درعٌ من الجمال في وجه الطغيان: بين أحمد مختار ومظفر النواب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مظفر النوّاب شاعر عراقي، اتسمت أشعاره بأسلوب ناري إيقاعي في علاج قضايا الأمة الإنسانية والسياسية. وأحمد مختار عازف عود عراقي ومؤلف موسيقي، اشتهر بقدرته على مزج العزف التقني والروحي المقامي لتجسيد الشعر ومحاكاته. التقى الفنانان في سوريا في عام ١٩٩٠، ليشكلا ثنائيا فريدا بين الإلقاء والعزف. يلقي الشاعر النوّاب أشعاره من خلال ارتجالات مختار الموسيقية على العود. في أول لقاء جمعهما، وكان لقاء محلي مع مجموعة من الأصدقاء، ألقى فيه الشاعر قصيدة بعنوان "طائر"، وارتجل مختار مقسما على عوده، كان التناغم بينهما مبهرا للسامعين، حيث أن النواب كان يتلاعب بالأسلوب الإنشادي، للحد الذي جعل أشعاره تبدو وكأنها تراقص النغمات الصادرة من عود مختار. استمر العزف والإلقاء، حيث ألقى النوّاب قصيدة أخرى بعنوان "الحانة القديمة"، واستمرت الأنغام بالتصاعد من عود مختار تقديرا واحتضانا للقوافي في شعر النوّاب. ومن هذه السهرة انولد مشروع الاندماج بين الفنانين، والذي ابتدأ بشكل عفوي، ليقرع فيما بعد أجراس الحرية والكرامة في مدى الحضارة المفتوح.
اتفق الفنانان بعد ذلك على الظهور بشكل ثنائي أمام الجمهور، وكانت أول أمسية جمعتهما فوق مسرح الحمراء في شارع الصالحية بدمشق. النجاح الذي لاقته هذه الأمسية دفع الفنانين للطواف فوق العديد من المسارح العربية والعالمية، حاملين جراح الأمة، وأوجاع المظلومين. فابتدأت مسيرتهما، وتوالت جلسات العمل، والتي من خلالها استطاع الفنانان أن يبلورا رؤيتهما، وأن ينتحتا علاقة استثنائية بين الشعر والموسيقى، تنفلت من كل سائدٍ رخيص، لتعلن فرادتها في التعامل مع أصالة اللحن الموسيقي، ونقاء المفردة العربية وعمق علاقتها بالإيقاع الشعري. الفنانان غادرا العراق معبرين عن رفضهما لكل أشكال القمع والظلم، وفي جعبتهما الكثير من الألم والأفكار المدججة بالأمل. وتحت سماء دمشق التقت تجربة مختار الموسيقي المثقف الذي يتحرك برشاقة المحارب بين المقامات الموسيقية الشرقية، مع النواب الشاعر الذي زرع صرخة للحرية في ضمير الإنسان العربي، والتي من شأنها، إن خرجت بشكل جماعي أن تزلزل العروش.&
المزج بين الشعر والموسيقى يتطلب وعيا وفهما عميقين، فهما كالتربة والمطر، إذا التقيا باتزان يولدان خصوبة الأرض، وإلا كان طوفانا يغرق الأرض بمحاصيلها. هنا تبرز أهمية الحس الموسيقي لدى الشاعر، والتذوق الشعري لدى الموسيقي. مختار قارئ نهم للشعر العربي، تربّى في عائلة تحتوي على أربع شعراء، بالإضافة للصداقة المتينة التي تجمعه مع العديد من الشعراء. إذن، فهو يعي تماماً، أين يبتدئ الشعر وأين ينتهي، ويعرف تمام المعرفة بأن إسقاط الجملة الموسيقية فوق الجملة الشعرية ليست عملية عشوائية، وإنما مُحكّمة بالعديد من العوامل الفنية والإيقاعية، والثقافية، والنفسية. بالإضافة إلى ذلك فهو يمتلك موهبة متميزة في توظيف الأبعاد المقامية الموسيقية لتخدم الصور الشعرية. وعلى نفس الصعيد، فإن الشاعر النوّاب، يمتلك حسا موسيقيا مرهفا، و يتذوق الموسيقى بشغف واهتمام، وهو يمتلك صوتا بإمكانيات جذابة، فكان يترنم بصوته بالأهازيج الشعبية العراقية، والموشحات والطقاطيق الأصيلة بأسلوب يقترب بصوفيته من سلاطين الطرب. تقاطع الاهتمامات والهموم الوطنية الإنسانية بين الفنانين، بالإضافة للوعي الوجودي والزخم الثقافي، أتاح لهما ابتكار مزيج مبهر من الشعر والموسيقى يصلح مطرا خصبا في وجه أكثر الأراضي بورا.&
هذا الوعي المشترك، أتاح للفنانين تجاوز الصعوبة الكامنة في كون الموسيقى تمتلك الكثير من التجريد بينما يتميز الشعر بالمباشرة. فاستخدما تقنيات مختلفة لخلق حالة نابضة في المسرح تتماهى فيها الحدود بين الشعر والموسيقى. و من تلك التقنيات التي استخدماها على سبيل المثال لا الحصر، تقنية "الصورية"، وهي تقنية تجسيد الصور الشعرية بشكل مقامي؛ وهي تعتمد على أجواء القصيدة بشكل عام، وعلى مفردات القصيدة بشكل خاص - القصيدة تحدد نوع المقام الموسيقي، والمفردات تحدد التفرعات المقامية. وأيضاً قدما تقنية "الإيقاع والإلقاء"، حيث يعتمد فيها مختار على إلقاء مظفر ليخلق البعد الإيقاعي فوق آلة العود. يقول مختار: بأن القصيدة لدى مظفر لا تكتمل إلا حين إلقائها أمام الجمهور، فهو يضيف إليها الكثير، فإلقاءه بأهمية القصيدة نفسها. فعملية الإلقاء عند مظفر تتصل بمعاني ومفردات القصيدة، لترسم الشكل الأكثر نضجا ووضوحا للقصيدة، فهو يسرد تارة، ويخاطب تارة أخرى، يقرأ بمهل كانتصاب قوس القزح، أو بسرعة كهدير الشلال. الموسيقى تنعكس على أسلوب الإلقاء، فالسرعة والحماسة في الإلقاء يقابلها ما يعرف بالكوردات فوق آلة العود -الكوردات هي جمع كورد، عبارة عن ثلاثة نوتات موسيقية أو أكثر تتداخل هرمونيا وتُعزف في نفس الوقت - يعزفها مختار ببراعة، لتخلق إيقاعا من خلاله تعبر مفردات مظفر. وفي الإلقاء البطيء، يرى مختار أفقا رحبا للزخرفة والتقسيم، يتقاطع مع صورية القصيدة ولا يُقاطع صوت مظفر. ومن التقنيات التي تُطالعنا أيضاً، "الغناء، والأغنية"، و "الديناميكية". في الأولى يخرج مظفر عن إنشاده الشعري، ويتغنى بالمفردات بشكل لحني يوافق تجليات أحمد مختار في تلك اللحظة، أو يلون مختار من وحي أغنية شعبية على إلقاء مظفر، وهذا من شأنه أن يضع المستمع في فضاء مزدوج من الطرب والشعر. والثانية تُعنى بعلو الصوت وانخفاضه٫خالقة أجواء من التشويق وترقّب القادم. ببراعة شديدة يؤدي الفنانان هذا الأسلوب الديناميكي فتسمع تناوبا مذهلا في الصوت بين العزف والالقاء،يرتفع الشعر وتنخفض الموسيقى،أو العكس،وفي لحظات معينة تسمع صمتا يُشبه ما بعد المعركة،وفي لحظات أخرى حين يصل الحماس والتشويق إلى الأوج، يرتفع الصوتان معا ليحكّا معا كبرياء السحاب.&
لتقريب عدسة هذا المقال لعرض صورة مُتَّزنة الأبعاد للأساليب والتقنيات الواردة، وضعنا هنا بعض الأمثلة لتسجيلات أخذت من أمسية في سويسرا قدمها الفنانان في عام ال ٢٠١١. في هذا الرابط (http://youtu.be/-zT6Nw2ghII) نسمع قصيدة "يجي يوم" وجزء من قصيدة "يا بحر". هنا نسمع اختيار مختار لمقام النهوند وتفرعاته ليعبر عن حزن الغربة، هذا المقام الذي يتحيز كثيرا للحزن، ويتحول مختار في لحظات معينة لمقام اللامي، لإنه يشعر بفائض حزن عارم يحتاج لخصوصية في التعبير، فيلون قليلا على هذا المقام العراقي الشعبي الحزين، ومن أعماق هذا المقام يُعرج على لحن أغنية "مالي صحت" بشكل موجز، وهي أغنية عراقية شعبية حزينة. ثم نسمع التناوب في الأصوات بين الإلقاء والعزف، فنرى صوت مظفر يتقدم المشهد حيناً، وحينا نسمع زخرفات العود والتي تتناسب مع الإلقاء البطيء. ثم نسمع مظفر يُغني بشكل خاطف وببراعة شديدة يعزف مختار جوابا لصوت مظفر. ثم في مقطع قصيدة "خذني يا بحر"، يصرخ مظفر حزنا، ويُقسم مختار نهاوندا، ولا نسمع هنا طريقة عزف الكوردات التي تتجاوب مع الحماسة، فبالرغم من صرخات مظفر المدوية، الا أن الشعور مفعم بالبكاء والحزن العلقمي، وبمقارنة الصرخة هنا مع الصرخة في هذا الرابط (http://youtu.be/XJvQgV--jGs) من قصيدة "يوميات عروس الانتفاضة"، نرى استخدام مختار لتقنية الكوردات لتتويج صرخة مظفر التي تحمل طاقة ثورية، لتعبئة الحس الشعبي وصفعه بسؤال الكرامة.&
ينوع مختار في المقامات الموسيقية، التي قد تعبر عن نفس الشعور العام. وهذا التنويع يعطي خصوصية للشعور نفسه، فالحزن الذي يعيش في قلب النهوند يختلف عن الحزن الذي يتغذى على مقام الصبا. ففي هذا الرابط مثلا (http://youtu.be/F_JIF7E2FUM) نسمع مقام الصبا، الذي جاء لوصف مشهد الأم في قصيدة "البراءة"، ليتمم القوة التأثيرية في صوت مظفر الباكي الغائر، لوصف مشهد الأم تخاطب ابنها خلف القضبان. ونرى مختار ينوع في ديناميكية العزف (كالانتقال السريع بين النغمات، وإطالة الصمت أو تقصيره)، ليرفع من وضوح الهوية. أما في الرابط التالي (http://youtu.be/K44EQ-NPn6g) فنسمع مختار يُقسم على الرست، والنوّاب يتغزل بطالبات مدرسة السلام في دمشق. من خلال الغزل، أراد النوّاب أن يعبر إلى مقدمة المشهد ليقول كم اشتقت لك يا عراق، حيث يختم قصيدته بالقول بأنه أكل الكثير من بقلاوة الشام، ولكن لم يجد ما يشبه بقلاوة بغداد. هذا الربط بين الشام -دمشق- وبغداد حفّز النغم الشرقي العربي في مخيلة مُختار، وماذا غير مقام الرست يُتوج النغمات بالأصالة العربية؛ هذا المقام المعروف بوقاره، وانتماءه المُعلن للشرق عن طريق ارتكازه على ربع نغمة "المي" وربع نغمة "السي" في سلَّمه الموسيقي، حيث لا وجود لأرباع النغمات في الموسيقى الغربية. من هذه الأمثلة نرى كيف أن حركة الشعر والموسيقى، بين مُختار والنّواب، تتجاوز كل السطحيات وتجوب في الأعماق معتلية صهوة جواد الجراح.&
التقنيات والأساليب في ثنائية مختار ومظفر لها نبض حي، تتصل مع دواخل الشاعر والموسيقي، لتشعر بأن الكلمات والنغمات تتحرك بحرية داخل مساحات سرمدية، دون المساس بشاعرية الشعر، وموسيقية الموسيقى. فالنهوند قد يطير فرحا إذا ما اصطدم بانتقال مفاجىء من اللهجة العربية الفصحى للهجة العراقية. كان النواب يُكمل بعض المسارات الشعرية بالدمج والانتقال المفاجىء بين اللهجتين، وكان هذا ينعكس على تعابير المقام الذي يقدمه مختار، فنشهد نمو أجنحة الفرح على خصر النهود، ليحلق عاليا فوق المشهد الشعبي. وهذا الارتباط الحيوي بالمقام والكلمة، يفتح البوابات على مصراعيها عن بستان مهول يعجُ بالكنوز الشعرية والموسيقية، والتي تنتظر ناقدا عنيدا، أو باحثا عتيدا لاستخراجها.&
&أما خلف الكواليس ،وأثناء جلسات العمل ،يقول مختار ،كنا نعتمد على التدريب ولكن نترك مساحة كافية للعفوية. وهذا الأسلوب يقدم أرضية مرنة لكليهما للارتجال الحر والذوبان في روحانية الشعر والموسيقى. فأثناء جلسات العمل ،يقول مختار،يتم الاتفاق على القالب الموسيقي العام للقصيدة ولبعض التفرعات، ولكن تُترك بعض الجزئيات ويمكن تقديرها بنسبة ٢٥٪ لِلحظات الإلقاء والعزف أمام الجمهور. هذه الجزئيات تظهر من خلال عفوية الإلقاء، وديناميكيته. وعند سؤال مختار عن العفوية، وطريقة التعامل معها، وما إذا كانت تُحدث إرباكا، يقول: العلاقة اليومية مع مظفر، والتي تجاوزت بعُمقها كل الحميميات الممكنة، بالإضافة للّقاءات الكثيرة، وبحضور مظفر أيضا، مع مجموعة من المثقفين في دمشق، من بينهم جمعة الحلفي، وراشد عيسى، كانت كفيلة بإرساء قواعد مُحكمة من التفاهم والتواصل، فانزرع في داخل كل واحد فينا بوصلة نحو مشاعر الآخر، وأصبحت النغمات والكلمات سفنا تحمل أفكارنا إلى الوجهة المحددة، لا مناص، فتتحول العفوية في هذا السياق إلى هواء بحري عليل، لا يفعل شيئا سوى مداعبة أشرعة السفن.
حضور مظفر وأحمد معا فوق المسرح، يستحضر عالما ذا خصائص مُشرقة، يسبغه التراكب المذهل بين الجمل الشعرية والموسيقية. الوحدة بينهما صلدة كالصوان، تسودها الحرية والعدالة، فكل جملة شعرية كانت أو موسيقية تحتل موقعها الصحيح، وبالوقت المناسب، دون مزاودات، أو عنجهية أو جعجعة نشازية. كل شيء يتحرك باتزان مُتقن يشبه في طبيعته حركة الشمس والقمر فوق أكتاف هذا الكوكب. يشعر السامع بمساواة حقيقية بين الشاعر والموسيقي، فكل منهما يحترم دوره ويحترم الآخر، فلا يعلو صوت الشاعر على الموسيقي، ولا تطغى الموسيقى على صوت الشاعر، ليشعر المرء بأنه في عالم فاضل، تتقسم فيه الحقوق والواجبات قسمة ضيزى، تتجاوز بحضارتها ولباقتها وديمقراطيتها كل العوالم المتاحة للإنسان الواقعي والحالم على حد سواء.&
استطاع الفنانان أن يخلقان درعا من الجمال في وجه الطغيان العارم الذي يتدفق بين دول شرق المتوسط، وأزقتها، وبيوتها.
&