رثـاء صديقنا (غابْريِيل غارْثِيّا مارْكِيث)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لقد نهضت من سريري حين استمعت من المذياع خبر وفاة هذا الروائيّ العظيم صديق وطني فلسطين فكتبت ما يلي:
لم تكن سنة 2002 مدعاة لافتخار الروائيّ الكولُمْبيّ الشهير(غابْرِييل غارْثِيّا مارْكِيث Gabriel Garciacute;a Maacute;rquez) -على هذا النحو يجب أن يُكتب اسمه بلغتنا العربيّة-
حين نشر الجزء الأوّل من مذكّراته بعنوان: "أن تحيى لكي تروي الحياةVivir para contrarlo "
-هكذا علينا أن نترجم العنوان- (بدأ بكتابته بعد نشره لرواية"الزعيم في متاهته El general en su laberinto") فحسب, بل كذلك كانت مناسبة انقضاء 20 عاما على نيله "جائزة(نوبل) للآداب" و 35 حولاً على عرضه أهمّ رواية باللغة الإسبانيّة، بعد أن قضى اكثر من 15 سنة وهو يعيد صياغتها وحياكتها وتنقيحها بعد أن أنهى كتابتها في المكسيك خلال 18 شهرا بين عامي 1965 و 1966 وهو منكبّ عليها حوالي عشر ساعات يوميّا ، ألا وهي "مائة عام من العُزْلةCien antilde;os de soledad " -هذه هي الترجمة الصحيحة لعنوانها-
و 55 سنة على نشره أوّل قصّة كتبها، ومضيّ ثلاثة أرباع قرن على ولادته في "أراكاتاكاAracataca " بشمال كولومبيا عام صبيحة يوم الأحد الواقع في السادس من شهر آذار/مارس عام 1927.
بعد أن أتمّ دراسته الابتدائيّة والمتوسّطة في بلدته انتقل عام1940 إلى مدينة "سان خوسهSan Joseacute; " ليتابع دراسته الثانويّة ولكنّه أنهى هذه الدراسة في مدينة"ثيباكيرا Zipaquiraacute; " حيث حصل على الشهادة الثانويّة(=بكالوريا) في الثاني عشر من كانون الأوّل/ديسمبر عام 1946 . تسجّل في كلّيّة الحقوق بالجامعة الوطنيّة لمدينة"قرطاجنّـة" (ليست هي المدينة الواقعة في الساحل الجنوبيّ لإسبانيا بل هي مدينة بهذا الاسم في كولومبيا، على عادة الأمريكيّين الجنوبيين في تسمية كثير من المدن عندهم بأسماء مدن في شبه الجزيرة الإيبيريّة: إسبانيا والبرتغال، كما فعل العرب بتسمية مدن الأندلس بأسماء مدن بلاد الشام) في الخامس والعشرين من شباط/فبراير عام 1947، ولكنّه مال إلى الصحافة اعتبارا من 18 أو 19 من أيّار/مايو عام 1948.
بدأ عمله كصحفي في صحيفة "الهيرالدوEl Heraldo" (=النذير) بمدينة"بارّانكيّا Barranquilla" ابتداء من عام 1949، وفي هذه المدينة انضمّ إلى فريق من المثقّفين عرف باسم هذه المدينة، وفي الخامس من كانون الثاني/يناير عام 1950 شرع بنشر مقالاته في هذه الصحيفة كعمود يوميّ تحت عنوان" الخرافةLa jirafa "(= الزرافة، كلمة من أصل عربيّ مثل كثير من الكلمات والعبارات في اللغة الإسبانيّة). غير أنّه في الشهر التالي عاد إلى "قرطاجنّة" حيث أدار مجلّة "كومبريميدوCompremido"(=المضغوط).
بيد أنّه بعد سنتين، على وجه الدقّة، عاد إلى مدينة"بارّانكيّا" ليتابع من جديد كتابة عموده اليوميّ "الزرافة" في الصحيفة ذاتها، وقد علّق على ذلك قائلا: "صحفيّون آخرون كانوا يريدون كتابة كلمة العدد، لكن بالنسبة لي كان يهمّني تغطية الحرائق والجرائم". ولكن، في الحقيقة كان كاتب مقالات قيّمة وناقدا سينمائيّا جيّدا. وفي هذه الفترة كتب أوّل رواية: "تهافت الورقة La Hojarasca"، على وجه الدقّة بناء على ما يقول مؤلّفها نفسه: " لقد كتبت هذه الرواية خلال شهر شباط/فبراير عام 1951."- غير أنّ مؤلّف كتاب "مقالات غابرييل غارثيّا ماركيث" يزعم أنّه بدأ بكتابتها في حزيران/يونيو أو تمّوز/يوليو عام 1900 وأنّه استمرّ في كتابتها حتّى حزيران/يونيو عام 1951-، وقد رفضت نشر هذه الرواية الصغيرة إحدى دور النشر الأرجنتينيّة،ثمّ نشرتها دار نشر أخرى عام 1955.
في عام 1954 سافر(غابرييل غارثيّا ماركيث) إلى روما كمراسل لصحيفة"الإسبيكتادورEl Espectador "(=المتفرّج) لينقل إلى قرّاء أمريكا الجنوبيّة نعي البابا(بيو الثاني عشرPio XII ) ـ الذي كان ينازع عند وصول الكاتب إلى روما ـ وليغطّي تفاصيل وفاته بمقالات عديدة.
في عام 1957 عاد من أوربّا، بعد أن تجوّل في ألمانيا وفي تشكوسلوفاكيا وفي الإتّحاد السوفييتيّ ،مارّا بفينزويلا، إلى كولومبيا ليتزوّج بالآنسة(ميرثيديس) .
في 1961عام نال جائزة"ايسّو Esso"الأدبيّة عن روايته"الساعة السيّئة" التي نشرت في العام التالي، وإن كان هو لا يعترف إلاّ بطبعتها الصادرة عام 1966، إذ أنّه كان قد أعاد صياغتها من جديد.
في عام 1962 ظهرت له روايته الرائعة التي نقلت إلى الشاشة فيما بعد وأدّت دورا مدهشا فيها الممثّلة المكسيكيّة ذات الأصل اللبنانيّ(سلمى ألحايك)، تحت عنوان: "ليس للعقيد(=كورونيل أو كولونيل) من يكتب لهEl Coronel no tiene quien le escriba"، وكان قد انتهى من كتابتها، على وجه الاحتمال، عام 1957- أو 1959بناء على بعض الدارسين لمسيرته الأدبيّة- .
في عام 1962 جمع ثماني قصص له في كتاب بعنوان: "جنازات الأمّ الكبيرةLos funerales de Mama Grande"، وقد جمع(جاكيس جيلاردJacques Gilard ) قصصا أخرى ل(غابرييل غارثيّا ماركيث) نشرها في برشلونة عام 1981 مع مقدّمة كتبها هذا الجامع الفرنسيّ تحت عنوان: "نصوص ساحليّة Textos costenos.
وحينما سكن في المكسيك كتب قصصا للسينما، وهي واقعيّة جدّا، وهو يقول عن الواقعيّة: "انّ إلتزامي هو مع الواقع كلّ الواقع أي متمسّك بالتزام أدب يعالج الواقع بمجمله، فلق وصلت إلى الاعتقاد بأنّ ثمّة شيئا يمكن أن ندعوه: في سبيل الواقع".
بالإضافة إلى العديد من المقالات والقصص والروايات العديدة الأخرى، ، فانّ روايته الخالدة" مائة عام من العزلة" هي أهمّ ما كتب باللغة الإسبانيّة بعد "(دون كيخوتهDon Quijote )"(=دون كيشوت)، إذ هي، كما يقول مبدعها نفسه: "إنّ النصوص والكتب السابقة جمعاء تنصبّ في "مائة عام من العزلة". استهلك في كتابتها أكثر من خمسة آلاف صفحة وقد كان يحبّرها خلال 18 شهرا ابتداء من عام 1965 إلى أن نشرها في بونوس أيريس، عاصمة الأرجنتين، عام 1967. وقد أجمع الدارسون على التشابه بين هذه الرواية وبين ألف ليلة وليلة.
يقول الباحث (خواكين ماركوJoaquiacute;n Marco) في مقدّمته لهذه الرواية في طبعتها الثالثة المنشورة في إسبانيا عام 1982: "يكافح(غابرييل غارثيّا ماركيث) كذلك ضدّ الموت بسلاح الخيال ومن خلاله متّخذا أنموذجا له معروفا من الأدب التقليدي والشعبيّ، ألا وهو ألف ليلة وليلة. إنّ شهرزاد، تجاه احتمال قتلها، تحيك حكاية جديدة كلّ ليلة، فقد جعلت نصب عينها شعار: الحكاية تعني ديمومة الحياة. كثير من العناصر القَصَصيّة في رواية" مائة عام من العزلة" تبدو وكأنّها متأتّية من الحكايات الشرقيّة، التي كانت في الأصل شفويّة، المتسلسلة في ألف ليلة وليلة. خذ مثلا الجوّ السحريّ؛ وعلى وجه الدقّة "الغجر الجدد"؛ "الصندوق الساحر"؛ "ماكوندوMacondo ".إنّ المجال الروائيّ هو منطقة مسحورة أصيلة، فيها تنتج أعمال خارقة فوق العادة، تروح وتجيء أبعد من قوى الطبيعة؛ "معجزات" حقيقيّة، ولو أنّها متعرّية من دلائلها الدينيّة".
وقد صرّح عدّة مرّات بأنّ روايته هذه تدين إلى الرواية العربيّة العالميّة : ألف ليلة وليلة، لما فيها من واقعيّة تخيّليّة ولما فيها من قوّة سحريّة قادرة على إماتة الموت، حتّى أنّه يقال بأنّ من قرأ الليلة الواحدة بعد الألف فانّه سيلقى حتفه حالا، ولذلك فانّه يعيد قراءة ألف ليلة مستثنيا الأخيرة.
يروي الجزء الأوّل من مذكّراته حياة هذا الإنسان منذ ولادته إلى رحلته الأولى إلى "القارّة القديمة"=أوروبّا عام 1954، أو بالأحرى منذ بداية عشق والده(غابرييل إليخيو) للصبيّة المثقّفة الحنون(لويسا سانتياغو ماركيث إغوارا)، التي تُوفيت عشيّة يوم الأحد الواقع في التاسع من شهر حزيران/يونيو من هذه السنة المنصرمة. وفعلاً فانّ الموت هو المحور الرئيسيّ لجميع ما كتب وألّف، 333 شكلا للمنيّة التي لا تني تلاحقه وتطارده فيقصّ علينا أحسن القصص عنها ويروي الحياة بعد أن يحياها فيُحييها لكي تحيى إلى الأبد بفضل أنجع دواء، ألا وهو الأدب الخالد. ألموت هو دَيْدَنه، خذ مثلا على ذلك ما رواه هو من أنّ خالته(فرانثيسكا) جلست يوما تخيط كفنها فسألها: "لماذا تصنعين كفنا؟". فأجابته: "أيّها الطفل، لأنّي سأموت ألتوَّ، ألآنَ". وفعلا ما أن أنجزت الكفن حتّى اضطجعت في فراشها وماتت.
لعلّنا في هذا المقال الذي به نعيد صلتنا الودّيّة بفن الترجمة الذي نعترف بأنّنا مارسناه خلال سنين عديدة نعطي فكرة موجزة للقارىء العربيّ عن هذه المذكّرات لهذا الكاتب العبقريّ المولع بثقافتنا العربيّة-الإسلاميّة والمدافع عن قضايانا العادلة بأن نورد هنا بعض العبارات الواردة في هذا الجزء الأوّل من هذه المذكّرات أو المذكورة في بعض المقابلات والأحاديث معه، المعبّرة عن محتوى هذا الجزء ومسرى الروائيّ نفسه، وأن نذكر بعض الجمل التي استهلّ بها خطابه لدى تسلّمه"جائزة (نوبل) للآداب" في استوكهلم بشهر تشرين الثاني/ديسمبر عام 1982، إذ أنّها تعكس أسلوبه القصصي-الشعريّ في هذه المذكّرات السلسة، وأن نسرد مقاطع من مقال له يدافع به عن حقوقنا في فلسطين السليبة كرمز لمواقفه الأبيّة الصلبة منذ مطلع صباه الوسيم السليم إلى شيخوخته الرصينة المريضة
-أصيب أخيرا بمرض السرطان اللعين-.
جاء في مستهلّ الجزء الأوّل من مذكّراته -منذ صدوره بيع منه أكثر من مليون نسخة خلال شهرين- هذا التصدير الوجيز المعبّر:"ليست الحياة ما يعيشه المرء، بل ما يتذكّر الإنسان منها، بله كيف يتذكّرها". ويذكر موت جدّه، والد والدته،( نيكولاس ريكاردو ماركيث ميخيّاNicolaacute;s Ricardo Maacute;rquez Mejiacute;a) الذي رعاه وحنا عليه منذ نعومة أظفاره الى بلوغه ثماني سينين من عمره، فيقول:"إنّ ذكراي الأخيرة لدارنا في "كاتاكاCataca "-تصغيير تحبّب لأسم بلدته "اراكاتاكا"- أثناء تلكم الأيّام الشنيعة لهي ذلك المصطلى بفناء الدار حيث أحرقت ملابس جدّي. أزياؤه الوطنيّة الحربيّة وثيابه الكتّانية البيضاء كانت تنمي عنه كعقيد في الحرس المدنيّ كما لو كان لمّا يزل حيّا ضمن هذه النيران التي استمرّت ملتهبة مشتعلة.(...). اليوم أراه جدّ واضح: بعض منّي مات معه.بيد أنّي أعتقد، بلا أيّ شكّ، أنّه في هذه اللحظة انبثق كاتب من المدرسة الابتدائيّة لا ينقصه سوى أن يتعلّم الكتابة".
وكان جدّه هذا قد شارك في عدّة حروب أهليّة أهمّها الحرب التي نشبت في ساحل كولومبيا عام 1899 وانتهت عام 1901. وحين ولد(غابرييل) كان عمر جدّه حوالي خمس وستّين سنة، وعندما بلغ الخامسة من عمره نشأت بينهما صداقة حميمة، فكلّما كان الطفل يسأل جدّه عن شيء لا يعرفه يجيبه بقوله: هيّا بنا لنرى ما يقول القاموس، ومنذ ذلك الحين بدأ(غابرييل)يهتمّ بهذا "الكتاب المثير" أي قاموس المعارف الإنسانيّة.
وبعد وفاة جدّه انتقلت أسرته من "اراكاتاكا" حيث ولد وأرسل هو فيما بعد إلى عاصمة كولومبيا للدراسة، ولم يعد إلى بلدته إلاّ مع والدته لتبيع الدار التي كانت لجدّه فالتقت أمّه ،عند باب إحدى الدور، بامرأة تغزل فعرفتها فتعانقتا وأجهشتا بالبكاء، عن هذا اللقاء المؤثّر يقول:" هناك، من هذا اللقاء الجديد خرجت أولى رواياتي".
أمّا عن علاقته بأمّه فهو يقول:
"منذ طفولتي المبكّرة كانت علاقتي بوالدتي تميّزها الجدّيّة الكاملة، ربّما تكون هي العلاقة الأكثر جدّيّة طيلة حياتي كلّها، فكلّما تطرّقت معها إلى أيّ موضوع معها كانت الصرامة الصرف هي الطاغية أكثر من المودّة المعتادة بين الأمّ ووليدها، انّه لأمر صعب الشرح، لكنّه كان على هذا النحو. ربّما مردّ ذلك إلى أنّي شرعت بالعيش معها ومع والدي-بعيد وفاة جدّي- وأنا يافع أستعمل عقلي، فلا فريّة بأنّ دخولي إلى المنزل كان بمثابة ولوج شخص يمكن لها أن تتفاهم معه، وسط أبنائها الكثيرين، إذ أنّ جميع أُخوتي هم أصغر منّي عمرا، وكنت أنا هو من يعاونها في التفكير بحلّ مشاكل الأُسرة التي كانت آنذاك جدّ عسيرة وليست بسارةٍ مطلقا، ضمن فقر مدقع وصل في بعض الأحيان إلى أن يكون فاقة لا طاقة لنا على تحمّلها، أضف إلى ذلك أنّنا لم تسنح لنا الظروف بالعيش معا تحت سقف واحد خلال زمن مديد، لأنّي بعد سنين قليلة، حين أتممت الثانية عشر من عمري، غادرت منزلنا للدراسة".
وعن والده يقول:
"حين أتممت الثالثة والثلاثين من عمري تذكّرت على حين غرّة بأنّ هذا كان عمر والدي حين رأيته يلج لأوّل مرّة إلى دار جدّي. أذكر ذلك جيّدا لأنّه كان يوم عيد ميلاده، وقد قال أحد الحاضرين آنذاك: "لقد أتمّ عمر السيّد المسيح". كان رجلا أهيف نحيلا، ذا بشرة سمراء، ظريفا، لطيفا، بذيء الكلام أحيانا. إنّي لا أتكلّم عنه إلاّ قليلا لأنّ معرفتي به كانت أقلّ من معرفتي لوالدتي".
وعن زوجته يسرد:
"تعرّفت على(ميرثيديسMercedes ) في الشاطىء الكريبيّ، حيث كانت تعيش أسرتانا خلال عدّة سنين، وحيث كنّا نقضي هي وأنا إجازاتنا. والدها ووالدي كانا صديقين حميمين منذ مطلع شبابهما. ذات يوم، أثناء حفلة رقص للطلبة، وآنذاك كان لها من العمر ثلاث عشرة سنة لا غير، طلبت منها، دون لفّ ودوران، أن توافق على أن أتزوّج بها. والآن أرى أنّ هذا الطلب كان بمثابة استعارة أدبيّة لكي أقفز فوق جميع اللفّات والدورانات التي كان لا بدّ منها في تلكم الفترة لكي يتوصّل المرء إلى خطبة آنسة. ولا شكّ في أنّها فهمت ذلك على هذا النحو، لأنّنا واصلنا لقاءاتنا وإن كانت عرضيّة، غير منتظمة. وأظنّ أن كلانا كان يدرك بلا أيّ شكّ بأنّه عاجلا أو آجلا سوف تصبح الاستعارة حقيقة واقعيّة. وفعلا، بعد عشر سنوات من ابتداعي هذه الاستعارة غدونا زوجا وزوجة، دون أن نكون من قبل خطيبين رسميّين، لأنّا كنّا واثقين من بلوغ هدف لا بدّ منه دون أيّة عجالة وبلا أيّ قلق. نحن الآن على وشك إتمام خمس وعشرين سنة من زواجنا , ولا في أيّة لحظة مضت جرت بيننا مناقشة حادّة. أظنّ أنّ السرّ يكمن في أنّنا قد مضينا ندرك الأشياء كما كنّا نفهمها قبل زواجنا بلا أيّ تبديل. أيّ أنّ الزواج، مثل الحياة بأسرها، هو شيء جدّ صعب على نحو مخيف، إذ لا مناصّ من العودة إلى البدء منذ البدء طيلة الأيّام كلّها وخلال الحياة جمعاء. الجهد متواصل مستمرّ وحتى أنّه مُنْهِك كثيرا أحايين كثيرة، لكنّه يستحقّ العناء. تبوح إحدى شخصيّات رواية من رواياتي على نحو أكثر شراسة وفصاحة بهذه المعاناة إذ تؤكّد قائلة: "الحبّ يُتَعَلَّمُ كذلك".
وعن علاقته بولديه يقول:
"إنّ علاقتي مع ابنَيّ لهي ممتازة جدّا. أجد دائما الوقت الكافي لكي أكون رفقتهما، متحدّثا إليهما في منزلنا. ومنذ أن بدءا يعيان ويدركان فانّ القرارات جميعها تتخذ باستعمال أربعة أدمغة. وأنا لا أفعل ذلك لأنّي فكّرت بأنّه منهج أفضل أو أسوأ من غيره من المناهج التربويّة، بل لأنّي اكتشفت على حين غرّة، حين بدأ ولدايَ بالنموّ، أنّ ميلي الحقيقيّ هو أن أكون أبا راعيا للأبناء، وكم يعجبني أن أكون فعلا أبا حادبا حنونا، لقد كانت أكثر التجارب في حياتي حماسة هي تجربة معاونة ابنَي الاثنين على النموّ والبلوغ، وأظنّ أنّ أفضل ما فعلته في حياتي ليس هو ما ألّفته من كتب بل ما قمت به من عناية لأبنيّ الاثنين. انّهما صديقان حميمان لي ولزوجتي لأنّهما تربّيا بأيدينا وتحت رعايتنا معا.
وعمّا كتب من قصص وروايات نقتطف:
"قد ينشأ ما يكتبه الآخرون من الأدباء عن فكرة أو مفهوم، أمّا أنا فأنطلق من صورة من الصور البصريّة. "قيلولة الثلاثاءLa siesta del martes "، التي أعتبرها أفضل قصصي، نشأت من رؤيتي لامرأة وطفلة مرتديتين السواد ومتعمّمتين بالسواد، كانتا سائرتين تحت شمس محرقة في قرية خاوية قفر؛ "تهافت الورق" هي حكاية رجل هرم يحمل حفيده ليدفنه؛ نقطة انطلاق" ليس للعقيد من يكتب له" هي صورة رجل ينتظر بنوع من القلق الصامت زورقا في سوق "باراتكيّا"، بعد سنوات وجدت نفسي في باريس أنتظر رسالة، لعلّها حوالة ماليّة، بالقلق نفسه وبالكرب ذاته، فتذكّرت ذلك الرجل؛ أمّا الصورة البصريّة لرواية "مائة عام من العزلة" فهي صورة امرأة عجوز تأخذ طفلا ليعرف ما هو الثلج، وقبل أن أجلس وراء الآلة الكاتبة لصياغتها التي استغرقت منّي أقلّ من عامين بقيت مفكّرا في هذا الكتاب خمس عشرة سنة، أو بالأحرى سبعة عشرة عاما؛ ومثل هذا الوقت استغرقت منّي رواية"خريف البطريركEl otontilde;o del Patriarca "؛ أمّا رواية "سيرة موت معلن عنهCroacute;nica de una muerte anunciada " فقد استغرقت منّي ثلاثين سنة".
واليكم الآن"صورة" تسلّمه "جائزة(نوبل) للآداب:
في العاشر، من شهر كانون الثاني/ديسمبر عام 1982وصل (غابيGabi)
ـ اسم تصغير تحبّب ل(غابرييل غارثيّا ماركيث)- إلى "دار المعزوفات الموسيقيّةKonserthuset في عاصمة السويد، مرتديا زيّا شبيها بالزيّ الوطنيّ الذي كان يرتديه جدّه:"ليكي-ليكي liqui ـliqui " غير آبه بالكياسة -هذه أفضل كلمة لترجمة"البرتوكول"- التقليديّة الرصينة في مثل هذا الاحتفال المهيب، فحيّاه الحضور وصفّقوا له، ثمّ جلس على كرسيّ في الصفّ الأوّل إزاء رفاقه الذين منحوا مثله"جائزة (نوبل)"، فما هي إلاّ هنيهة حتّى أعلن عريف الحفل بأنّ الأمين العامّ للمجمع الملكيّ السويديّ سيقرأ تقرير اللجان المحكّمة في منح الجوائز بين يدي جلالة الملك (غوستابوGustavo ).
أثناء ذلك أخرج(غابو) ستّ صفحات من جيب سترته البيضاء المرصّعة بالأزرار حتّى عنقه، وراح في غيبوبة دامت أكثر من مائة دقيقة، ثمّ طفق يناجي نفسه ويحدّثها
: "لشدّما أرهقت نفسي في إعداد هذا الخطاب!"؛ "إنّي لمدرك بأنّ كلّ كلمة سأقولها سوف يكون لها وقع كونيّ"؛ " بهذه الصفحات الستّ أدين أوروبّا بأنّها لا تعي بأنّ ثمّة لغات أخرى وأنماطا شتّى لشرح الواقع"؛ "قيمتنا الوحيدة هي أننّا صادقون، نعرف ذواتنا كما هي لا كما يرغب الآخرون أن تكون"؛ لقد أحسنت صنعا حين ألححت على أن أرتدي زيّ بلدي، ولي في (طاغور) أسوة حسنة، وهاأنذا أبدو مثل العقيد(اوريليانو بونديّا Aureliano Buendiacute;a) بطل روايتي" مائة عام من العزلة"؛ "حسنا في حفلة العشاء مع الملك سوف أرتدي الزيّ الأوربّيّ الرسميّ"فراكfrak"، هذا الزيّ الذي ابتدعه(غوتهGoethe )، وهو في الأصل كان لباس البرهميّين وحتّى الثوريّين، ولكنّي لن أنزع هذه الوردة الصفراء التي تجلب لي دوما الخير العميم"؛ "إنّ منحي "جائزة(نوبل)" هذا العام لمصيبة حلّت بي، إذ أنّي لم أستطع أن أتجنّب تأثيرها على مجرى حياتي، ومنذ أن منحتها وأنا لا أفعل شيئا إلاّ أن أكتب هذه الصفحات الستّ، وهي تكفي، علما بأنّ المجمع اللغويّ السويديّ حثّني على كتابة أربع وعشرين صفحة، ولكنّي ارتأيت أن أوجز وأختصر لأنّ الكلام المسهب الذي يستغرق أكثر من ساعة هو لغو، لقد أعددت خطابا سياسيّا وليس أدبيّا كما ينتظر منّي هؤلاء الحاضرون. هذه فرصة سانحة لأشرح الوضع السياسيّ في بلدي وفي أمريكا اللاتينيّة"؛ " لم أغبط زملائي الآخرين الحاصلين على الجائزة كذلك، إذ ليس عليهم أن يتفوّهوا ببنت شفة، ومع ذلك حين ينادى عليهم لاستلام الجائزة سوف يصفّق الحضور لهم ربّما أكثر ممّا سيصفّقون لي بعد إلقائي كلمتي هذه التي كلّفتني الجهد الكثير ومنعتني من مواصلة كتابتي لروايتي الجديدة التي محورها هو الحبّ، حيث الناس كلّ الناس يشعرون بسعادة غامرة، مثاليّة جديدة كاسحة للحياة، حيث يرتع الحبّ فعلا وحيث تكون السعادة ممكنة جدّا وحيث العشائر المدانة بمائة عام من العزلة يمكن لها في النهاية وللأبد فرصة أخرى فوق اليابسة".
وقاطع مناجاته نداء العريف فوقف ثمّ خطا مسافة بضعة أمتار وقد طأطأ رأسه قليلا ليلمح الوردة الصفراء المعلّقة في عروة معطفه علّها تعينه وتسعفه في هذه اللحظات الحرجة، وحين اقترب حاول أن يشمخ برأسه الكبير الضخم، ولكنّ رقبته الغليظة القصيرة لم تمطّ أوتارها إلاّ قليلا، فهزّ منكبيه وشرع يلقي خطابه الوجيز الموحيّ الذي عنونه ب"نخب الشعرBrindis por la poesiacute;a ", مشيرا بذلك إلى خطواته الأولى في مراحل الأدب، فاستهلّه بقوله:
"في كلّ سطر أخطّه أحاول دائما، فأوفّق كثيرا أو قليلا, استدعاء الأرواح الشمّاء للشعر وأسعى أن أترك في كلّ كلمة شهادة عبادتي لقيمه التنبّؤيّة ولانتصاره الدائم على قوى الموت الغاشمة الصمّاء"؛ "إنّ هذا القرن، قرن الدياجير والعزلة، لهو مصيرنا المحتوم...".
وتابع إلقاء خطابه بلغة إسبانيّة شعريّة وبلهجة كولومبيّة عذبة موسيقيّة، غير آبه بأن ترضى زوجه الجالسة تجاهه بين الحضور وبأن تقرّ عينا إبنه الصغير المتطلّع إلى أبيه في إعجاب وخشية معا. وحين أنهى كلامه وقف الجميع يصفّقون، ثمّ دنا من الملك وصافحه بيده اليمنى فيما كانت يده اليسرى تنفتح بين بين محاولة استلام صكّ الجائزة البالغ مائتي ألف دولار أمريكي، دون أن تسّاقط أيّة ورقة من أوراقه الستّ.
يبدو أنّ(غابي) قد ذهل ساعة الحفل فهو لا يحدّثنا بشيء عن روعة ذاك الملتقى، بيد أنّه يتحفنا بالحديث عن الليلة السابقة عليه، إذ يقول في مقال له بعنوان:"عشاء سلام في هاربسون Cena de paz en Harpsund ":
"بعد حوالي ساعتين من السفر ليلا عبر طريق جليديّ وصلنا إلى منزل ريفيّ في "هارببسون" تلبية لدعوة إلى العشاء كان قد وجّهها إلينا رئيس الحكومة السويديّ( اولوف بالمهOlof Palme )، وذلك في التاسع من شهر كانون الأوّل/ديسمبر. كان الليل هادئا وكنّا
-أنا وزوجتي(ميرثيديس)- نتوقّع أن نشاهد عبر الضباب الكثيف قصرا ذا نمط قديم شبيه بقصور القرون الوسطى التي يصفها(انديرسونAndersen ) في قصصه، ولكنّا لمحنا، حين ولجنا، دارا بسيطة نظيفة وسط مرج وديع بديع، إزاء بحيرة راقدة تحت الجليد، تحفّ بها بيوت أعدّت للضيوف. هذا هو المنزل الريفيّ لرؤساء الحكومة المتعاقبين في السويد.
خلال ذلك الأسبوع المنهك جرت مهرجانات عديدة تكريما لأمريكا اللاتينيّة. كان الناس في كولومبيا يخشون خشية القرويّ تجاه ابن المدينة، أن يرتكب وفدنا الثقافيّ حماقات في اللياقة والكياسة ببلدان شمال أوربّا المتمدّنة جدّا. بيد أنّ وفدنا الثقافيّ أدّى المهمّة على أحسن ما يرام، إذ أنّه لم يكتف بإظهار تراثنا الثقافيّ فحسب بل أكّد على أنّ هوّيّتنا هي ذات طابع محدّد يعبّر عن نفسه بلا تحفّظات. خذ دليلا على ذلك أنّ الملكة(سيلفياSilvia ) عبّرت لي عن أسفها بأنّها لم تجد الفرصة السانحة ولا الوقت الكافي لكي تتعلّم رقصة"كومبيا Cumbia" لكي تؤدّيها مع فرقة وفدنا الثقافيّ. باحت لي بأنّها كانت قد حاولت أن تؤدّيها مرّة واحدة وهي ترغب في أن تتقن وتفهم رقصتنا هذه، إذ أنّ رشاقتها الأصيلة تركت في السويد انطباعا ينمّ عن سمات الأناقة واللياقة والكرامة والذوق السليم. لعلّ قيمتنا الوحيدة هي أنّنا صادقون، نعرض ذواتنا كما هي لا كما يرغب الآخرون أن تكون.
لم تكن حفلة العشاء هذه التي جرت في منزل رئيس الحكومة السويديّ استثناء، فقد تعرّت كذلك من كلّ طابع رسميّ، إذ بدت وكأنّها لقاء بين صديقين حميمين قديمين في علاقتهما الودّيّة، وانتهت إلى حفل تكريم لأمريكا اللاتينيّة. اقتصرت حفلة العشاء هذه على مجموعة من الأصدقاء، من بينهم السيّدة(دانييل ميترّانDanielle Miterrand ) زوجة رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة، وهي لا تني تفتخر بأنّها لحمة اللجنة الفرنسيّة وسداها للتضامن مع شعب السلفادور، و(ريجيس دبرايRegis Debray) و(بير شوريPierre Schori ، الأوّل فرنسيّ والثاني سويديّ، كلاهما شديد الإلتصاق بقضايا أمريكا اللاتينيّة، ومجموعة مختارة من الكتّاب السويديّين منهم رئيس "نادي القلم "العالميّ(سفين لينكفيتSven Linqvist )، وهو صديق لنا ألّف كتابا مهمّا جدّا، سرعان ما شاع وانتشر، عن العلاقات القائمة بين ملكيّة الأراضي والسلطة السياسيّة في أمريكا اللاتينيّة. وكان من بين الحضور كذلك رئيس الحكومة التركيّة السابق(بولين ايثيفيتBulen Ecevit )، وهو رجل ذو ذراع قويّة وقلب سخيّ، قضى بعد تنحيته من رئاسة الحكومة عدّة أشهر في غياهب السجون، ولم يكن يسمح له بالخروج من بلده، إذ حكم عليه بالإقامة الجبريّة في منزله. دعاه إلى حفلة العشاء هذه(اولوف بالمه)، لا على أنّه سياسيّ بل لأنّه لكونه شاعرا، فقد باح لنا بأنّ الشعر ديدنه.
وقد تطرّق رئيس الحكومة السويديّ في كلمة الترحيب اللطيفة الوجيزة التي ألقاها تلك الليلة بحسّه الفكه المعروف عنه إلى هذا الشأن فقال: "إنّي لعلى غاية من السعادة لأنّ السلطات التركيّة أدركت بأنّ سخرنا وعربدتنا وسهرتنا هذه الليلة ستكون بريئة جدّا فأذنت إلى صديقنا(بولين ايثيفيت) بالمجيء إلينا".
إنّ الحساسيّة التي يشعر بها السيّد (اولوف بالمه) تجاه آلام أمريكا اللاتينيّة
-وهي حساسيّة أكثريّة السويديّين الذين أعرفهم- هي منشأ صداقتنا، فقد قدّمني إليه السيّد
( فرانثيس ميترّانFranccedil;ois Mitterrand ) منذ عدّة سنين في منزله ب"بييفر Bievre" في باريس خلال فترة الهدنة إثر هزيمة انتخابيّة وقبل هزيمة أخرى من هزائمه العديدة السابقة. وكان حاضرا العديد من الشخصيّات السياسيّة والأدبيّة، وهذا أضفى على أحاديثنا جوّا لطيفا ممتعا. على حين غرّة اقترب منّي أحدهم وسلّمني ورقة كتب عليها(اولوف بالمه) بخطّ يده بضعة كلمات مغزاها أنّه يرغب في تناول خمرة الجعة (="بيره") صحبة الأمريكيّين اللاتينيّين من الحاضرين تلك الندوة، على حدة. توجّهنا جميعا إلى "الكوبولCoupole " وفق العادة الأليفة حين يحلّ الهزيع الأخير من الليل، فراح (اولوف بالمه) يسائلنا خلال أكثر من ساعتين عن الأوضاع في بلداننا، ملحّا، مستطردا، مبديا اهتماما كبيرا، ممّا جعلنا نعجب وندهش. لا أحد منّا التفت أو انتبه إلى أنّ ثمّة رجلا وزوجته، كبيرين جدّا في السنّ، كانا جالسين حول طاولة أخرى مجاورة لنا، كانا يتحدّثان، ناظرين إلينا، منصتين إلى أحاديثنا، ثمّ طفقت المرأة تستجوب رئيس الحكومة السويديّة بلغة سويديّة عمّا إذا سيدفع الحساب من مال الدولة أم من ماله الخاصّ. فانتقل(بالمه) إلى طاولتهما ليقدّم إلى ابن بلده وابنتها كلّ أنواع الشروح والتفسيرات، وأردف قائلا بأنّه سيدفع من ماله الخاصّ، ولكنّه يعتقد بأنّه إن دفع من مال الدولة فلن يكون تفريطا، إذ أنّ رئيس الحكومة السويديّ قد استمدّ معلومات قيّمة عن بلدان أمريكا اللاتينيّة من هؤلاء الضيوف، فهي، إذن، جلسة رسميّة.
ولقد أسرنا وفتننا، أثناء حفلة العشاء، بذكرياته عن بلداننا النائية. ذكر، إذ تذكّر، محادثة تمّت بينه وبين( بابلو نيروداPablo Neruda ) في داره ب"الجزيرة السوداءIsla Negra " عام 1969, أي قبل سنة واحدة من فوز(سالفادور ايّندهSalvador Allende ) في انتخابات الرئاسة بتشلي. قال: "أخذنا بأطراف الأحاديث طيلة الليل كلّه ونحن قابعان إزاء الموقد، تحيط بنا تماثيل هائلة كانت على قياديم السفن التي كانت قد مخرت بحار العالم بأسره. ما كان(نيرودا) ليملّ أو يكلّ في استعراضه للنظم الديكتاتوريّة على أنّها ظاهرة مستمرّة في تاريخ أمريكا اللاتينيّة. كان يفيض كمعين لا ينضب أو كالحركة السيّارة المباغتة المنبعثة من التيّار السفليّ في يمّ المحيط الهادىء الذي يلطم بأمواجه جدران تلك الدار". بين تحيّة بكأس خمر وتحيّة أخرى بكأس أخرى دار الحديث حول موضوع أمريكا اللاتينيّة، وحين تعتعتنا الخمرة وأدركنا الهزيع الأخير من الليل نهضنا لكي نستريح ونرقد.
في نهاية تلك السهرة طلب منّي رئيس الحكومة السويديّ أن أشرح لضيوفه الوضع الحاضر في أمريكا اللاتينيّة بإيجاز. لم أكن قديرا في ذلك ولا قادرا عليه، إذ أنّي لم أنم منذ ثلاثة أيّام، وكنت أشعر بالضنك والإرهاق من جرّاء الطقوس الشرهة أثناء الاحتفالات القاتلة في الليالي السابقة، غير أنّي قدّرت طلب رئيس الحكومة السويديّة فلبّيت فاستغرقت في تحليل دقيق لمدّة ساعتين تقريبا، إلى أن قاطعتني(بيير شوري) وهو يقهقه قائلا: "لا تسمرّ، يا(غابرييل)، فنحن مقتنعون بما تقول". هكذا نشأت فكرة توجيه نداء إلى الرؤساء الستّة في دول أمريكا الوسطى لكي يجتمعوا ويقوموا بجهد جهيد بغية إحلال السلام في المنطقة. وقد تجاوب هذا النداء مع ما أوضحته بأنّ دول أمريكا الوسطى هي على حافّة الحرب ما لم تجنح إلى السلم عن طريق التفاوض".
وفي اليوم السابق لحفلة العشاء نشر ل(غابريل غارثيّا ماركيث) مقال بعنوان:
"الأدب بلا ألمLa literaratura sin dolor "، إليكم ترجمته إلى لغتنا العربيّة:
"لقد ارتكبت قبل زمن قريب العهد حماقة كبرى وذلك بأن قلت إلى فريق من الطلبة بأنّ الأدب العالميّ كلّه يمكن الإلمام به في أمسية واحدة. فبادرتني فتاة من بين هؤلاء الطلبة، وهي حريصة على الآداب الجميلة، ناظمة عدّة أبيات من شعر الغزل، بقولها: "متى تجيء لكي تعلّمنا الأدب العالميّ كلّه؟". وفي يوم الجمعة التالي حضر الطلبة إلى منزلي في الثالثة مساء، فشرعنا في الحديث عن الأدب حتّى السادسة، بيد أنّنا لم نستطع تجاوز فترة الرومنطيكيّة الألمانيّة، إذ رغبوا أن يرتكبوا، مثلي، تفاهة من نوع آخر، ألا وهي حضور حفلة عرس، فقلت لهم بأنّ أحد الشروط لكي يتعلّم المرء الأدب كلّه في أمسية واحدة هو ألاّ يلبّي دعوة لحضور حفل زفاف في الوقت نفسه، إذ أنّ ثمّة وقتا كافيا للتزوّج والهناء في الحياة أكثر ممّا يوجد للتعرّف على الشعر. لقد بدأ كلّ شيء بالفكاهة والتنكيت وانتهى أيضا بالفكاهة والتنكيت، وانصرفوا وبقيت وحدي في انطباع شبيه بانطباعهم، ألا وهو إن لم يكن لنا إلمام بالأدب خلال ثلاث ساعات فإنّنا على الأقلّ تزوّدنا بفكرة عامّة كافية دون حاجة إلى قراءة(جون بول سارترJean Paul Sartre).
حين يستمع الإنسان إلى أسطوانة أو يقرأ كتابا فإنّه سرعان ما يحسّ بدافع فطريّ في أن يجد من يشاركه في هذه المتعة. هذا ما حصل لي عندما اكتشفت، صدفة، معزوفة :"جوقة من خمسة أفراد للعزف على أربع آلات بأوتار و بيانوQuinteto para cuarteto de cuerdas y piano" ل(بيلا بارتوكBela Bartok )، ولم تكن هذه المعزوفة معروفة آنذاك.وتكرّر الأمر حين استمعت من مذياع سيّارتي إلى المعزوفة الرائعة الغريبة: "كونسيرت غريغوريّ للعزف على الكمان بمرافقة جوقةConcierto gregoriano para violiacute;n y orquesta" ل(اوتّورينو ريسبيغي Ottorino Respighi). كلتا المعزوفتين كانت نادرة، ولم يكن من السهل الحصول عليهما، ولا أحد من أصدقائي المولعين بالموسيقى كان له علم بهما أو بإحداهما، وقد طوّفت وطوّفت باحثا عمّن يمتلك تسجيلا لهاتين المعزوفتين لكي أستمع إليهما صحبته فلم أعثر على أحد. شبيه بهذا جرى لي منذ عدّة سنين مع رواية"(بيدرو باراموPedro Paacute;ramo )"ل(خوان رولفوJuan Rulfo )، وأظنّ أنّ طبعة كاملة من هذا الكتاب قد نفدت، إذ أنّي كنت أشتري جميع النسخ لكي أهديها إلى أصدقائي الكثيرين شريطة أن نعود فنلتقي لكي نتجاذب أطراف الحديث عن هذه الرواية القريبة إلى نفسي.
أوّل ما بسطت لطلاّبي الأعزّاء هي فكرتي الشخصيّة البسيطة حول تعلّم الأدب، ألا وهي أنّي أعتقد بأنّ دورة جيّدة خلال عام دراسيّ واحد لتعليم الأدب يجب ألاّ تكون أكثر من دليل للكتب القيّمة التي لا بدّ من قراءتها. ليس لكلّ عصر أدبيّ من كتب أساسيّة جمّة كما يزعم المدرّسون الذين يتلذّذون بالتنظير إلى طلاّبهم، إذ يمكن استعراض الكتب الرئيسيّة في أمسية واحدة، على ألاّ يكون ثمّة أيّ التزام لازب بحضور حفلة زفاف. بيد أنّ قراءة جميع الكتب الأساسيّة بشغف وبتفحّص وإنعام نظر هي أمر جدّ مختلف يستغرق أمسيات كثيرة في حياة المرء. فإن قدر الطلاّب على هذا فانّهم سيحيطون بالأدب قدر ما يعلم أفضل معلّميهم. أمّا الخطوة التالية فإنّها أشدّ خطرا، ألا وهي: التخصّص. وثالثة الأثافيّ هي الخطوة الثالثة في سبيل التضلّع في المعرفة. لكن إمّا شاء الطلاّب أن يتبجّحوا بمعلوماتهم عن الأدب في كلّ منتدى، فليس عليهم أن يسلكوا أيّ طريق وعر ولا أن يمرّوا في متاهات جهنّم، بل عليهم أن يقتنوا مجلّدين ألّفهما كاتب أرسلته العناية الإلهيّة، بعنوان: "ألف كتاب"، والمؤلّف هو(لويس نويداLuis Nueda )، وشاركه في ذلك(أنطونيو اسبيناAntonio Espina )، ونشرا المجلّدين عام 1940، وفيهما اختزلا، بترتيب أبجديّ، أكثر من ألف كتاب من الكتب الأمّهات في الأدب، وزوّداهما بملخّصات وشروح وأخبار ومعلومات مدهشة عن الكتّاب وعن الفترة التي كتب فيها كلّ كتاب. لا ريب في أنّ الكتب التي يمكن التطرّق إليها خلال أمسية واحدة هي أقلّ من الكتب الواجب الإطّلاع عليها، لكن ليس من الضروريّ قراءتها وليس علينا أن نخجل من ذلك. أنا أقتني هذين المجلّدين اللذين يتصدّران منضدتي حيث أكتب، وكنت قد ابتعتهما منذ سنين عديدة، فلكم أسعفاني في جنّة المثقّفين! ,أستطيع أن أجزم بأنّ الكثيرين من كهنة الحفلات الاجتماعيّة وأرباب المقالات الصحفيّة يستمدّون معلوماتهم من هذين المجلّدين.
ليست كتب الحياة بكثيرة لحسن الحظ، وجّهت مجلّة"بلوماPluma " (=ريشة) التي تصدر في "بوغوتا"، منذ زمن قريب، سؤالا إلى مجموعة من الأدباء عن أفضل الكتب لديهم، فأجابوا ذاكرين خمسة من الكتب فقط، دون ذكر أمّهات الكتب الكبرى، مثل الكتاب المقدّس و "(دون كيخوته)"(=دون كيشوت)، أمّا الكتب التي ذكرتها أنا فهي: ألف ليلة وليلة ، "الملك اوديب)" ل(سوفوكليسSoacute;focles )"، "موبي ديك Moby Dick" ل(ميلفيلMelville )، "أيكة الغنائيّة الاسبانيّة Flresta de la liacute;rica espanola" وهي مختارات قام بها السيّد(خوسه ماريّا بليكواJoseacute; Mariacute;a Blecua )، -هذا الكتاب، لعذوبته وطرافته، تشبه قراءته قراءة رواية شَرَطيّة(=بوليسيّة)، قاموس للغة القشتاليّة(= الاسبانيّة) شريطة ألاّ يكون، طبعا، قاموس المجمع اللغويّ ـ. قائمة هذه الكتب الخمسة قابلة للنقاش والتعديل، كما هي كلّ قوائم الاختيارات، غير أنّ حجّتي في اختيارها هي جدّ بسيطة صريحة: لو أنّي ما قرأت سوى هذه الكتب الخمسة- بالإضافة إلى الكتب الأمّهات، طبعا- لكنت اكتفيت لكتابة ما كتبت. أي أنّ هذه القائمة هي ذات طابع مهنيّ، بيد أنّي لم أختر، بادىء ذي بدء، كتاب"موبي ديك"بل اخترت بدلا منه"كونت دي (مونتيكريستوEl Conde de Montecristo ") ل(اليخاندرو دوماسAlejandro Dumas ) ، فهذا الكتاب هو رواية تامّة كاملة من حيث البنية، وكنت أكثر رضى بكتاب"ألملك اوديب". فيما بعد فكّرت في رواية "ألحرب والسلام" ل(تولستويTolstoi ) فهي في رأيي أفضل رواية كتبت على مدى التاريخ، لكن بما أنّها في الحقيقة جدّ جيّدة فقد رأيت أنّه من العدل السهو عنها على أنّها كتاب من الكتب البيّنات. على العكس منها كتاب"موبي ديك"، إذ أن بنيته الفوضويّة جعلت منه مصيبة من مصائب الأدب البديعة، فقد أمدّني وألهمني نفسا أسطوريّا كنت في أشدّ الحاجة إلى هذا النفس للكتابة.
على جميع الأحوال، دورة الأدب خلال أمسية واحدة والاستجواب عن أفضل الكتب المقروءة يستدعيان التفكير في أعمال أدبيّة أخرى لا يمكن أن تنسى، ومع ذلك فقد نستها الأجيال الجديدة. منذ حوالي أكثر من عشرين سنة كانت ثلاثة من هذه الكتب المنسيّة الآن تحتلّ المكانة الأولى، وهي: "الجهل السحريّ" ل(توماس مونThomas Mann )، "تاريخ القدّيس(ميشيل)" ل(اكسيل مونثAxel Munthe ) ، "(مولينيس الكبير)" ل(الاين فورنيييرAlain Fournier ). إنّي لأتساءل عمّن، من طلاّب الأدب، حتّى أكثرهم إلحاحا وهوسا، بذل جهدا في محاولة التعرّف عمّا تتضمّنه هذه الكتب الثلاثة السهلة. يبدو للمرء أحيانا أنّ هذه الكتب انتهت إلى مصيرها المحتوم الجميل، ولكنّي أظنّ بأنّ انتهاءها هو آنيّ مؤقّت، كما حصل بالنسبة لبعض كتب(ايسا دي كيروز Eca de Queirox) و(اناتولي فرانسAnatole France ) ولكتاب" تناسق Contrapunto"ل( الدووس هوكسليAldous Huxley ) فقد كان هذا الكتاب نوعا من الحصبة في أعوامنا الزرقاء، ولكتاب"فتى الأوزّ" ل(خاكوب واسيرمانJacobo Wassermann ) وقد يرجع السبب في الشغف به إلى الحنين أكثر من الولع بالشعر، وكتاب "النقود المزيّفة" ل(اندرريه جيدAndre Gide ) فقد كان أكثر زيفا ممّا فكّر مؤلّفه نفسه. ليس ثمّة إلاّ حالة واحدة شردت من هذا الملجأ حيث تأوي الكتب المتقاعدة، ألا وهي حالة(هيرمان هيسه Hermann Hesse) الذي كان نوعا من التفجير المبهر حين منح "جائزة(نوبل) للآداب" عام 1946، إذ سرعان ما طوته أجنحة النسيان. غير أنّ كتبه قد أنقذت في هذه الأعوام الأخيرة من لدن جيل وجد فيها "ماورائيّة"(=ميتافيزيقيّة) تتوافق مع شكوكه الخاصّة.
أظنّ أنّ هذا كلّه ليس بباعث على القلق بل هو بمثابة أحجيّة في سهرة. لا فريّة في أنّ الحقّ هو ألاّ يكون هناك كتب إلزاميّة، أي كتب عقاب، وأنّ المنهج السديد هو ترك الصفحة التي يضيق بها المرء ذرعا، لكن، بالنسبة للمتلذّذين بالعذاب ممّتن يفضّلون الإيغال مهما كلّفهم ذلك من مشاقّة، ثمّة صيغة موفّقة ألا وهي وضع الكتب التي لا يمكن قراءتها في المرحاض. فقد يتوصّل بعضهم، بعد العديد من السنوات من الهضم الجيّد، إلى بلوغ سدرة"الفردوس الضائع" ل(ميلتونMilton )."
وما أن انتهى من الحفلات الساخنة في بلدان الجليد بشمال أوروبّا حتّى قدم إلى مدريد في السادس والعشرين من شهر كانون الأوّل/ديسمبر، تلبية لدعوة وجّهها إليه رئيس الحكومة الإسبانيّة السابق (فيليبه غونثاليثFelipe Gonzaacute;lez ). وها هو يصف ذلك اللقاء في مقال له بعنوان: "(فيليبه)"، يقول في مطلعه:
"وصلت مع زوجتي(ميرثيديس) وابننا الصغير عند ظهيرة يوم عذب تشعّ فيه الشمس على مدريد أثناء فصل الشتاء الغريب العجيب. كان(فيليبه) قد خرج من قصر "مونكلواMoncloa " مع أحد مستشاريه لكي يتنزّها عبر الحديقة البديعة. لمحته بين أيكة وأيكة بمعطفه الأزرق ذي الكمّين الطويلين، وهو ما كان يضفي عليه طابع طالب جامعيّ أكثر من كونه رئيسا للحكومة، إذّاك شعرت بأنّي أرتدي ألبسة أكثر ممّا يجب في هذه المناسبة، بيد أنّ(فيليبه)، لحسن حظّي، كان يضع ربطة عنق، وهذه هي المرّة الأولى التي أشاهده فيها وقد شدّ على عنقه ربطة منذ أن تعرّفت عليه قبل ثماني سنين في إحدى الغرف العامرة بفندق في مدينة بوغوتا...".
ودام لقاؤه برئيس الحكومة الإسبانيّة مدّة خمس ساعات. وفي الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم ظهر كلاهما معا في "قاعة الأعمدة" بالقصر حيث كان ينتظرهما فريق من الصحفيّين، فصرّحا:
(فيليبه): تربطني ب(غارثيّا ماركيث) صداقة حميمة قديمة.
(غابي): إنّه للقاء بين صديقين قديمين.
(فيليبه): لم أدعه للحديث حول موضوع محدّد، بل لكي أسعد بأن أراه من جديد.
(غابي): إنّه لمن الصعب إيجاز مضمون حديثي مع( فيليبه).
(فيليبه): كان حديثنا عن المواضيع السياسيّة والاجتماعيّة ذا علاقة بصداقتنا.
(غابي):لقد بدأنا أحاديثنا منذ ثماني سنين أو أكثر، ثمّ توالت هذه الأحاديث كلّما كنّا نلتقي
(فيليبه):إنّ مفاتيح مشاكل أمريكا اللاتينيّة واضحة جدّا، بيد أنّ حلول هذه المشاكل في غاية الصعوبة نظرا لتضارب المصالح.
(غابي): قد يكون الحبّ هو مفتاح الحلّ بالنسبة لمشاكل أمريكا اللاتينيّة.
(فيليبه): أظنّ أنّه من المستحيل الحديث عن حلّ نهائيّ لمشكل أمريكا الوسطى والخليج الكريبيّ دون الأخذ بعين الاعتبار قضايا جوهريّة مثل وضع كوبا في هذه المنطقة، ومثل الحاجة إلى اتفاق حول الأمن والسلم والتعاون تشارك فيه جميع دول المنطقة.
(غابي):إنّي اعتبر الفائز ب"جائزة(نوبل) للآداب" هو الأدب الإسبانيّ عامّة.
وبعد، فمتى يدعو العرب(غابرييل غارثيّا ماركيث= غابي) ليروه عن كثب وقد كتب ما كتب مدافعا عن العرب؟
في مقال له بعنوان: "(بيغين) و(شارون) حاملا "جائزة(نوبل) للموتBeguin y Sharonv premios uml;Nobel de la muerte"، نشره بعد فوزه ب"جائزة(نوبل) للآداب" بقليل، يقول:
إنّ أصعب شيء للتصديق هو أن يكون(مناحيم بيغين) حائزا على "جائزة(نوبل) للسلام"، ومع ذلك فإنّه مُنِح هذه الجائزة، فعلا -على الرغم من أنّه يصعب تصديق ذلك الآن- عام 1978، في الوقت الذي مُنِحَتْ كذلك إلى أنور السادات، حين كان رئيسا لجمهوريّة مصر، بسبب موافقته على اتفاقيّة سلام منفرد في "كامب ديفيد". وقد كلّف ذلك القرار الاستعراضيّ بالنسبة للسادات أن نبذته الأمّة العربيّة حالا ثمّ دفع ثمن تباطئه بأن قُبِضَتْ روحُهُ. لكن بالنسبة ل(بيغين) كان الأمر على عكس ذلك، فقد أُذِنَ له بالتنفيذ المرتّب لخطّة استراتيجيّة لمّا تنته بَعْدُ. ومنذ بضعة أيّام سمح له بأن ينفّذ المجزرة البربريّة الهمجيّة وذلك بتقتيل أكثر من ألف لاجىء فلسطينيّ في مخيّمات بيروت. لو وُجِدَتْ "جائزةُ(نوبل) للموت" لكان حصل عليها، هذا العام، بكلّ تأكيد، (مناحيم بيغين) نفسه وزميله المجرم المحترف(أرييل شارون).
ليس لاتفاقيّات" كامب ديفيد" من هدف آخر -وهي تستخدم الآن، كما يشاهد، غطاء لجرائم عديدة- غير القضاء على منظّمة التحرير الفلسطينيّة، أوّلا، وإقامة مستعمرات إسرائيليّة جديدة في الأراضي العربيّة المحتلّة فيما بعد. ومن كان له منّا عمر مديد لا بدّ أنّه يذكر أعمال النازيّين، إذ أنّ هدفي(بيغين) هذين يثيران بنا ذكريات رهيبة: نظريّة المجال الحيويّ التي أراد بها(هتلر) توسيع سلطته لتشمل نصف العالم، وما دعاه (هتلر) نفسه بالحلّ النهائيّ للمشكل اليهوديّ، ممّا أدّى إلى جرجرة أكثر من ستّة ملايين شخص بريء إلى حقل الإبادة الجماعيّة.
إنّ توسيع المجال الحيويّ لدولة إسرائيل والحلّ النهائيّ للمشكل الفلسطينيّ
-كما يفهم ذلك، اليوم، حامل"جائزة(نوبل) للسلام" منذ عام 1978- قد نفّذا ليلة الخامس من حزيران/يونيو بأن غزت لبنانَ قوّاتٌ إسرائيليّة مختصّة في علم السحق والإبادة والتقتيل. حاول(مناحيم بيغين) تبرير هذا الغزو الدامي متذرّعا بحجّتين: ألأُولى: محاولة إغتيال السفير الإسرائيليّ في لندن(شلومو ارغوفShlomo Argov ) وذلك في أواخر شهر أيّار/مايو؛ الثانية: الزعم بأنّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة المتّخذة من لبنان مأوى لها قد قذفت منطقة الجليل بالقنابل. اتهم(بيغين) منظّمة التحرير الفلسطينيّة بأنّها وراء محاولة الإغتيال وهدّدها بانتقام مباشر عاجل. لكنّ الاستخبارات البريطانيّة كشفت فيما بعد بأنّ الفاعلين الحقيقيّين هم أعضاء في منظّمة(أبو نضال) المنشقّة التي كانت في الأشهر السابقة قد اغتالت عدّة زعماء في منظّمة التحرير الفلسطينية. أمّا فيما يتعلّق بالحجّة الثانية فقد تبيّن أنّ الفلسطينيّين قد دخلوا منطقة الجليل مرّتين أو ثلاث مرّات لا غير، ممّا أدّى إلى قتل واحد فقط. وكان الفلسطينيّون قد أطلقوا هذه القذائف انتقاما لما قامت به إسرائيل من قذف المئات من القنابل على مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين ممّا أدّى إلى قتل المئات من المدنيّين.
لم تكن، في الحقيقة والواقع، هذه الحرب الشرسة التي شنّها (بيغين) معتمدا على أساس هاتين الحجّتين بمفاجأة لقرّاء المجلّة الإسرائيليّة الأسبوعيّة" هاكلام هازايHaclam Haze "، إذ كانت هذه المجلّة قد نشرت تفاصيل هذا الغزو في أيلول/سبتمبر عام 1981، أي قبل تسعة أشهر من بدايته، وثبت بذلك بطلان المثل الذي يقول بأنّ حربا يعلن عنها مسبقا لا تقتل أحدا، فقد قتلت القوّات الإسرائيليّة -التي تعتبر من أنجع القوّات العسكريّة وأكثرها خبرة في العالم- في الأسبوعين الأوّلين ما يقارب ثلاثين ألف مدنيّ فلسطينيّ ولبنانيّ وجعلت أكثر من مدينة أطلالا وأنقاضا، بينما لم تزد خسائرها خلال هذه الفترة الزمنيّة عن ثلاثمائة نفر.
لقد أصبحت استراتيجيّة (بيغين) الآن واضحة جدّا، إذ أنّه بالقضاء على منظّمة التحرير الفلسطينيّة يحاول إزالة الممثّل الفلسطينيّ الوحيد القادر على التوصّل، عن طريق التفاوض، إلى حلّ سلميّ يقوم على أساس إنشاء دولة فلسطينيّة مستقلّة في الضفّة الغربيّة وفي غزّة، وكان (بيغين) نفسه) قد أعلن بأنّ هاتين المنطقتين هما أراض للأسلاف الشعب اليهوديّ.كان هذا الاتفاق في متناول اليد منذ الرابع من شهر حزيران/يونيو الماضي حين وافق ياسر عرفات رئيس منظّمة التحرير الفلسطينيّة على مبدأ الإعتراف المتبادل بين شعبي إسرائيل وفلسطين، وذلك في مقابلة صحفيّة نشرتها صحيفة "ليموند" في باريس بذلك التاريخ. لكنّ