العمارة العربية المعاصرة بصفتها منجزاً معمارياً عالمياً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كيف يتسنى للابداع المعماري العربي، ان يكون جزءً من منتج العمارة العالمية و"سربها" المتنوع؟ يمكن ذلك، في حالة اذا كانت ثمة محاولات جادة لنقل واقع ذلك المنتج الابداعي الى "الآخرين" المختلفين في الثقافة وفي اللغة. واحد تلك المحاولات الرصينة، هي نشر ذلك الابداع بلغات آخرى، وخصوصأً باللغة الانكليزية، حيت يمكن مصادفة قراء عديدين، مختلفي الاثنيات، ومتنوعي المكان الجغرافي يرغبون لمعرفة ما تم إحرازه عندنا في الشأن المعماري والعمراني. والكتاب الذي اعده د. محمد شجاع الاسد (ولد في 1961) بعنوان "العمارة والعمران المعاصر في الشرق الاوسط" (منشورات جامعة فلوريدا بالولايات المتحدة، 286 صفحة من القطع الكبير والصادر في سنة 2012 وباللغة الانكليزية)، يمكن ان يكون نموذجا جيدا لذلك المسعى النبيل في توظيف اللغة ذات الانتشار الواسع، من اجل بلوغ هدف تعريف "العالم": الاخر المختلف، بالانجازات التصميمية التى تحققت في منطقة الشرق الاوسط. والمؤلف وهو معمار اردني، واستاذ اكاديمي ومؤرخ للعمارة، سبق وان انهى تعليمه المعماري في جامعة الينوي المعروفة، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد، ثم انخرط في دراسة مابعد الدكتوراه في جامعة برنستون وهارفارد ايضا. وعند رجوعه لبلده، عُينّ في الجامة الاردنية تدريسياً في قسم العمارة، بعدها شارك في التدريس بجامعات امريكية مرموقة مثل الينوي، جامعته السابقة ومعهد "ام. اي. تي." (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) وفي برينستون ايضا. استقال من عمله الاكاديمي في الجامعة الاردنية، ليتفرغ لادارة "مركز دراسات البيئة المبنية"، الذي اسسه في سنة 1999، بعمان. وهو مركز بحثي يهتم في دراسة البيئة المبنية ويقدم حلولا لمشاكلها العمرانية والمعمارية. كما انه ناشط في مجال الكتابة والتأليف المعماريين، إن كان في الميديا الصادرة في اللغة العربية أم في الانكليزية، وقد نشر محمد الاسد كتابا بعنوان "المنازل القديمة في الاردن عمان 1920-1950" (1995) وآخر بعنوان "ريادة البيئة العمرانية" (2007)؛ وبالتالي، فانه، كما اعتقد، المؤلف المؤهل جدا، لتقديم عمارة وعمران المنطقة الى العالم.
اختار المؤلف زمانا ومكانا محددين لعرض عمارة مبانية في كتابه المنشور. فمن ناحية الزمن، توقف عند عقد واحد، يمتد من 1999 الى 2009. اما مكانيا، فقد اقتصرت نماذجه المنشورة في الكتاب على منطقة بلاد الشام والخليح، وتحديدا فان نماذجه المعمارية غطت البلدان التالية: البحرين، والاردن، والكويت ولبنان وعمان وفلسطين، وقطر، والسعودية وسوريا والامارات وكذلك اليمن. واذ شعر المؤلف بان "جغرافيته" المنتقاة، قاصرة على تبيان عمارة المنطقة التى اسمها " الشرق الاوسط"، فانه سارع في مقدمة كتابه في ابداء مسوغات لذلك الاختيار المكاني والتحديد الزماني، واعدا قارئ كتابه بانه سوف يشرح مبررات ذلك الاختيار، وما ترتب عنه من استثناءات في متن نصوص كتابه. والحال، ان إخراج عمارة مصر والعراق وغيرهما من بلدان ما يسمى بالشرق الاوسط (والذي ظلت حدوده غير محددة، وغير ثابته، ومتغيرة، منذ ان استبدل مصطلح منطقتنا المعروفة بـ "الشرق الادنى" الى منطقة " الشرق الاوسط" الفسيح والمعوم)، وإهمالهما سيؤدى، من دون ريب، الى التقليل من أهمية الرسالة التى يود المؤلف بعثها الى قراءه في الجانب "الثقافي" الآخر، خصوصا وهو يبدي طموحا مهنياً عاليا لان يغطي كتابه، "عمارة وعمران الشرق الاوسط"، كما جاء في عنوانه.
ولكون المساحة الجغرافية المحددة واسعة جدا، ولكون المنتج المعماري فيها متنوع وهام، سواء المصمم من قبل المعماريين المحليين او المعماريين الاخرين، المدعويين لتقديم تصاميمهم في منطقتنا، فان المؤلف، وسعيا منه الى التركيز على امثلة مقننة وملموسة، تقدم بمقترح يبتغي توزيع عمارته المعروضه في كتابه، الى عناوين محددة، يرتهن حضورها في الكتاب، بنوعية الوظيفة التى تؤديها تلك المباني. فجاءت محتويات متنه النصي تغطي اربعة عشر فصلا، كل فصل يتعاطي مع "ثيمة" محددة. وهو، زيادة في توضيح اختياراته "الثيموية"، فانه نزع الى ان يرادف عنوان فصله، عنوانا اخرا بكلمات مختصرة ومكثفة، تظهر بموضوعية معنى النص ومضمونه، وهي، في الواقع، "لوغو" الفصل ومادته الرئيسية. نقرأ في الفصل الاول: المشاريع الاسكانية ذات المقياس المتواضع: مختبرات عمارة الاقليم؛ والثاني، المشاريع الاسكانية المتعددة الطوابق: إعادة تعريف للمباني السكنية. والثالث، المشاريع الدينية: العقد الهادئ، والرابع، المشاريع الثقافية: تعانق حماسي، والخامس، الابنية العامة: أعادة التفكير بالمدينة؛ الخ.. الخ..حتى نصل الى الفصول الاخيرة، فنقرأ عند الفصل الثاني عشر، وهو الخاص بالمجمعات ذات الاستعمال المختلط، والتى يجد المؤلف "لوغو" لها وهي: الايقونات البنائية. اما الفصل الثالث عشر فكرسه المؤلف الى المخطط الاساسي للاحياء الحضرية، والرمز المختار له: بروز المشاركة الذاتية- العامة، والفصل الاخير خاص بـ المدن الجديدة: طموحات لمقياس لافت!
من خلال مائة مشروع هي عدد مشاريع الكتاب، يتوق محمد الاسد ان يعرض تصاميم زملائه المعمارين المحلين والاجانب بكثير من الاهتمام والعناية، عبر صور فوتوغرافية تصاحبها مخططات مرسومة تبين القيمة التصميمية للمبنى المنشور مع عرض نصي مصاحب، يسعى المعمار به إظهار القيمة التصميمة له، واحيانا يبتغي ذكر المرجعيات الفكرية لاصول تلك التصاميم. لا يضع المؤلف نصب عينيه مهمة تقديم عرض نقدي شامل للامثلة المعروضة في كتابه. لم يكن هدف الكتاب هذا. الهدف، كما هو واضح، كان عرض وتجميع نماذج العمارة العربية المعاصرة المصممة في عقد زمني محدد، وتقديمها الى قارئ، يتوق ان يعرف عن ثقافة منطقتنا، ولاسيما المنتج المعماري فيها. وتصاميم، مثل هذه، هي التى تجعل من واقع بيتنا المبنية، واقعا مليئا بالامل والطموحات في رؤية مدننا وعمارتنا، وهي تعبر عن آمال وتطلعات سكان هذا الاقليم، الذين عانوا كثيرا من الحرمان والتجهيل وسوء الخدمات، من خلال نشاط إبداعي، قد يبدو مخصص بالاساس الى النخبة، لكنه يطمح ان يكون جزءً من الانشغالات المهنية والثقافية لعموم سكان تلك المدن.
نرى في إصدار هذا الكتاب المفيد والممتع، وبالصيغة التى اعتمدها المؤلف المجد، مطبوعاً يصب في اتجاه تعريف العالم والاوساط المعمارية الدولية، على انجاز ثرّ ومتنوع، إن كان لجهة نوعية المقاربات الابداعية، ام لناحية خصوصية اللغة التصميمية المنتقاة. والكتاب يكمل، وربما يضيف بحصافة، الى ذلك الحراك المعرفي، الذي بات نشيطاً ومؤثراً في الاونة الاخيرة، والمتمظهر في نشر كتب ومؤلفات تتعاطى مع العمارة العربية المعاصرة، وإعتبارها جزءً مهماً واساسياً في خارطة الابداع المعماري العالمي. ان كتب، مثل تلك التى قام بتأليفها "اودو كولترمان" (1927-2013) في كتابه " العمارة المعاصرة في الدول العربية: نهضة الاقليم" (1999)، وكتاب فيليب جوديديو (1954) "العمارة في الامارات" (2007)، وغير ذلك من الكتب الصادرة حديثاً، يعكس مدى الاهتمام الواسع من قبل الاوساط المهنية الدولية، لما "يصنع" عندنا من عمارة وعمران. لكن كتاب د. محمد الاسد "العمارة والعمران المعاصر في الشرق الاوسط"، يختلف عن ذلك، بكون المؤلف هنا من الجهة "الآخرى": الجهة المعنية في اعطاء انطباعات موضوعية وشاملة وصادقة، عن ذلك الحراك الابداعي، من دون أوهام او تمركزات معرفية ، شابت بعض المؤلفات التى تناولت المنجز المعماري العربي. انه في هذا السياق، يشارك مع مؤلفين عرب، كتبوا بالغة الانكليزية عن انجازهم التصميمي، مثل رفعة الجادرجي (1926) الذي اصدر كتابه القيم " مفاهيم وتأثيرات" (1986)، المطبوع في لندن، والذي كتب مقدمته المعمار العالمي "روبرت فنتوري"، او كتاب حسن فتحي (1900-1989) "عمارة الفقراء" (1973) وغير ذلك من المطبوعات. بقى علينا ان نأمل بان مؤسس "مركز دراسات البيئة المبنية" سيقدم على اصدار مؤلفه الجميل، ونشره باللغة العربية، زيادة في إضافة معارف جديدة وإمتاع قراءه العرب، ولا سيما المعماريين منهم. ونتطلع بان ذلك النشر، سيكون قريباً.
د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي