ثقافات

باسم النبريص: يوميّات كتالانيّة

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

أكاسيا
كم تمنيتَ لو صادفت شجرة أكاسيا في "سُيوتّا دِيّا". لكانت الشهور الثلاثة القادمة ـ ونحن الآن في شباط ـ موسم إزهارها وتوهّجها العظيم.
ذلك الأصفر الكثيف الفتّان ـ لون نَوّارها ـ كان سيشعّ ويضفي سحراً إضافياً متفرّداً على الحديقة الكبرى.
إنه لون طفولتك وشبابك. اللون الأول. لون السحر ونفحة الفردوس.
آه يا أحراش خان يونس!
كانت أهنأ الأيام، وجاء المستوطنون، فمسحوا الشجر عن كثبان الرمل الذهبية، ليبنوا محلّه فيلات فاخرة، ودفيئات نايلون، ومصانع.
امّحى لون طفولتك الساطع، ببهجته المسكرة، مرةً وإلى الأبد.
ذلك الشجر النبيل، قليل التطلّبات، كم قرأت تحت فيئهِ، وكم كتبت!
الآن، صار ذكرى. وكلما رأيت شجراً حننت إليه، ورغبت في رؤيته من جديد.
سيوتّا جميلة وبهية، لكن ببضع شجرات أكاسيا، ستكون أجمل وأبهى. وسيُدهش روّادها، في شهرَي نيسان وأيار خاصة، بعناقيد زهرها التي تغطّي على ورقها.
ذلك المشهد الإبهاري .. أي كثافة وأي نصوع!

سلاح
تذهب للوجبات المجانية في ليل الشتاء ومعك سلاحك: كيس الفلفل. كل لقمة تزدردها تطحن معها قرناً. فأكلُهم مايع: لا توابل ولا ملح. وليس غير هذا السلاح ينفع في هذه المعركة!

ماء
باستثناء بعض الموسيقى الكلاسيك، التي ما تزال تسمعها من اليوتيوب، فإن باقي ما تسمعه من الغناء والموسيقى في هذه المدينة، هو غناء حيّ وموسيقى حيّة.
هنا فقط، ظفرتَ بهذه النعمة العظيمة. هنا فقط عرفتَ ما هي الموسيقى الحية والغناء الحي. وما هو الفارق بين المسجَّل والمباشِر.
فنانو الشوارع في برشلونة، أعطوك الكثير.
ومنهم وتحت تأثير إبداعاتهم، كتبت بعض شعرك، ولمست النشوات بالجسد.
هؤلاء هم قلب المدينة النابض، وملاذ عابريها الوجداني. من يهَبها بعض طعهما وسحرها. بكرم أرواحهم، يشيعون الماء السرّي في الناس. وهذا عمل لا يُقدّر بمال. لكنهم بشر ويحتاجون إلى المال.
مؤسفٌ أن الأزمة طالتهم.

سحر
حين تمطر في "البورن" ليلاً، تنقلب الشوارع إلى مرايا. وتكون محظوظاً عندما تجلس على درج الكنيسة المواجه للساحة، وتتأمل الشجر والحجر وفوانيس النور والعابرين بمظلاتهم.
آنها ترى لوحات مائية لا مشهداً واقعياً. وآنها تفكّر أنّ من بنى معمار هذا الحيّ، فنان لا مهندس. أو مهندس في إهاب فنان.
هيه أيها السحر العابر!

اكتشاف
من شرفتك المطلّة على شارع "كوميرس"، صرت ترى كل يوم بوابة "محطة باريس" للقطارات. المحطة قريبة، تفصلها عن بيتك عدة عمارات وساحة المتحف فقط. ومع هذا، لم ترها ولا سمعت مرة صوتَ قطار.
منذ فترة، قصّ عمال البلدية بزيّهم الأخضر، فروع وأغصان شجرالشارع، فرأيتَ تلك البوابة.
قبلها كانت محجوبة، وكان يُخيّلُ أنها بعيدة نسبياً.
فجأة، تكتشف قربك الجميل من المحطة، بعد مجاورة سنة ونصف.
يا له من فرح اكتشافٍ صغير!

صباح الخير
تستيقظ بعد ليلة ملأى بالنوم، وتفتح الشرفة.
شمس الصباح الساطعة تدخل.
تعدّ فطورك، وتقف قليلاً، ريثما يغلي الشاي.
تنظر يميناً باتجاه ساحة المتحف الجديد، وتنظر يساراً باتجاه قصر الشوكلاطة. الساحة المبلّطة تلمع بأشعة الشمس، ويبدو منظر المارّة، من هذه المسافة وهذا الارتفاع البسيط، كأنه مشهد في فيلم قديم.
نظرة ثالثة وتبتهج:
صباح الخير برشلونة!
صباح الخير على ناسِكِ الطيبين المتحضّرين.
يا صباح الأجساد الحرّة، والأفق الحرّ، والمجتمع الحرّ.
عاملة النظافة، تحيّيك، من وقفتها هناك على بوابة العمارة المقابلة. وأنت تحيّي عمال اليهودي آنخل جوبال، في محل التوابل.
سيارات قليلة تعبر. وتحتك، ثمة مواقف للدراجات الآلية، بطول الشارع. تأتي الفتيات بخوذاتهنّ، ولبسهنّ المتخفّف ـ رغم الشتاء ـ ويركِنّ. بينما أُخريات يدخنّ على أبواب المحلاّت.
سواح يمرّون بكاميراتهم وشقرتهم وعافيتهم.
صباح الخير!
يا صباح الورد على الناس الحلوين والحياة الطيبة.
لا شيء مما يُرى يعتبر استثنائياً بعيون أهل الحيّ، لكنّه كلّه استثنائيٌّ بعيونك أنت.
هل نسيت من أين قدمت؟
يا ألف صباح الخير عليكِ يا غزة!

محاولة في الثناء عليها
تُكتشف المدن بالأقدام. بغير هذا لا تؤمن. منذ جئتها وأنت تلفّ وتدور في مُتاحها الجغرافي والديموغرافي. قدماك وعيناك وحواسّك الأخرى هي مفاتيحك.
تأتي أيام، تمشي فيها عشر ساعات كاملة. لا تسجّل في دفتر، ولا تستخدم خريطة. بل تترك الأمر لذاكرة قدميك، وتثق بهذه الذاكرة.
في البداية، لا غرو، تهُتَ وحصلت معك طرائف، لكنها شهور قليلة، وصرت تعرف وتألف الأمكنة.
اليوم، مضى عليك سنة ونصف السنة. مدىً زمنيٌّ جعلك لا تحتاج لسؤال عابرٍ، ولا لاستفسارٍ من مُقيم.
تقضّي حوائجك بنفسك. وتعرف الخفايا والزوايا.
لقد امتلكت اليوم فقط، هذه الساحرة!
صار لك فيها معارف وأصدقاء. خاصة ناس الهامش. أولئك الذين تحبّهم أينما رمتك القدم. هم ملح الأرض ونكهتها. وأنت، لألف سبب وسبب، لا تستسيغ الحياة بدونهم.
عشرات الحكايا التي ربطتك بهم، كشَفَت عن معدنهم الذهب.
كم أنتِ رحيمة يا برشلونة. وكم وسيعة قلوب ساكِنَتِك!
سيقول آخرون، من أهلها بالخصوص: بل كم هي قاسية.
إنها وجهة نظر وعليك احترامها. لكن، في النهاية، كل واحد ويمتح من تجربته. وكل واحدٍ ويرى من زاويته.
قيل هذه السنة (2014)، إن إسبانيا، ثاني بلد في العالم، دخلها سياح، بعد أمريكا. تفوّقت على فرنسا، وتجاوز عددُ زائريها الستين مليون. وأغلب هؤلاء، لا بد يمرّ على برشلونة. فتخيّل!
مدينة صغيرة ( حوالي 110 كم مربع) تستوعب هذا الكمّ الهائل.
ولمَ؟ لسحرها الخاص: لبحرها، لاعتدال طقسها، لعراقة معمارها، لِلُطف أهلها وكدحِهِم، للبنية التحتية الجاهزة لاستقبال المزيد.
إنها، من هذا الجانب، المدينة الأولى في المملكة. وهي تستحقّ، بكلّ جدارة، هذه المرتبة.
ربما يُسأل: وماذا عن مدريد؟
لم تزرها بعد. بيد أنّك، من شهادات أصدقاء عديدين، لهم في البلد عقود من الزمن، عرفت أن برشلونة تتفوّق، في ألف وجه ووجه، عن تلك العاصمة.
مدريد مدينة ليست في عراقة برشلونة، لا في المعمار ولا في التاريخ.
مدينة بلا بحر.
مدينة صيفها خانق، تكاد لا تظفر فيه بنسمة هواء.
وغيرها وغيرها وغيرها.
لذا لا غرابة في تدفّق السياح على برشلونة.
لقد منحتها الطبيعة، ومنحها أهلُها، من المزايا، ما يجعل كلَّ عابرٍ عليها ومارٍّ بها يُفتتن. ويسعى جهده ليعود إليها مراتٍ أخرى.
وأنت، في هكذا أجواء وأنداء، وجدت ضالتك، بل قُل: مِثالَكْ.
لطالما حلمت هناك في معسكر الاعتقال الكبير، بمدينة كهذه وعيشٍ كهذا.
ومن لطائف القدر، ولأنك ابن حلال كما يقال، تحقّق الحلم.
إنه ثاني حلم يتحقق في حياتك، بعد حلم أن تكون كاتباً.
فهل يكفي أن تشكر الأقدار، وتُثني على برشلونة؟
سيكفي إذا أجدت الكتابة عنها.
إذا أجدت فقط!

بونا تاردي غوتيكو
كان من حسن الطالع، أن سكنتَ الحيّ القوطيّ. ما من يوم مرّ كرهتَ فيه هذا الحيّ أو استأت منه. ما حدث هو العكس تماماً: كل يوم تزداد محبة له وولعاً به. فهو قلب المدينة العتيقة، بآثاره الرومانية، وشوارعه الأشبه بالألغاز، وأرضيته المغسولة المبلّطة بالحجر. وقبل هذه وبعدها: بناسِهِ وسواحه الدافئين.
إذن، أنت مولع بالحيّ القوطيّ.
وأمس حلمت حلماً غريباً، راكم من ولعك بالحيّ:
التقيت ببورخيس، وهو يجرّ أيامه وراءه، في شارع متحف بيكاسو. كانت المتسولة الخيتانية [الغجرية]، تقف ملاصقة للبنك، ويدها بالكوب أمامها، فوقف بورخس حيالها لحظات، ثم تردّد ومشى، دون أن ينفحها شيئاً.
أنت جريت وراءه، وكان ليلٌ والشارعُ المزدحم عادةً خالٍ، وصرخت:
بورخيس! بور فابور! توقّف يا رجل.
فتوقّف واندهش، وكلمك بإسبانيته ذات اللهجة البوينس آيرسية، وعرفت منه أنه بصدد مشروع كتابة عن متاهات الحيّ القوطي!
نفحتَ: متاهاته أجمل من متاهاتك. فأين نجد في متاهاتك تلكم النسوة الجميلات، وتلك الروح الناصعة العاشقة للحياة.
استاء بورخس، لأنك جرحت نرجسيته وقال:
لا شك أن المدن أمثال هذه، وأشار بيديه الاثنتين مستسلماً، أخلد من البشر.
ومضى، لسبب لم تتبيّنه جيداً، غاضباً، فاختفى من عينك، في العطفة المباشرة على يمين المتحف، حيث تقبع هناك في الليل ثلاثُ حاويات زبالة سوداء.
مولعٌ بالحي القوطي. ليس لأنه الحي الأعتق والأعرق في المدينة حسب، إنما لأنه الحيّ العالميّ بامتياز.
الحي العاجّ بالحركة والديناميكية وفقراء الطبقة المتوسطة الدنيا، ومحلات الملابس التي تبيع الماركات وأحدث صيحات الموضة .. إلخ.
حيّ المتاحف والكنائس والأهلين والغرباء والسواح والمطاعم والمقاهي والبارات.
والحي الذي بعد مترين منه تضع قدمك في لازورد الماء.
تقصد البحرالجميل.
حيّ الدفء والرحمة.
وحي أجمل "صباح خير" يمكن أن تسمعها في شبه الجزيرة الأيبيرية والساحل الغربي للمتوسط!
بونا تاردي غوتيكو!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف