ثقافات

عزيز الحاج: طقس الذكريات..

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

بين ضربات الرياح، وتأرجح الأشجار، ولمعان البرق وقصف الرعد - تذكر نحن في حزيران باريس-، أطلت علي من الشباك في غلالة بيضاء مسمرة. صفقت بجناحيها، وقالت بمرح: "ها أنذا عدت في زيارة خاطفة لأسأل عنك."
إنها الحمامة، التي أنقذتها ذات صباح من موت بطئ، وسلمتها لتك العجوز الطيبة التي تنظم الأشعار. دهشتُ، وصحت بفرحة عارمة:" ولكن كيف وصلت في هذا الطقس الذي تحول تنينا التهم الربيع، وها هو يلتهم الصيف كذلك!"....
" إنه الحنين والعرفان بالجميل يا صاح. عرفت أن الطقس خرب مزاجك، ووتر أعصابك، فجئت لأسري عنك."
شكرتها، وأنا أردد مع نفسي أن الاعتراف بالجميل عملة نادرة هذه الأيام، وأما نكرانه، فهو سيد الأسياد. ................
مساء عودتي من تلك العجوز- كان ذلك قبل سنوات وسنوات- ظللت ساهرا مع صديقي الراحل ريمي تحت شمعة الكلمة: هو.. لاعبا بالقلم، وأنا.. متطلعا لتمثال بوديا، وشاربا من وقت لوقت من إبريق شعر.. وكنت أردد تلقائيا:" أيا جارتا لو تعرفين". .... ثم ذرفت دموعا على أبوي وجدتي .. تذكرت طفولتي وصباي.. ومجالس العائلة في رمضان.. وفتاة أحببتها حبا عاصفا، وافترقنا.. وتصفحت في الذاكرة روايات قرأتها، وقصائد غنيتها، منها قبّرة شيلي و:
" يا هر فارقتنا ولم تعدِ"، و
" ودعته وبودي لو يودعني...... صفو الحياة وأني لا أودعه."
في صباي وبداية الشباب كنت ألتهم الروايات والقصص المترجمة بإتقان للعربية. ولا أزال أحن لرواية " تس"، و"جريمة سلفيستر بونارد"، و"الحرب والسلم" و"السيمونية الريفية"، وغيرها، وغيرها من مترجمات زمان كان فيها المترجم العربي- بالعكس من غالبية مترجمي هذا الزمن الرديء- دقيقا وأمينا.. وعلى البال "عصفور الحكيم من الشرق"، و"أيام" طه، و"زقاق المدق"، و"الثلاثية"، وٌقنديل أم هاشم"، وأخريات لامعات مثلها. لكن، يا زائرتي الغالية: لماذا صرت أتذكر الموجعات من الذكريات أكثر من مفرحاتها؟:
رحلات العائلة بلا عودة.. واحدة وواحدا.. أصدقاء العمر.. ظلمات السجن وشهداءه من أعز الرفاق.. هري الوفي ريمي والسنوات الإحدى عشرة معه. واليوم، ومع كآبة الطقس اللعين الكريه، أظل دائم الحزن وأنا أرى مناظر أطفال سوريين سلبهم من عائلاتهم وحش دموي مفترس .. حمم الموت دون انقطاع.. جنون السياسات ودهاليزها: ما بين غبية قاصرة، وطائشة مغامرة، و بين ماكرة خبيثة لا تأبه لعذابات الشعوب...... وثمة، فوق هذا، علو وسيادة منطق الطائفة، و" ربيع" تجار الدين، المهووسين بالجنس ليل نهار ويدعون الفضيلة والعفة.. .. كل، كل ما يجري في هذه البقعة التي ضربها إعصار التخلف والعنف - أعني منطقتنا . وثمة ذكرياتي لأيام دجلة في الصبا وما بعده.. النوارس.. شموع النساء الساذجات الطيبات.. لقالق المنارة .. الزوارق وأحلام الليل تحت سماء القمر. لكن ما يزاحمني اليوم- يا جارة- هو كابوس مستقبل دجلة والفرات حين ينضبان تماما بعد أقل من ثلاثة عقود، فيما نجد أن من يحكمون اليوم يتخاصمون على الثروة والمناصب، غير مكترثين، لا لحاضر العراقيين، ولا لمستقبل البلاد حين سوف يتنازعون على حفنة من الماء. ولقد زرت مصر مرارا حين كان هناك طه حسين وسلامة موسى ونجيب محفوظ وزملاؤهم الكبار.. وبالجوار سهير زكي وتحية كاريوكا.. وعظماء السينما والمسرح، كنجيب الريحاني ورفاقه.. وعلي محمود طه وغيره من الشعراء.. ورموز الموسيقى كمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وليلى مراد ونجاة الصغيرة، والكواكب الأخرى. واليوم لا أرى غير أبطال الشعوذة والعنف والحلال والحرام من أعداء الفن والثقافة، المهووسين بالسلطة وبأخذ المواطن والمجتمع رهينة . ألا تقولين لي- يا جارة- كيف إذن لا تطاردني هموم اليوم وذكريات أمس الموجعات؟!
التفت لأسمع الجواب، ولكن الشباك كان مغلقا، وكانت أصابعي لا تزال على صفحة من قصص موباسان............


باريس في 23 حزيران 2013

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف