الاختفاء العجيب لرجل مدهش: رواية الغرائب حين تلامس الواقع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&
عالم من الدهشة، يدخل إليه قارئ رواية " الاختفاء العجيب لرجل مدهش" وهي تحمله بين صفحاتها، على بساط من السرد المولع بخطف الأنفاس، والأحداث العجائبية.
وعبر صفحات تلك الرواية، تتواصل الحكايات مروية على ألسنة العديد من الشخصيات التي تتنافس كلها في استدعاء الوقائع الغريبة، والسعي باستماتة لايهام القارئ بأنها تقترب في معظم تفاصيلها من ملامسة الواقع.
فقد اختار أسامة علام المهاجر المقيم في شمال أمريكا حكاية كاشفة من مدينة مونتريـال الكندية، بعد أن توغل عميقا في عالمها الآخر الذي قد يمر مرور الكرام على الكثيرين ممن ارتبطوا بتلك المدينة الكوزموبوليتانية، سواء بالاستقرار فيها أو المرور العابر، فهي مدينة مدهشة بكل المقاييس، لكنها لا تمنح أسرار تلك الدهشة إلا لمن يغوص في أحشائها، هنا فقط يبدأ السر في الانكشاف، وتفتح مونتريـال أحضانها لمن سعى.
وهي أيضا، مدينة تعج بمتناقضها، مناخ شتائي بالغ القسوة، يفرض الجليد خلاله سطوته، لكن المدينة تتحداه بمهرجانات لا نهاية لصخبها، بشر يعيشون في مدينة تنقسم إلى مدينتين، واحدة يعيش فيها البشر فوق الأرض والأخري تحتها، حيث الأسواق الشاسعة ومحطات المترو، والعالم المفعم بالحكايات والأسرار.
ولكن على الرغم من الانطباع الذي يتسلل الى الذهن بمجرد نطق اسم مدينة مونتريـال على مسامعه، خصوصا ما يتعلق منه بالمناخ البالغ القسوة الذي يطارد تلك المدينة الشمال امريكية طيلة ما يقارب ثلاثة ارباع السنة، فان مونتريـال تحفل بمتناقضات أخرى تشبه في الكثير من الاحيان تقلب مناخها، حتى ان شهور الصيف على قصرها تظل مطاردة بأمطار غزيرة ورياح باردة، في وقت يكون الظن فيه ان مناخ الصيف فرض سطوته واتخذ مكانه.
هي إذن دائرة تتشابك، وتحفل بالتناقض، تماما كما تمتلئ شوارع المدينة التي تبدو في امتدادها دون نهاية، ومثلما تحفل ساحاتها بالعديد من القصص والحكايات التي يتداخل فيها الحقيقي بالمتخيل، والذي يقترب الواقع فيها مع الخيال
من اجواء تلك المدينة المدهشة تأتي رواية " الاختفاء الغريب لرجل مدهش" للروائي اسامة علام الذي يعيش منذ سنوات هناك، حافلة بحشد هائل من الحكايات المغرقة في الخيال، والتي يبدو فيها التأثر اللافت بالواقعية السحرية. وعلى وجه التحديد بايزابيل الليندي وروايتها الشهيرة بيت الارواح .
واقع هو في معظمه أقرب الى الخيال، وخيال يأبى إلا أن يكون على تماس مع الواقع، وهنا يبرع الروائي في استخدام مفردات تضفي علي اللغة مذاق السحر. فالرواية تجذب قارئها منذ الصفحات الأولى ، يتواصل معها، ويغوص في عوالمها، تأخذه الى تخوم بعيدة وتحلق به الى أفق مغاير لذلك الذي ظلت الرواية العربية تدور فيه، حيث الموضوعات متشابهة والمغامرة محدودة، وفي هذه الرواية الجديدة وعدد من المحاولات الاخرى لكتاب اخرين تتجلى على وجه التحديد بعض المساعي الراغبة في الانطلاق الى أفق أكثر رحابة، يتم من خلاله استكشاف عوالم مكتظة بالدهشة، لكنها ظلت لزمن طويل خافية عن القراء العرب .
الشخصية الرئيسية في رواية الاختفاء العجيب، هي أكثر ما يثير الدهشة، فرانسوا ليكو الذي يمتهن عملين متناقضين، في النهار يعمل على تزيين الموتي، وفي المساء مهرجا على مسرح في ساحة "بلاس دي زار" التي تستضيف طوال العام ومهما كانت درجة تقلب او اعتدال المناخ، مهرجانات عديدة من بينها المهرجان الذي يطلق عليه " الضحك بلا نهاية"، والذي كان فرانسوا ليكو بطل الرواية، هو أحد نجومه، الذين يأتي الاطفال وكبار العمر والفتيان لمشاهدتهم.
فرانسوا ليكو يصف مونتريـال بأنها شابة لعوب بشعبها المتطلع لمجد لم يعطه له تاريخ البشرية العجوز. وهو الى جانب التناقض في شخصيته، وغرابة المهنتي اللتين يمتهنهما، يمتلك أعظم تشكيلة أحذية رأتها إحدى شخصيات الرواية " نينا جانيون التي تعيش في بيت العجائز" ، وهذه الاحذية تمثل ولعها السحري منذ الطفولة. تلك الأحذية التي كانت سببا في عملية اختفائه، تقول عنها أنها ليست فقط اردية لاقدامنا المكدودة التي تتحمل مشقة حملنا دائما عبر حياتنا كلها ، بل هي عمر كامل من التاريخ الانساني بشقائه ورفاهيته.
فرانسوا ليكو التي تدور صفحات الرواية حول قصة الاختفاء تلك، فنان شوارع يمثل في المهرجانات عروضا قصيرة مضحكة للاطفال، لكنها ليست مهنته التي يقتات منها، بل هوايته التي تتيح له رؤية الاطفال ضاحكين ومندهشين، أما مهنته الاساسية فهي مزين موتى، التي يراها مهنة تتعب القلب قليلا لكنها نبيلة ولا تخلو من مزح سوداء، مشيرا إلى أن تزيين الموتى في مقاطعة كيبيك التي تعتبر مونتريـال أهم مدينة فيها، يحتاج الى الدراسة والكثير من الموهبة، فالمعلم الذي استقبله في اول يوم دراسي اعطاه اهم مفاتيح النجاح في مهنة عمره حين قال له أن : " أهالي الميت يدفعون لمزيني الموتى كي يريحوهم من الشعور بالذنب.&
في تلك الرواية، يتبادل العديد من الشخصيات، قص حكاياتها، ثلاث نساء مسنات متهمات باختطاف المهرج مزين الموتى، وفرانسوا ليكو نفسه، وعرافة ذات نزق أقرب الى الجنون، غير ان الرواية تحتشد بالعديد من الشخصيات الأخرى، التي رسم لها الروائي مساحات تتحرك فيها، بعضها قصير، وبعضها الآخر أقرب الى ومضة، وكل شخصية من تلك الشخصيات التي تحتشد بها الرواية تقص حكايتها، ومن بينها رجل من الجابون أصبح مواطنا كنديا، هو الذي يكون موكولا له فك لغز حادث الاختطاف في نهاية الرواية.&
تمضي الرواية بحكايات أبطالها في سلاسة، غير أن التشبث بقول كل شيء، ورواية المزيد من الحكايات الغريبة، تشي بأن ذلك أحدث إلى حد ما نوعا من ترهل في وسط الرواية وقرب نهايتها، ونثر في ثناياها بعض زوائد كان من الافضل ابعادها، بينما كانت هناك شخصيات في حاجة إلى إعطاء مساحة أكبر لها لتنمو.
غير ان المؤكد، بعد الانتهاء من قراءة تلك الرواية، أن هناك متعة خفية تتسلل، وتترك في الروح مذاقا مبهجا، يشير الى أنها رواية لافتة وجيدة وجديرة بالاهتمام.
&