عمر مهيبل وسؤال التواصل في الفلسفة: رؤية بنيوية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
د. بخضرة مونيس
وأخيرا بدأ الفكر الفلسفي يتخذ مواقع متعددة له في الأوساط الاجتماعية الجزائرية، عبر أنشطة مختلفة داخل المؤسسات المعنية به وخارجها، وتوجسات عشاقه من الأفراد والجمعيات، ويرسم لنفسه خريطة جغرافية واضحة المعالم ضمن المناطق الإقليمية، من أجل أن يصير وعيا اجتماعيا بمحددات إقليمية خاصة، به تكشف الروح الجزائرية عن طبيعتها الخاصة وعن رغباتها للعيان، وهذا طبعا لم يكن ممكنا إلا بفضل جهود حاملي الهم الفلسفي ولضرورة وجوده هنا وتوظيفه في بناء الحس الحضاري لمجتمعنا، الذين يحاولون جاهدين أن يؤسسوا لفعل التفلسف ومقارباته لشتى مواضيع الحياة والمعيش الجزائري، على غرار ما تفعل نخب قسم الفلسفة بجامعة وهران وجامعة بوزريعة (الجزائر العاصمة) وقسم الفلسفة بجامعة قسنطينة، دون أن ننسى هواة التفكير الفلسفي الذين لا تربطهم روابط رسمية بالمؤسسات الحاضنة للفكر الفلسفي. نخب في ظروف استثنائية تحاول أن تشدّ على أهم تيارات الفلسفة الكونية بما فيها روافد التراث العربي والإسلامي ولبعض النصوص المحلية البارزة في الثقافة الجزائرية، يحدث هذا بعدما ظلت الفلسفة ولعقود طويلة منسية ومنعزلة ومشتتة بانعزال وتشتت أهلها، ومن أبرز هؤلاء الذين نسلط عليهم قراءات ذاتية لأهم أفكرهم و تأملاتهم الفلسفية في بحثنا هذا هو المفكر عمر مهيبل*.
ظهرت اهتمامات الكاتب عمر مهيبل بالفلسفة في سن مبكر وهو طالب دراسات عليا، أثمرت كثير من المقالات المصحوبة بتأملات ذاتوية أراد بها فهم قضايا الفلسفة الراهنة آنذاك والتي كانت البنيوية إحدى أبرز معالمها، جعلته يستقر على الفلسفة الغربية المعاصرة عموما والفرنسية منها على الخصوص ويتموقع فيها، بما أنها عرفت في هذه الفترة تطورا لافتا مع ميشال فوكو وفلاسفة البنيوية مرورا بألتوسير وجاك دريدا، والعمل على فهم امتدادها إلى مناطق أخرى مغايرة على غرار الفلسفة الألمانية وتفكيك نقاط تقاطعهما وتداخلهما وحضور إحداهما في الأخرى. هذا الاهتمام دفعه في الكثير من النصوص إلى تحليل أسباب هذا التوليف وطبيعته في الفلسفة، خاصة في نصه إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة الذي بحث فيه الدائرة التي فكر فيها يورغان هابرماس وماترن هيدغر وغاستون باشلار وفوكو، وطبيعة التواصل ومصيره داخل هذه الدائرة من خلال استجواب نصوص أقطاب هذه الدائرة التي ضمت في نظره جدلية التواصل والقطيعة، وهذا هو عين الاستشكال الفلسفي الدافع للبحث.
اهتمامه بمثل هذه الإشكالات، أثمر عدة أعمال فلسفية وترجمات لنصوص الدائرة السابق ذكرها، كان لها أثر قوي على انتعاش الفكر الفلسفي ونهضته في الجزائر، ونظر لكثافة المواضيع التي فتحها عمر مهيبل على نفسه وتزاحمها، سنبحث في أهم ما أبدع فيها والتي لها علاقة مباشرة بالجدل الفلسفي الدائر بين فلاسفة التواصل وفلاسفة القطيعة.
عمر مهيبل وسؤال التواصل والقطيعة في الفلسفة الغربية المعاصرة
عالج الكاتب إشكالية التواصل واللاتواصل في أكثر من نص، سواء الإبداعية منها أو المترجمة. ففي ميدان الترجمة، نجده قد عالج موضوع التواصل في الكتاب الذي ترجمه عن جان مارك فيري بعنوان" فلسفة التواصل"1، وترجمة نص جان غراندان الموسوم ب: المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا2، وترجمة كتاب كارل أتو آبل المعنون ب: التفكير مع هابرماز ضد هابرماز3، وترجمة كتاب هابرماز المعنون ب: إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة4. وأما في ميدان الأعمال الإبداعية فقد عالجه في كتابه الموسوم ب: إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة5. في هذه الأعمال يشرح الكاتب أسباب بحثه في الفلسفة البنيوية التي كانت في أوج إغراءاتها كما يقول6، وعلى الفلسفة الغربية المعاصرة وفق الأسباب التالية:
معظمها تعود إلى غرابة اللفظ والمفهوم المعتمد في الدراسات البنيوية، ومناهضتها للفلسفات الإنسانية التي كانت سائدة آنذاك وأهمها الفلسفة الوجودية، وقدرتها على المزاوجة بين علوم وعارف مختلفة، تبدو أحيانا متناقضة، والتي استطاعت إلى حد كبير أن تشكّل بها نسيجا معرفيا خاصا يسمى بالبنيوية، بالإضافة إلى نظرتها الغريبة إلى الإنسان والعقل كملكة تميزه، والتداخل الكبير الحاصل بين البعد الفلسفي النظري والبعد المنهجي الصارم.
بهذه الأسباب مجتمعة، تشكلت هواجس الكاتب البنيوية وانتهاجه لها كخيار فلسفي أمثل، خاصة وأنها ظهرت من أجل إعادة هيكلة المفاهيم والمناهج المتداولة هيكلة جديدة ونوعية، وهذا بعد الصدمة التي أحدثتها بتوظيفها الأنموذج اللساني الذي بلوره علم اللسانيات السويسري دي سوسير في كتابه الشهير" دروس في الألسنية العامة"، حينما أكد أن اللغة هي عبارة عن عناصر مترابطة بشكل معجمي تزامنيا، لا بوصفها كيانات مكتفية بذاتها، وأن العلاقات التي تحكم اللغة هي علاقات تبادلية تقوم على بعدين للتركيب اللغوي التزامني.
البعد الأول هو البعد الأفقي الذي يظهر في تتابع الملفوظ، والبعد الثاني هو البعد العمودي الترابطي، المتمثل في أنظمة العناصر المتقابلة. وبهذا، كان أول منحى اعتمده المفكر عمر مهيبل في دراسته لأهم إشكاليات الفكر الغربي المعاصر في ثوبها الفلسفي، والذي كان بمثابة ثورة كبرى في المعرفة اللغوية المعاصرة بما أن اللغة كدليل على حضور الذات وتواصلها وكبعد إنساني متميز.
اللغة تحمل عالما خاصا للإنسان. أما البعد العام الذي يتعلق بالأبعاد النظرية للفلسفة البنيوية وخاصة ما يتعلق بإشكالية التواصل واللاتواصل، والمتصل والمنفصل وإسقاطها على الفكر الغربي المعاصر. هذا البعد في الحقيقة ظهر كمنهج بنيوي في صبر حقائق المواضيع أو ما يعرف بأنياب المنهج التزامني والتعاقبي، فكانت البنيوية أهم ما توصل إليه العقل الغربي في تاريخه، خاصة حينما ظهرت غير مكتفية بالإرث الغربي بل رافضة له تماما، ومحطمة بذلك مفاهيم قد تكتلت في صلب الفكر عبر الزمن، لتوظف كمادة ثرية للتفلسف بمواضيعها المتنورة كالإنسان والتاريخ والذات والعقل وغيرها من المواضيع الأساسية، الأمر الذي جعلها تقوم بفعل تشتيت الإنسان وتوزيعه على الحقول المعرفية المختلفة، خاصة مع ميشال فوكو في الكلمات والأشياء، إلى درجة أنه فقد دلالاته الجوهرية وأصبح شيئا ثانويا، في هذا الشأن يقول عمر مهيبلgt;لكن هدفي لم يكن الإنسلاخ ضمن هذا المفهوم، بل إظهار التجاذب المعرفي الذي كانت البنيوية طرفا فاعلا فيه، ومن ثم بلورة تصور جديد لطرح جديد يبحث في هذا بعد أن يصبح تواصلاlt;7.
إن دراسة إشكالية التواصل في الفكر الغربي المعاصر، كانت دراسة مقصودة منه، لتطبيق حمولة البنيوية على هذه الإشكالية بصورة منهجية ومعنوية كبيرة للمفكر عمر مهيبل في مشروعه الفلسفي كله. فدراسته لإشكالية التواصل فرضت عليه الإنتقال إلى نقيض المفهوم لوضع تلك الإشكالية في الديالكتيكية، لكي يظهر مخزونها المطمور، هذا الأمر هو الذي جعل الكاتب يضع التواصل في مقابل اللاتواصل.
يشتق مهيبل مفهوم التواصل من أصوله اللغوية المحددة في المصطلح Continuiteacute; الذي الذي يعنى الإستمرارية، والذي يضمن مفهوما آخر يتلامس معه و هو مفهوم الإتصال Communication. أما اللاتواصل Discontinuiteacute; والذي يشير إلى الإنقطاع والإنفصال معا.
إذن، التواصلية انخرطت ضمن لعبة المفاهيم الفلسفية، وهي بذلك طرحت ضمن إحجى بدائل الأنساق الفلسفية الكبرى في الحقبة المعاصرة ( كا: الأرسطية و الكانطية و الهيجلية مثلا)، التي أعطت الأهمية للبناء التقني على حساب المصطلح والمفهوم.
أما الفلسفة المعاصرة فقد أعطت الأهمية للمصطلح كعنصر محوري فيها كما يرى مهيبل، الذي اعتبره في صلب البناء الفلسفي ذاته وفق قراءاته لتلك المشاريع، مثل الوضعية المنطقية و البنيوية والتأويلية. و هو العمل نفسه الذي توجه به هبرماس في فلسفته كلها.
يرى مهيبل أن البنيوية شعرت بأهمية جدلية التواصل واللاتواصل، خاصة بعد الحدث الفلسفي الذي أحدثته فلسفة باشلار مع بداية القرن العشرين، بتأكيدها على لاتواصلية المعارف وانقطاعها عن بعضها البعض، حتى جاءت البنيوية لتثري هذه الجدلية من جديد بلغة وفهم جديدين.
لقد جاء هابرماس بمفهوم جديد للتواصل يتولد عبر ثنائية متجادلة، الأنا الفري في مقابل الجماعي السياسي. فالاهتمام بالتواصل الفلسفي، الذي يظهر في التواصل الأفقي والتواصل الشاقولي الذي يقابلهما لا تواصل أفقي ولا تواصل شاقولي.
التواصل الأفقي كما يرى مهيبل يعني دراسة فكرة التواصل ضمن الفلسفة الواحدة، كالتواصل المضمر في علاقة الكائن بالزمان، وعلاقة الزمان بالتاريخ. وبمعنى أدق، هو البحث في البنية الداخلية الخاصة بكل فلسفة على حدا. أما التواصل الشاقولي فهو يبحث في علاقة فلسفية معينة بالفلسفات الأخرى وبموقعها في تاريخ الفلسفة ككل.
أنطولوجيا التواصل عند هيدغر
إن أولى البدايات الفلسفية في هذا المجال، بدأت من الإشكال التالي: هل يمكن للمعرفة الساذجة أو الذاتية أو ما قبل العلمية أن تتطور وتتحول حتى تصبح معرفة علمية وموضوعية وفق ما يقتضيه تطور العلوم والمعارف؟.
يعتبره أنه غير ممكن على بتة، وأن المعرفة العلمية الحقة الموضوعية تبدأ أساسا، عندما يستطيع الفكر العلمي قطع صلته بالمعرفة الساذجة قطعا جذريا، والذي يعني أنه تأكيد على عدم وجود أي تواصل معرفي أو منهجي بين المعارف العلمية الموضوعية والمعارف قبل العلمية، وأن لكل منها بنيته المناقضة مع بنية الآخر، والذي كان بمثابة إنقلاب ابستيمولوجي الذي دشنه باشلار في قطع كل الصلات مع ما هو قديم.
فمن نموذج اللاتواصل، ينقلب الكاتب إلى نموذج التواصل مع هيدغر، الذي سماه بأنطولوجيا التواصل لدى هيدغر، التي تعامل معها الكاتب بربطها بمفهوم التواصل تعاملا تأويليا، نظرا لنجاعة فن التأويل في إحداث سياقات إحداثا متطابقا، خاصة مع ما تعلق بتحديد العلاقة بين الكينونة و الزمان، في تأويله على وجود تواصل في إطار الزمان بين الكينونة والكائن.
فوجود الكائن الإنساني بأنه وجود زماني، كائن في تواصل مع الأخر ومشاركته كينونته وتواصله مع العالم، الذي يوجد فيه بأشيائه المختلفة وهو ما سماه بالتواصل الخارجي، بالإضافة إلى تواصله الداخلي الذي يربط ذاته بإرادتها وبهمها وقلقها وبموتها. والأهم من هذا عند هيدغر، هو التواصل مع الأصل الفلسفي( الفلسفة الإغريفية) التي اتخذت من الوجود نظريتها الأصلية.
في هذا الشأن يقول المفكر عمر مهيبلgt;أن تبادر إلى وضع بعض العلامات الأولية التي قد تفيدنا في كسب أدواته الجديدة في صالح الطرح الذي نود الدفاع عنه، وهو أن التواصل والدعوة إلى إشكالية محورية في تاريخ الفلسفة، دعوة ترى في الفلسفة قبل كل شيء معاناة داخلية يعبر فيها الإنسان عن حقيقته التي قد لا تظهر دائما للعيان لاعتبارات كثيرةlt;8.
إن الإشكالية التي قام مهيبل بتحليلها في هذا الموضوع، هي إشكالية معقدة بتعقد دروبها اللغوية والمنهجية والفلسفية، حيث أنه عالج مفهوم التواصل في مستوياته المنهجية واللغوية والمعرفية. فالمستوى المنهجي ظهر من خلال تعامله مع فلسفات متنوعة التي تستلزم توظيف المنهج النقدي، بغية خلق التكيف مع مختلف الأوضاع المعرفية والمنهجية وأحيانا المنهج البنيوي والمنهج التاريخي، من أجل التدرج من التواصل إلى اللاتواصل حسب الموضوع. أما المستوى اللغوي الذي وظف في تحديد مصطلح التواصل واللاتواصل، سواء تعلق الأمر بالمرادفات اللغوية العربية أو الأجنبية، خاصة وكما يرى مهيبل، أن الدراسات اللغوية المعاصرة، وهي في غالبيتها دراسات بنيوية لم تستثمر مهاراتها الاصطلاحية إلا في بلورة مفهوم مناقض لمفهوم التواصل وهو اللاتواصل بتعريفاته الاشتقاقية كالمنفصل والمنقطع.
أما على المستوى المعرفي، قد تجلى بسبب تنوع مواضيع هذه الإشكالية، مما جعل الكاتب مهيبل يلجأ أحيانا إلى التحليل الإبستيمولوجي موظفا أدواته ومفاهيمه الخاصة، وأحيانا يعود إلى توظيف مخزون الفلسفة التقليدية بما تحمله من أفكار ومفاهيم، وهذا الاختلاف كان محتما على الكاتب إنتهاجه لكي يتمكن من الإحاطة بحدود الموضوع. فمثلا تحديد مفهوم اللاتواصل عند باشلار فرض على الكاتب مهيبل منظومة لغوية ومنهجية تختلف عن المنظومة اللغوية والمنهجية والمفاهيمية التي وظفها في تحليله لمفهوم التواصل الكينوني عند هيدغر، دون أن يخل بالبناء العام للموضوع، والكاتب لم يختار نماذجه اعتباطا، وإنما لكي يقدم لكي يقدم للقارئ مادة معينة ومحددة يعود إليها وقت الحاجة.
في هذه الإشكالية يبدأ مهيبل بتجربة باشلار، بوصفها نموذجا لفلسفة اللاتواصل في جميع مستوياتها، مبررا ذلك بتأكيده على القطيعة الإبستيمولوجية عند باشلار، لأن هذه القطيعة كانت بمثابة الحد الفاصل بين نمطين معرفين مغايرين لا تواصل ولا تداخل بينهما محاولا قدر الإمكان أن لا ينزلق خارج المفاهيم الباشلارية، ومستقرءا نتائجها. وهذا حينما أكد في الكثير من محطات نصه، على أن باشلار يمثل انتصارا للمعرفة العلمية النقدية وللعقلانية التطبيقية، ويمكننا تلخيص أهم النتائج المعرفية والمنهجية التي وصل إليها من تحليله لإشكالية اللاتواصل عند باشلار في النقاط التالية:
- باشلار في فضائه المعرفي، أكد على اللاتواصل والقطيعة بين المعارف.
- يمثل مفهوم القطيعة بين المعارف والعلوم مفهوما مركزيا في فلسفة باشلار.
- يمثل النقد والهدم أهم النقاط الإيجابية في تفكير باشلار ما بعد القطيعة.
- على الرغم من قوله بالقطيعة واللاتواصل، فإن الخاصية الأولى لموقف باشلار الفلسفي هو انفتاح العقلانية الخاصة على المفاهيم والمناهج العلمية المعاصرة، بحيث أصبحت هذه المفاهيم مشاعا بين التفكير العلمي والتفكير الفلسفي في آن واحد، وهو في نظر المفكر عمر مهيبل مكسب كبير لبشلار.
- قول باشلار بوظيفة التصورات ورفض الأخذ بفطريتها أو بأية تداعيات عقلانية بينها وعلى العموم نقول أن مشروع باشلار الفلسفي قدم برنامجا إيجابيا للتفكير الإبستمولوجي انطلاقا من مفهوم اللاتواصل المعرفي.
العودة إلى هيدغر وفوكو
ثم ينتقل إلى الفلسفة الأنطولوجية ليحللها بنوع من التأويل، ضمن أجزاء إشكالية التواصل ابتداءا من سند فلسفي واضح، التي قام مهيبل باستنتاجها من فلسفة هيدغر ذاتها، بغية إيجاد تواصل وترابط بينها وتحديد أسس هذا التواصل فلسفيا. فحقيقة الكائن لا تفهم إلا في بعدها العلائقي مع الكينونة بمعنى التواصل بين البعد الخاص والبعد العام في هذه العلاقة، والكائن طبعا ليس مجرد ذاتية محضة مغتربة ومنعزلة، وإنما هو خروج عن الذات ومجاوزة لها قصد تحقيق الاكتمال في الوجود، ويمكن تلخيص أهم النقاط التي توصل إليها عمر مهيبل من تحليله لهذا النموذج كالتالي:
- إن إخضاع أنطولوجيا هيدغر لمفهوم التواصل كما عبر عنه مهيبل وبطريقة تأويلية، هو حينما ظهر بأوجه تواصلية متعددة موحدة الهدف، فهو تواصل غير مباشر منهجيا ومباشر معرفيا وفلسفيا.
- التواصل عند هيدغر، يعني المشاركة في إنتاج التنوع، وذلك بمجاوزة الوجود التاريخي للوصول إلى حقيقة الكائن(الدازاين).
- التواصل عند هيدغر يعني إعادة ترتيب العلاقة بين الكائن والزمان.
ثم انتقل إلى فلسفة فوكو، لكي يبين فيها فكرة التواصل والانقطاع، انسجاما مع توجهه البنيوي العام الذي يجعل من اللاتواصل في جميع أشكاله، نقطة انطلاق في تأسيس أي نظام معرفي. لأن أركيولوجيا فوكو ترى أن العلوم والمعارف تنظم داخل خطاب متميز تتحكم في إنتاجه وتبليغه قواعد خاصة، تشكل نسقا لا محل فيه لاجتهاد خاص أو لحظة ذاتية. معارف وعلوم منغلقة بطريقة محكمة على بنياتها، تشكل بنية منعزلة لا تواصل بينها، ويمكن أن نجمل أهم النتائج التي توصل إليها مهيبل في النقاط التالية:
- المعرفة منظمة داخل بنى قائمة بذاتها لا تربطها روابط ولا تواصيل فيما بينها.
- تطابقا مع التوجه البنيوي، يطرح فوكو تصورا عاما حول الإنسان والعالم ويبقى ذاته هو خارج هذا التصور بحيث يصبح الناطق الرسمي بسم الأنساق البنيوية المغلقة.
- تمكن فوكو بعد توظيفه لمنهجه الأركيولوجي إكتشاف مكونات البنية اللاشعورية للغرب، وإعادة دراستها دراسة لا تواصلية كا: الجنون والمرض والعقاب...
- باستخدامه للمنهج الأركيولوجي، تمكن من بلورة مفهوم جديد للعقل والإنسان لا يستمد مصداقيته من الإنسان كما هو وإنما من العالم المحيط به.
- يرى فوكو أن ليست هناك أية علاقة بين العلوم الإنسانية والإنسان، لأن هذا الأخير غير موجود أصلا.
ومن كل هذا وذاك، حاول عمر مهيبل جاهدا أن يبين أهمية نظرية التواصل المعاصر من خلال التصور النقدي لمدرسة فرانكفورت، الذي رأى فيها أنها بمثابة خيط رفيع الذي يربط أطراف الحداثة بما بعدها، رغم ما في هذا الخيط من تداخلات وصعوبات، سواء كانت منهجية أو مفاهيمية، وبلورة خطاب فلسفي جديد للحاثة لبحث الجدل القائم بين تيار العقلاني المتجذر في الثقافة الغربية، وتيار يرفض مكتسبات العقل التواصلي، جدل نلخصه في الأفكار التالية:
- ضرورة إقامة فواصل مفهومية بين مفهوم الفعل التواصلي عند هابرماس وبين مفهوم الاتصال، لأن التواصل فلسفيا يختزن بشكل من الأشكال مفهوم الاتصال.
- تبني نظرية الفعل التواصلي على أساس من رفض مفهوم العقل الأداتي والتقني أو التقاني.
- انفتاح فكرة التواصل الفلسفية على المجتمع بفئاته المختلفة، وهذا لأنها عبارة عن علاقة حوارية بين فئات المجتمع المختلفة، للوصول إلى وعي نقدي لأوضاع المجتمع.
وهذه النماذج الفلسفية التي تطرق لها المفكر مهيبل في نصوصه المختلفة التي اعتبرها أنها غير نسقية، على أنها نصوص منفتحة وخصبة، سواء كانت تواصلية أو لا تواصلية.
الهوامش:
*هو مفكر وكاتب جزائري بارز، ولد بمدينة جيجل شرق الجزائر سنة 1957.نال شهادة الماجستير من جامعة دمشق حول البنيوية في الفلسفة الغربية المعاصرة، ثم نال الدكتوراه من جامعة الجزائر حول إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة، وله عدة مؤلفات وترجمات لأهم النصوص الفلسفية المعاصرة و من أهمها نجد: البنيوية في الفلسفة الغربية المعاصرة، وإشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة و كتاب من النسق إلى الذات. ر
1- جان مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة عمر مهيبل، الصادر عن دار العربية للعلوم والمركز الثقافي العربي ببيروت سنة 2006.
2- جان غراندان، المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، ترجمة وتقديم عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم2007 بيروت.
3- كارل أتو آبل، التفكير مع هابرماز ضد هابرماز، ترجمة عمر مهيبل، الدار العربية العلومو المركز الثقافي العربي بيروت2005.
4- يورغن هابرماز، إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة عمر مهيبل الدار العربية للعلوم ناشرون 2010 بيروت.
5- عمر مهيبل، إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة، الدار العربية للعلوم بيروت.
6- المصدر نفسه ص7.
7- المصدر نفسه ً12.
8- المصدر نفسه ص16.
جزائر