ثقافات

قراءة في زنزانة

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

إلى ذكرى إبراهيم أصلان

كنت انتظرت صديقي الأمازيغيّ سالم زينيا على أول شارع الرمبلا، كي نذهب معاً إلى الويسترن يونيون القريب، لنحوّل الفلوس على اسمه، بعد أن رفضوا تحويلها على اسمي، شأني كل شهر، بحجة وجود قانون إسبانيّ، يمنع التحويل للمرة الرابعة، إذا كنتَ أرسلتَ مبلغاً معيّناً في ثلاثة شهور متتالية.
ولمّا كنت قلقاً، فقد جلست على الكراسي هناك، أسرّح بصري في "المعرض الدولي الدائم للجمال"، عسى أن يخفّ القلق. ذلك أن أمّ العيال، بعدما قطعوا الراتب في رام الله منذ أحقاب، لا تنفكّ تتّصل أول كل شهر، فتشكو وتستعجل وتلحّ.
لقد مضى رمضان بمصاريفه الإضافية، ثم العيد بأحماله المعهودة، ثم فتحة المدارس وما يلزمها. ثلاثة خوازيق حطّت على كاهلِها وعيالِها الستة، مثل جبل مونسرّات، فأجبرتها على أن تدسّ ربعَ اتصالٍ بين كل اتصالين.
المهم: نسيت كربي مؤقتاً، وأنا أتمعّن أفقياً ورأسياً في ما أرى، وشعرت - بغتةً - بغبطة الحياة التي تستحقّ أن تُعاش، في كل الوقفات والجلسات وما بينهما، وبالأخصّ في جلسة محترمة كجلستي هذه.
جاء سالم وأخرجني من خواطري السارّة، ثم ذهبنا وقضّينا غرضنا، فأحسست بمنتهى الغبطة.
قال: سنمرّ على المكتب، لأمر ما. (يقصد مكتب "نادي القلم" الذي يستضيفنا)
وأنا كنت لحظتها مغتبطاً، كما أسلفت، فقلت: وماله، نمرّ.
هكذا، بعد خطوات قليلة، دخلنا "الأتينيو" (المبنى العريق بمكتبته المذهلة، والذي لطالما تردّد عليه لوركا وبيكاسّو ودالي، في الثلث الأول من القرن المنصرم. ولعلّ اسمه، كما لاحظتم، مستقى من "أثينا" ربة الحكمة عند قدامى الإغريق) .. دخلناه وصعدنا بالمصعد الطبقات الخمس، فاستقبلتنا آنا ورافييلا والموظفة الناعمة الجديدة، كالعادة.
وعلى ذكر العادة، فإنّ من عاداتهم الحضارية هنا، أنك لا بد أن تقبّل المرأة عندما تلتقيها قبلتين على خديها كنايةً عن الاحترام. وأنا كنت عودتهنّ منذ قدومي، زيادة في الخير والإسهام الحضاري، على ثلاث قُبل، زاعماً أن هذه هي عادة بلدي هناك. حتى تعوّدت الرفيقات، مستبشرات وفرحانات في كل لقاء جديد، بعادة بلدي التي تبجّل المرأة أكثر مما تفعل عادتُهم هم. فما إن أقطف القبلة الثانية حتى يصخبن ويمطُطنها: "إتريييس". أي ثلاثة لمن لا يرطن بالكتلانيّ.
طيب. أنهينا الواجب البديع إذن، وجلسنا على الكراسي مثل كل المتحضّرين، بجوار أشياء غريبة لا يشبه لونُها أيّما لون، لأنها مغطاة برداء قطنيّ ناعم تخالطه أسلاكٌ، وشرعنا نتكلّم.
بعد قليل، عرّى سالم المخبوء، فإذا هو حوائط حديدية بقضبان.
وأنا لم أهتم.
قال: ساعدني نخرجهم ونضعهم على الحائط عند المصعد.
وساعدته.
ثم بعد فترة تأمّل، قال يجب أن نخرج بهم لتحت. ولارتفاعهم، حيث لا يسعهم المصعد، عتلناهم على الأكتاف، كل واحد يحمل حائطيْن، وينزل بحذر وحرص كيلا يجرح الجدران. فيما حملتْ رافييلا ساليرنو مديرتي الإيطالية، ما سأفهم بعدها، أنه السقف المربع الصغير للزنزانة، ونزلنا هكذا على الدرج.
وما إن وصلتُ مدخل البناية يا دوب، حتى ركنتُ حِمْلي فوراً على جانب.
ثم جاءت رافييلا ورطنت مع سالم، فأفهمني أننا سنأخذ الأحمال إلى ساحة الكاتدرال القريبة.
وماله نأخذهم. (كنت ما أزال تحت تأثير بقايا الغبطة)
وعتلت أنا الحمْل وتقدّمتهم، على نَفَس واحد، كصاحب خبرة في هذا الموضوع، مخترقاً بين الحين والآخر زحمة السياح، وكاظماً على مضض، حتى اقتربنا. وأظنهما اضّطرّا بدورهما لمسايرتي، وعلى الأغلب كانا يرغبان في الاستراحة وتقطيع الطريق.
أخيراً وصلنا الساحة.
الألم في عظامي نار، والآن ألهث وأتنفّس مبسوطاً أن "التوصيلة" برمّتها انتهت على خير.
لحقتنا رافييلا وتكلّمت فاتضح أننا أسأنا التقدير. وجاء رجل كتلاني، من أقصى الساحة يسعى، أشقر ولا أعرف اسمه، فبلّشنا نحضّر أربعتُنا الموادّ، كي نجمع الحوائط ونكمل باقي الشغل.
محاولة، اثنتان، وعرفنا بالضبط كيف نركّبها مبدئياً.
وبرضو لم أنتبه. ربما لكوني وفياً ما أزال لبقايا اغتباطي، رغم انشغالي بالتعب الجديد.
ثم بدأنا في التنفيذ، فجمعنا الحوائط ببعضها وضبطناها بالسقف وهي كلها ما تزال مطروحة على الأرض كجثة، والآن جاء دورُ إيقافها.
أوقفناها بمشقة.
فإذا هي زنزانة حقيقية صالبة على رجْليها مثل كل الزنزانات الحقيقيات في العالم.
بعد ذلك، قمنا مرة أخرى، وانكببنا على بضعة كتب، فخزقناها وعلّقناها مفتوحة بخيوط نايلون، في الفضاء الداخلي الصغير. ثم أعلى الزنزانة، تحت السقف مباشرة، علّقنا مجسمَ كرتونٍ لطائر النسر الجارح، وهو يخترق قضبان الحوائط بجناحيه الكبيريْن، ويطلّ برأسه منتصراً من بين قضبان السقف.
كان الوقت عزّ الظهر، والشمس كافرة. وكانت رافييلا تصعد وتنزل على السيبة مثل أجدع رجل، تتناول المزيد من الكتب، بعد أن تكون غرزت دبوسيْن طويليْن من النحاس في جنبَي كل واحد، فتثنيهما، وتمرّر الخيط الأبيض الرفيع عبر فتحة تنتصف الدبوس ثم تعقده، لترفع الكتب أخيراً مدلاةً في الحوائط والسقف. تفعل هذا بينما أساعدها أنا وسالم والكتلاني، في تثبيت السيبة الراسخة، محاولين ثلاثتنا إراحتها وهي ترفض.
أتممنا الشغل، وتأهبنا للرجوع إلى بيوتنا، فيما شرع زوار الساحة الكثيفون، من سواح ومواطنين، يلتقطون الصور السريعة للمنظر الفريد، والمكان يغصّ من حولنا وحولهم بالزهور وجذوع النخل الصناعية، فضلاً عن المكتبات الخشب الطافحة بالكتب، تحضيراً لعرض الافتتاح الكبير، بعد يومين، بإذنه تعالى.
سالم قال: من ضمن فعاليات المعرض (يقصد أسبوع الكتاب الكتلاني في برشلونة) أن نقرأ أنا وأنت، واحداً وراء الثاني ..
هنا؟ وأشرت للساحة الأنيقة الواسعة إشارة متحمّسة.
بل داخل هذه الزنزانة تحديداً، مُطلّين على الناس من بين القضبان.
أنا؟
أجل، وأنا.
يا رجل.
أي نعم.
وبدأت أستوعب على خفيف.
وحين فرغنا من مهمّتنا نهائياً، وتأملت المنظر ملياً، انبسطت لأنه زنزانة بحق وحقيق، وليس مجرد مجسّم أسود خُلّب. فأولاً: الحوائط كانت ثقيلة جداً على عظامنا لمّا حملناها.
ثانياً: لكل حائط من الحوائط الثلاثة خمسة قضبان طولية سميكة. والحائط الرابع (وهو الباب الذي سيُقفل بالضبّة والمفتاح علينا حين نقرأ) كان بخمسة قضبان أيضاً. أي تماماً مثل تلك الزنازين اللطيفة - سبحانه يخلق من اللُطف أربعين- في سجن "كفاريونا" الرومانسي.
لكن، جميع ما سبق كان حصاداً فجّاً لانطباعات الوهلةِ الأولى فحسب،
فما إن تدحرجتُ (وحدي دون بقية الرفاق .. يشهد الله) إلى الوهلة الثانية وما بعدها، وتخيّلت منظري وأنا أقرأ في المساحة الخانقة (شعراً سوداوياً "عمّا وراء الوجود"- هكذا اختارت الوديعة رافييلا، لأنه لا يوجد لي قصائد أخرى مترجمة)، أقرأ بينما آلاف الرواد يتفرّجون - بشورتاتهم القصيرة على أجساد حسيّة لامعة - وكذا يصوّرون (وبينهم بالطبع وسائل إعلام) .. ما إن تخيلت كل هذا المعمعان حتى شعرت بما هو كفيل بسرقة النوم من عينيّ ليس ليومين قادمين، وإنما لشهرٍ بأكمله.
شيء ولا مؤاخذة أكبر من الخجل، شيء هو بالتمام والكمال تلك التي يقولون عنها:
"فضيحة بجلاجل".
يا مصيبتي يا سالم. تاني..!
وكنت قبل شهور، حللت بجزيرة بالما دي مايوركا، وقرأت مع زملاء كثر، في السجن المركزي هناك، أمام المئات من المساجين الجنائيين، يسترخون على كراسي قاعة المسرح الكبيرة، ويتجاوبون معنا على نحو لافت. وبالخصوص معي حيث كنت أول القارئين، وكان مدير المهرجان الشاعر والروائي الجميل بييل مسكيدا أشار بسبّابته نحوي كاشفاً عن بلدي وكأنه كولومبس، ما جعل المغاربة والجزائرين (وهم غالبية الحضور المحترم في القاعة) يزيدونها حبّة في التعاطف معي، وأنا أزيدها حبة ونص في رفع علامة النصر لهم.
وقتها انبسطت جداً واعتبرت تلك القراءة أطرف قراءاتي على الإطلاق، فهي أول و"آخر" مرة في حياتي أقرأ داخل سجن. مع إني يعني بدّلت غيرَ واحد، ولكني لم أجرؤ في أيٍّ منها على القراءة سوى للظلال والأشباح.
حتى جاءت هذه القراءة، بمناسبة اليوم الوطني لكتالونيا، فكانت الأطرف.
يا عَالِم ماذا يخبىء لنا المستقبل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف