألأستاذ (شاكر زلزلة) بالجد والسرعة والرصانة وهو يلقي الدرس. وكان الطلبة من جانبهم يحترمون هذه الخصال ويحسبون حسابها.
أما اللغة العربية ؛ كوكبة الدروس في هذه المدرسة العتيدة ؛ فقد تناوب على تدريسها أساتذة أجلاء ومشهود لهم بالعلم والمعرفة والكفاية. فقد درّسنا ؛ نحن طلبة القسم العلمي ؛ ألأستاذ الجليل (عبد الواحد عبد الغني). فقد كان مربيا فاضلا ومدرسا مقتدرا وذا شخصية محبوبة تميزت بالهدوء والرصانة حين يتحرك في الصف كنسمة الهواء. وكانت محاضرته غنية بمادتها اللغوية. فهو يتنقل مع الطالب من القواعد الى ألأدب والشعر والبلاغة والبيان. فكنا نحن الطلبة نشعر بلذة عارمة ونحن ننصت اليه.
وكان ممن درَّس (العربية) لطلبة القسم ألأدبي ألأستاذ الكبير (صادق الملائكة) والد الشاعرة القديرة (نازك الملائكة). فكان بحرا في اللغة وفي ألأدب العربي القديم الى جانب رصانة شخصيته المحبوبة وهيبته الظاهرة. اما ألمدرس ألآخر فهو المربي وألأستاذ المتمكن (صادق ألأعرجي) الذي عرف بعلمه الغزير في اللغة الى جانب روحه المرحة وميله الى الفكاهة وممازحة الطلاب الذين يتأخرون في إلإجابة ؛ وذلك بعبارته الفارقة: (هاىْ إشبلاكْ....آخْ يا بُومة...!؟). والتي عرفناها من طلبة القسم ألأدبي.
ومن مدرسي القسم ألأدبي البارزين الأستاذ الجليل (حسن طه النجم) الذي تولى تدريس الإقتصاد والجغرافية. وكان طلبة القسم يثنون عليه ثناء جما لغزارة علمه ودماثة خلقه ورصانة شخصيته.
نعود الى أستاذ الرسم الفنان الكبير (إسماعيل الشيخلي) الذي تعرفه من بعيد وهو يخف الخطى منتصب القامة مرفوع الرأس. وقد عرف عنه قربه الى الطلبة بمعاملته الطيبة لهم ؛ وخصوصا أولئك الذين التحقوا بالمرسم لممارسة هوايتهم في الفرص.
ودرَّس (اللغة الإنكليزية) لطلبة القسم العلمي ألأستاذ (بولص) وألإستاذ (ميخائيل). وكلاهما من الشقيقة مصر. وعرفا بدماثة الخلق ولين الشخصية وإحترامهم للطلبة ومشاركتهم أياهم في السفرات المدرسية وخصوصا ألأستاذ (بولص).
أما دروس الرياضة فقد تناوب عليها ثلاثة من أمهر مدرسي الرياضة في العراق. وهم ألأستاذ المتمرس ( عبد الواحد الدروبي) وألأستاذ (إسماعيل محمد) وألأستاذ ( محمود المولا). فقد كانوا ثلاثتهم مثالا للخلق الرفيع ولصلاتهم الطيبة بالطلبة. وكانوا كالفاكهة اللذيذة ؛ إذ أن لكل منهم نكهته الطيبة المتميزة. فمن سلاسة وطيبة (الدروبي) الى جدية وألتزام (محمد) الى تحفظ وجدية (المولا) الذي تعرفه من نبرة صوته التي تخرج من أنفه ؛ حتى لو لم تكن تنظر اليه..!. وكان درس الرياضة فرصة لتجديد النشاط العضلي والدورة الدموية. او فرصة للفرار ( ولو موقتا) من المعادلات الكيميائية او من الرياضيات او الفيزياء ...!؟. وقد تحدث بعض (المساومات) ألإخوانية بينهم وبين أساتذة العلوم لأستعارة عدد من ساعات الرياضة لحاجاتهم. وكانوا يفضلون التفاوض مع ألأستاذ (الدروبي) لإنجاح المهمة...!؟. وإنه لمن حسن طالعنا ان نلتقي بعد سنوات بباقة من هؤلاء الأساتذة ألأجلاء ونحن زملاء نعمل سويا في الجامعات والمعاهد والكليات. بل وأصدقاء وجيران ؛ حيث ضمتنا أمسيات عائلية بهيجة. فكنا ننتهز الفرصة لتذكيرهم ببعض المواقف الطريفة او المحرجة التي حصلت لهم مع الطلبة والتي نسوها او يحاولون تناسيها تفاديا للإحراج في تلك الأجواء ألأسرية الحميمة !.
وقبل أن أختتم الحديث أجد لزاما علىّ ان اذكر كلمة طيبة بحق المربي الكبير ألأستاذ (علاء الدين الريس). فقد كان مثالا للعدل والحزم وألإلتزام بالقيم التربوية العليا. كما كان مثالا للأب الرحيم الذي يحنو على أبنائه دون تمييز. فلم أسمع عنه انه قسا على طالب مخطئ بكلمة جارحة. ولم تحدث خلال إدارته الطويلة تجاوزات كبيرة. فكان يدير المدرسة بإسمه وبصيته وبنظراته الحادة . ومتى ما سمع أحد الطلبة بأن (المدير) يطلبه حتى يرى الدنيا تدور في رأسه ؛ ويبدأ يضرب أخماسا بأسداس عله يخمن السبب..!. وقد أذكر للقارئ الكريم حدثا مهما حصل معي وهزني هزا. فبينما كنت أتجادل ؛ وبحماس ظاهر ؛ مع أحد الطلبة في الساحة التي كانت بمثابة المنتدى بالنسبة لنا نحن الطلبة. فقلت له: ( لم يكن آدم أول البشر...فقد سبقه إنسان (جاوة) الشبيه بالقرد. ولم يكن آلنبي آدم شبيها بالقرد...!؟. وكان من كنت أجادله طالبا ضيق ألأفق وتنقصه الثقافة العامة. فقد كنت قد قرأت نظرية (دارون) في التطور وأصبحت أفاخر بمعرفتي بها كما يفاخر حديث النعمة بنعمته...!. ولم تمض دقائق حتى إستدعاني المدير. وكاد يغمى علىّ وأنا ادخل المكتب. فلم تكن لدي فكرة عن المشكل. وإذا به يفاجئني بحضور بعض ألأساتذة: ( إبني...أكو أوادم گبل آدم...)!؟. وصعقت من السؤال المباغت وفقدت القدرة على الكلام. وشعر بحرجي الشديد. ولكنه ؛ ولخبرته الطويلة في الحياة ؛ يسر علىّ الجواب قائلا : (إبني ... مو كل شئ نعرفه نحچي بيه هنا وهنا...!؟). فخرجت منه وقد كتب لي مستقبل جديد...!؟.
تلك هي مدرسة (ألإعدادية المركزية). ذلك الصرح الجليل الذي خرج من بين أروقته رجالات العراق العظام ؛ ومن كل الإختصاصات: رجال فكر وأدب وفن وعلم وأطباء ومهندسون ورجال أقتصاد ومال وصناعة وأمثالهم. وهي وإن لم تكن ألإعدادية الرسمية الوحيدة المتميزة في العهد الملكي فقد جاءت بعدها (إعداديات) متميزة كالأعظمية والكرخ تخرج فيها رجال عظام ساهموا في بناء مؤسسات الدولة الناشئة ومنشآتها الحضارية. فكانت لدينا كليات طب وصيدلة وهندسة وحقوق وعلوم وأقتصاد وسواها مما يشار اليها بالبنان. فكان العالم المتقدم ينظر الى خريجيها بعين الرضا والتقدير العالي. فمنحهم أعلى الدرجات العلمية في الإختصاص. وكان أطباؤنا مثار إعجاب العالم وهم يؤدون أعمالهم داخل العراق او خارجه. وما ينطبق على الأطباء ينطبق أيضا على العلميين والمهندسين واللغويين وألأدباء والشعراء والفنانين وسواهم. وكثير منهم أشتهر على مستوى العالم.
وقد يظن البعض بان السبب كان يعود الى الكتاب الدراسي اوالى المنهج المسطر على الورق فحسب. والواقع ؛ فان تلك النجاحات الباهرة كانت نتاج وحصيلة عدد من العوامل الرئيسة. يأتي في مقدمتها إستقرار المجتمع المدني وثبات وطهارة العقيدة الدينية والمفاهيم الفكرية والخلقية بين النخبة المثقفة التي كانت تقود مسيرة التقدم في بلدنا الناهض. ورسوخ روح المواطنة الحقة بين كافة فئات الشعب. والحفاظ على سيادة القانون ونشر العدل بين المواطنين. ووضوح معالم المستقبل أمام الجميع. وإنتشار روح ألأمل بين الجيل الجديد. كل تلك القيم والمفاهيم الأساسية كانت توفرها المدارس يومذاك ؛ وبخاصة المدارس الإعدادية والمعاهد والكليات. فكان الطالب أشبه بالعجينة الطرية ساعة يحتضنه ذلك الجو التربوي \ التعليمي العام الذي تسوده ألأخلاق الحميدة والقيم العليا التي تنتقل الى الطالب من خلال المدرس. والطالب بدوره يسعى نحو تمثل تلك القيم ومحاولة التأثر بالمدرسين لإتخاذهم قدوة ومثالا يحتذى. وبذلك تتواصل المسيرة نحو بناء مستقبل زاهر وسعيد.

* أكاديمي مغترب من العراق
majidkayssi@yahoo.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف