بْلَز سندرار: نثرُ القطارِ العابر سيبيريا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
شهد مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، انتفاضة شعرية ذات روح جديدة، تمثلت في كتب كديوان ابولينير "كحول"، وبيانات المستقبليين الايطاليين كـ"الكلمات المُسرَّحة". وها هو عام 1913 يشهد اول محاولة جديدة إيقاعا وإخراجا في تاريخ الحداثة الشعرية: "نثر القطار العابر سيبيريا"&للشاعر الفرنسي بْلَز سندرار (1887- 1961)،&فهي قصيدة الرحلة بامتياز ورحلة القصيدة عن كل التقاليد الشعرية وفتح أفق جديد للغة الشعرية. تم طبع القصيدة 150 نسخة، على ورقة طولها متران ومطوية على شكل اكورديون، وإذا لصقنا نسخة بأخرى سنحصل على ارتفاع برج ايفل 300 مترا. وتخللت الأبيات بشكل مواز رسوم تجريدية ملونة بريشة سونيا ديلوني. بهذه الروح الشعرية الجديدة المواكبة للفن الجديد وللحياة العصرية في باريس آنذاك، اعتبرت أول محاولة بين الرسم والشعر في آن.
لم يعط سندرار أية أهمية للأوزان سواء كات الكسندرانية أو حرة، بل حتى رفض ان يسمي عمله هذا "قصيدة القطار..." مع أنها مهداة إلى الموسيقيين، موضحا: "إني استخدم كلمة النثر هنا بالمعنى اللاتيني في العصور الوسطى، أي كلام مُرسل. ذلك أن كلمة قصيدة بدت لي مفتعلة ومصطنعة ومنغلقة. بينما كلمة نثر شعبية وأكثر انفتاحا". غير أننا إذا حاولنا أن نفعّل بعض الأبيات، سنجد أشباح بعض تفعيلات الوزن الفرنسي هنا وهناك، لكن لا تسعفنا بشيء يمكن أخذه كمبدأ نقيس عليه بقية القصيدة. كما إني أحب أن أذكّر القارئ بأن هذه القصيدة، المكتوبة في مطلع القرن العشرين، واُعتبرتْ، آنذاك، جديدةً في تقطيعها الشعري، تكاد تشبه، من ناحية كسر التفاعيل/ المقاطع وخلط بحر ببحر مختلف، ما نتج عندنا في النصف الثاني من ذاك القرن تحت تسمية قصيدة النثر العربية.
تتناول القصيدة رحلة بالقطار المعروف "العابر سيبيريا" الذي تم افتتاحه عام 1904، من موسكو إلى فلاديفوستوك قرب سواحل اليابان، يمر بمدن / محطات أسيوية مذكورة في القصيدة. ولا أحد يعرف إذا كان سندرار قد قام بها فعلا أم لا، المهم أنه يعطينا انطباعا بانه قام بها وبرفقة عاهرة اسمها جان وأحيانا يصبح اسمها جيهان دي فرانس لا عباً على اسم جان دارك.
قبل أن أترك القارئ ليتمتع بدفق رحلة النثر هذه، هناك بعض النقاط يجب شرحها: (1) إن الثورة الروسية التي يتحدث عنها الشاعر هي ثورة 1905 وليس ثورة أكتوبر عام 1917. (2) "وردة الرّياح" هي دائرة الرّياح لبيان الجهات الأصلية والفرعية وتنقسم إلى 32 رأسا. (3) " لُعبُ حبلٍ" هي ترجمة لكلمة Bilboquets وهي لعبة تتكون من حبل يُشد في طرفه كرة وفي الطرف الثاني خشبة ذات تجويف والرابح هو من يستطيع اسقاط الكرة في التجويف. (4) "سِيْسَاءُ سِكَّةِ القِطار" La “moëlle chemin-de-fer” مصطلح طبي انجليزي railway spine (تلو رضح العمود الفقري)، وأول من استخدمه هو ماكس نوردو واصفاً به التأثير الضّار للحضارة الحديثة على الجهاز العصبي! (5) "بلاد الألف بُحيرة" هي فنلندة. (6) "غولكوند" المشهورة بكنوزها الأسطورية كانت عاصمة هندستان وحاليا اسمها حيدر آباد. (7) اللون الأصفر إشارة إلى لون اغلفة الروايات التي تميزت بها دار ميركور الفرنسية (8) ميترلينك مسرحي بلجيكي نال جائزة نوبل لعام 1911, (9)& sirène "سيرَيْن" في الأساطير اليونانية القديمة هي حورية، وحاليا تعني صفارة انذار. وبما أنّ البيت في نهاية القصيدة غير واضح وملتبس المعنى إي لا نعرف إذا كان يقصد حورية أم صفارة انذار، فإني فضلت استخدام سيرَيْن لكي يبقى الالتباس كما في الأصل. (10) "باتاغونيا" منطقة طبيعية في جنوب الأرجنتين وشيلي. (11) أما "فئران الفنادق" فهم اللّصوص.
هنا الترجمة الكاملة للقصيدة كما نشرت أولا في "ملحق النهار الثقافي" يوم السبت المصادف& 3كتوبر 2015
نثرُ القطارِ العابر سيبيريا، وجيهان من باريس
كنتُ آنذاك يافعاً
وقد نسيتُ حتّى طفولتي وأنا لم أكد أبلغ السّادسةَ عشرة
&كنت على بعد ستّة عشرة ألفَ فرسخ عن مسقط رأسي
&كنت في موسكو، في مدينة الألف وثلاثة أبراج وسبع محطات
&ولم تكن المحطّات السّبع والألف وثلاثة أبراج كافيةً لي
&إذ كانت مراهقتي جدُّ متوهّجة ومندفعة
بحيث كان قلبي يحترق كمعبد (ارتيميري)
في إفَس أو (يتوهّج) حين تغيب الشّمس
كساحة موسكو الحمراء.
&وكانت عيناي تضيئان المسالك القديمة.
&وكنتُ أصلا شاعراً جد رديء
&إذ لمْ أعرف كيف المضي حتّى النهاية.
كان الكرملين أشبه بكَعكة تَترية هائلة
&مُتلألئة بحلوى الذهب،
&وبِلَوْز الكاتدرائيات البيضاء
&وبصوت الأجراس المعسول الذهبي...
راهبٌ عجوز كان يقرأ عليّ أسطورة نوفغورود
&كان بي عطشٌ
&وكنت أفكّ شفرة الحروف المسمارية
&ثُمَّ، فجأةً، حلّقَ حَمام الرّوح القدس فوق السّاحة
فطارت معها يداي ضاجتين كخَبْطة أجنحةِ طير الباتروس
&وكان كلّ هذا بمثابة آخر ذكريات اليوم الأخير
والرّحلة الأخيرة
&والبحر.
على أنّني كنتُ شاعراً جد رديء.
إذ لمْ أعرف كيف المضي حتى النهاية.
كنتُ جائعاً
كان بودّي أنْ أشرب وأحطّم
كلَّ الأيام وكلَّ النساء في المقاهي وكلّ الكؤوس
بل أنْ أرمي في فرن الخناجر
كلَّ النوافذ وكلَّ الشوارع
&وكلَّ البيوت وكلَّ حياة
وكلَّ عجلات العربات التي تدور كالإعصار فوق أحجار الزلط السيئة
وأنْ أهرس كلَّ العِظام
&وأنْ أقتلع كلّ الألسنة
&وأميّع كلّ هذه الأجسام الضخمة الغريبة
والعارية تحت الملابس التي تذعرني...
كنت أتنبأ بمجيء مسيح الثورة الروسية، العظيم الأحمر...
والشّمسُ كانت جرحاً سيئاً
كان ينفتح كنار متأجّجة.
كنتُ آنذاك يافعاً
وقد نسيتُ حتّى ميلادي وأنا لم أكد أبلغ السّادسةَ عشرة
كنتُ في موسكو، حيث كنتُ أرغب في التغذّي على النّيران
وعيني لا تُكوكِب أبراجاً ومحطّات قطارٍ بما يكفيني
في سيبيريا كانت المدافع تدوّي، فالحرب اندلعَت
&الجوع الطاعون البرد الكوليرا
&ومياه "آمور" الغرينية كانت تجرف ملايين الجثث المتعفّنة.
رأيتُ في كلّ المحطات القطارات الأخيرة تغادر.
ولمْ يعد بإمكانية أحد المغادرة إذ التذاكر قد نفدت
والجنود الذين كانوا على وشك المغادرة أرادوا حقاً أنْ يبقوا
كان هناك راهبٌ مسنٌّ يغنّى لي أسطورة نوفغورود.
أمّا أنا، الشّاعر الرديء الذي كان لا يودّ أنْ يذهب إلى أي مكان،
فكان يمكنني الذهاب أنّى أريد
والتجّار أيضاً كان ما يزال لديهم بعض المال
ليحاولوا جمع وفرٍ من الثروات.
كان قطارُهم ينطلق كلَّ صباح جمعة.
&يقال إنّ هناك الكثير من الموتى.
&أحدهم حملَ مائة صندوق من ساعات التنبيه وساعات الغابة السّوداء الجدارية المُوَقوِقة
وآخرُ، صناديقَ القبعات، مجسّمات اسطوانية ونازعات سدادات الزّجاج المصنوعة في شيفيلد
وآخرُ، توابيتَ صُنِعَت في مالمو مُلئت بمعلبات وساردين بالزّيت
كان هناك كثيرٌ من النّساء
نساءٌ ما بين أفخاذهن هو للإيجار ويمكن استخدامه
توابيت
كنّ جميعاً خاضعات للضريبة
يقال إنّ هناك الكثير من الموتى
سافرن بأسعارٍ مخفّضة
&وكان لهن حسابٌ جارٍ في البنك.
وإذا بدوري يأتي صباحَ جمعةٍ،
كنّا في ديسمبر
فغادرتُ برفقة مُسافر جوهرجي ذاهب إلى خاربين
كان لدينا مقصورتان و34 صندوقاً من مجوهرات فورتسهايم
بضاعة رديئة "صُنِعت في ألمانيا"
ألبسني بَدلةً جديدة، وعند الصّعود في القطار فقدتُ زراً
- أذكره، أتذكّره، أفكّر فيه إلى اليوم-
نمتُ على الصناديق وكنتُ جد سعيد باللعب مع المسدس المطلي بالنيكل الذي أعطاني إياه
كنتُ طائشاً جد سعيد
&ظنَنتُ أننا نلعب دورَ قطّاع طرق
وقد سرقْنا كنزَ مدينة غولكوند
وكنّا ذاهبون، بفضل قطار عابر سيبيريا، لإخفائه في الجانب الآخر من العالم
&وكان عليّ أنْ أصونَهُ من لصوص جبال الأورال الذين كانوا قد هاجموا بهلوانيي جول فيرن
ومن اللّصوص المغول، ومن ملاكمي الصّين
&ومن صغار مسعوري لاما الكبير التبتيين،
ومن علي بابا والأربعين حرامي
&ومن أتباع شيخ الجبل الرهيب (حسن الصَّباح)
&وبالأخص من آخر مستجدات العصر
فئران الفنادق
&واخصّائي القطار الدولي السّريع.
ومع ذلك
كنتُ حزيناً كطفل.
&إيقاعات القطار
"سِيْسَاءُ سِكَّةِ القِطار" الذي تكلم عنه نفسانيون أميركيون
ضجيجُ الأبواب، الأصواتُ، مَحاورُ العجلات الصّارة على القضبان المجمّدة
قرشُ مصيري الذهبي
مسدّسي والبيانو وشتائمُ لاعبي القمار في المقصورة المجاورة
حضور جين الرّائع
&الرّجلُ ذو العوينات الزّرق الذي يمشي بعصبيّةٍ في الرّواق وهو ينظر فيّ بشكل عابر
حفيفُ النّساء
&صفيرُ البُخار
&وديمومةُ ضجيج عجلات هائجة في أخاديد السّماء
النّوافذُ متجمّدة
ما من منظر للطبيعة!
والسَّماء منخفضة ما وراء سهول سيبيريا، تصعد وتهبط ظلال غاباتها الصموتة
تدثرّتُ ببطانيةٍ
مُبرقشة
&كحياتي
&وحياتي لا تدفّئني أكثرَ مِن هذا الشَّال السّكوتلندي
وأوروبا كلُّها التي نلمحها من خلال واقية قطارٍ سريع، من الريح
&ليست أثرى من حياتي
&حياتي التعيسة
&هذا الشّال
&المنسوج من الحرير على صناديق مليئة بالذهب
&أُسافرُ معها
&إنْ أحلم
&إنْ أُدخّن
&فإنّ شُعلة الكون الوحيدة
لهي فكرةٌ بائسة...
وأَوانَ أفكّر في حبيبتي؛
يذوب قلبي دمعاً عليها
فهي ليست سوى طفلة، وجدتُها هكذا
في ماخور، شاحبة، بلا دنس.
فهي ليست سوى طفلة، شقراء، ضحوكة وحزينة،
لا تبتسم أبداً ولا تبكي أبداً؛
لكن في أعماق عينيها، حين تتركك أنْ تشرب منها
ثمَّ زنبقة فضية رقيقة ترتعش، زهرة الشّاعر.
إنّها رقيقة وصامتة، لا مأخَذ عليها،
&مع رعشةٍ طويلة عند اقترابك منها.
&لكن حين أجيئُها أنا من هنا، من هناك، بابتهاج
فإنّها تخطو خطوةً، ثم تغلق عينيها &- وتخطو خطوة.
&فهي حبّي، وليس للنساء الأخريات
سوى فساتين ذهبية على أجساد ضخمة ملتهبة،
صديقتي التعيسة جدُّ وحيدة
جدُّ عارية، ليس لها جسد &- إنها فقيرة جداً.
فهي ليست سوى زهرةٍ بريئة ممشوقة،
&زهرةِ الشّاعر، زنبقة فضية بائسة،
&جدُّ بردانة، جدُّ وحيدة، وذابلة أصلاً
بحيث تنفجر دموعي حين أفكّر بقلبها.
وهذه الليلة كمئات آلاف الليالي الأخرى حين ينسل قطارٌ في اللّيل
- الشُّهب تتساقط -
والرّجل والمرأة، حتّى في ريعان شبابهما، يتضاجعان مُتعةً.
السّماء كأنّها خيمة ممزّقة لسيركٍ بائس في قرية صيادي الأسماك الصّغيرة
&في فنلندة
&الشّمس مِسرجة داخنةٌ
&وفي الجُزء العلوي من أرجوحةٍ، تلعبُ امرأةٌ دورَ القمر.
&مزمارٌ، شياعٌ، نايٌّ عالي النغمة وطبلة سيئة
هذا هو مَهْدي
&مَهْدي الذي نشأتُ فيه
&كان دائماً بالقرب من البيانو حين تعزف أُمّي كمدام بوفاري سوناتات بيتهوفن
&قضيتُ طفولتي في حدائق بابل المعلّقة
&وأوقاتُ هروبي من المدرسة، أمضيتها في المحطّات أمام القطارات المغادرة
أمّا الآن، فإني خلّفتُ جميعَ القطارات تركض ورائي
&بازل، تمبكتو
&كما لعبتُ في (أهم ميداني) لسباق الخيل: أُوتَيْ ولونغ شان
&باريس - نيويورك
&الآن، تركتُ جميعَ القطارات تركض طوال حياتي
&مدريد - ستوكهولم
&وفقدتُ كلَّ رهاناتي
لمْ يبقَ سوى باتاغونيا، باتاغونيا، لتناسب حزني الهائل، باتاغونيا، ورحلة إلى البحار الجَنوبية
&أنا راحلٌ
&كنتُ دائمَ الترحال
أنا راحلٌ برفقة صغيرتي جيهان دو فرانس&
يقوم القطار بقفزة خطرة ثم يحطّ على كلّ عجلاته
&القطار يحطّ على عجلاته
&القطار يحطّ دوما على كلّ عجلاته.
"قل لي، بْلَز، أنحن بعيدون عن مونمارتر"؟
نحن بعيدون، جين، القطار يسير بك منذ أسبوع
&إنك بعيدة عن مونمارتر، عن التلّة التي غذّتك، وعن كنيسة "القلب الأقدس" التي احتميتِ بها
&باريس اختفَت ولهبتها الهائلة
لمْ يعد ثمّة شيء سوى الرّماد الأزلي
المطر المتساقط
&غُثاءُ السيل، هذه العَشيبة المتضخّمة بجذورها الملبّدة
&سيبيريا التي تدور
الطبقات الثلجية الثقيلة التي ترتفع ثانيةً
&وجلجلُ الجنون المجلجل كآخر رغبةٍ في الجو الآخذ بالزّرقة
&القطارُ ينبض في قلب الآفاق المُرصَّصة
&وحزنكِ الذي يَهزَقُ بالضحك ...
"قل لي، بْلَز، أنحن بعيدون عن مونمارتر؟"
الهُموم
&انسي الهموم
&جميعُ المحطات المتصدّعة المنحرفة طوال الطريق
&أسلاكُ التلغراف التي تتدلّى منها
&الأعمدةُ المقطّبة التي تومئ وتشنق المحطّات
العالم يتمطّى يتمدّد وينسحب مثل أكورديون تعذبه يدٌ سادية
وفي تشقّقات السَّماء قطاراتٌ هائجة
تعدو بشكلٍ جنوني
وفي الثقوب،
&العجلاتُ المذهلة الأفواهُ الأصواتُ
&وكلابُ الشّقاء التي تنبح وراءنا.
&الشّياطين أُطلِقَ سراحُهم
نفاياتُ حدائدَ
&كلُّ شيء في حالة نشاز
&طقـ طقـ طقـ طقــة العجلات
&قعقعات اصطدام
&ارتدادات
إنّنا عاصفةٌ في رأس رجلٍ اصمّ...
"قل لي، بْلَز، أنحن بعيدون عن مونمارتر؟"
نعم، إنّك تزعجينني، وتعرفين جيدا أنّنا جد بعيدون
الجنون المفرط الحرارة يعجّ في القاطرة
الطاعون الكوليرا يرتفعان كجمرٍ متّقد في طريقنا
&نختفي كلّياً بالحرب في قلب نفقٍ
&الجوع، العاهر، يتمسّك بالغيوم المبدّدة
مُتغوّطاً معاركَ بأكوام نتنة من الموتى
افعلي مثله، مارسي مهنتلكِ...
"قل لي، بْلَز، أنحن بعيدون عن مونمارتر؟"
نعم، نحن بعيدون، بعيدون
اكباش الفِداء قد ماتت جميعاً في هذه الصحراء
اسمعي رنينَ جلاجل هذا القطيع الأجرب تومسك،
تشيليابنسك، كويبشيف، تايشت، فيرخنه اودينسك، كثبان، سمارا، لا تنسي طولون
الموتُ في منشوريا
هو رصيفُ نزولنا مأوانا الأخير
هذه الرّحلة رهيبة
صباح أمس
كان لايفان ايليتش شَعرٌ أبيض
وكوليا نيكولاي ايفانوفيتش يعضُّ أصابعه منذ أسبوعين ...
اعملي ما تعمله المنيّة المجاعة مارسي مهنتكِ
بمئة فلس، في القطار العابر سيبيريا، بمائة روبل
فلتكن المقاعد في حمّى وليشتدّ ما تحت الطاولة احمراراً
&فالشيطان يعزف على البيانو
أصابعه المجعّدة تثير كلّ النّساء
الطبيعة
الرّخيصات
مارسي مهنَتكِ
إلى أنْ نصل "خاربين"...
"قل لي، بْلَز، أنحن بعيدون عن مونمارتر؟"
خلاص!... حلّي عني... دعيني وشأني
أوراكك ناتئة
معدتك حامضة ولديك الزّهري
&هذا كلُّ ما وضعته باريس في كنفكِ
وشيءٌ من الرّوح ... لأنك شقية
&آسف... تعالَي صوبي على قلبي
&العجلات طواحين هواء من بلاد الكوكان
&وطواحين الهواء عكازات يجول بها متسوّل
نحن كسيحو الفضاء
&ندور على جراحنا الأربعة
&قَصّوا أجنحتنا
&أجنحة خطايانا السَّبع
&والقطارات كلُّها لُعبُ حبلٍ بيد الشيطان
&العالم الحديث
فِناءُ دواجن
ليس بوسع السُّرعة أنْ تفعل شيئاً
العالم الحديث
المنتأى جد بعيد
وأنْ تكون رجلاً مع امرأة في نهاية الرحلة لهو أمرٌ فظيع...
"بْلَز، قل، أنحن بعيدون عن مونمارتر؟"
آسف أشفقُ عليك تعالَي قربي لأروي لك قصة
&تعالَي في سريري
&تعالَي على قلبي
&سأروي لك قصّة ...
هيا تعالَي!
في جزر الفيجي يسود الرّبيع الأبدي
الكسل
الحبُّ يغمي الأزواج في الحشائش العالية والزهري الشّديد يتربص تحت أشجار الموز
&تعالَي إلى جزر المحيط الهادئ المفقودة!
&فأسماؤها: عنقاء، ماركيز
&بورنيو، جاوا
&وسيليبس على شكل قطة.
لا يمكننا الذهاب إلى اليابان
&تعالي نذهب إلى المكسيك!
&فعلى هضابها المرتفعة تزدهر أشجارُ الخزامى
وشَعر الشَّمس الطويل هو العريش المتسلّق المَلمسي
كأنّما طبق ألوان الرسام وفرشاته
ألوان مذهلة كما الصنوج،
روسو كان فيها
لقد بَهرَت حياتَه
&إنّها بلدُ الطيور
&طير الجنة، الطير القيثارة
&طائر الطوقان، الطير السّاخر
&والطير الطنّان الذي يعشّش في قلب الزّنبق الأسود
&تعالَي!
&سنتعاشق في أنقاض معبد الأزتيك المَهيبة&
&ستكونين أنتِ معبودتي
&معبودة صبيانيٌّة مبرقشة قبيحة بعضَ الشيء وغريبة بنحوٍ غريب
&هيا!
وإذا رغبتِ، نذهب بالطائرة، ونحلّق فوق بلاد الألف بُحيرة،
اللّيالي فيها طويلةٌ بشكلٍ غير معقول
السّلفُ القديم سيرتعد من محرّكي
&سأهبطُ
&وأبني سقيفةً لطائرتي بعظام الماموت المتحجّرة
&وستدفّئ النّارُ البدائية حُبّنا المسكين
السَمَاور
&وسنتعاشَق بكل برجوازيّة قربَ القطب
&هيّا!
جِين جانيت
نينَت نينو
جنّيّة، عَنزتي
صَبيتي دودو جيهان
حَبّوبتي
مَهبِل هَبُول هَبَل
إنّها نائمة
نائمة
&ولمْ تَفطن لساعة واحدةٍ من كلّ ساعات العالم
&ولا لكلّ الوجوه التي لُمِحَت في المحطات
&أو للسّاعاتِ الجدارية
&أو لوقتِ باريس وقتِ برلين وقتِ سانت بطرسبرغ ووقتِ جميع المحطات
&وفي مدينة أوفا، وجهِ المَدفَعي المدمّى
&ومزولةِ غرودنو المضاءة بكل غباوة
والتقدّمِ الدائم للقطار
مع أنَّ السّاعات كانت تُضبّط كلَّ صباحٍ
القطار يتقدّم والشّمس تتأخّر
بلا جدوى،
أسمعُ الأجراس الرّنانة
&ناقوس نوتردام الكبير
&جرس اللوفر الخشن الذي راح يدقّ بذكرى مذبحة البروتستانت
الدقّات الصدئة لرواية بروجس &- الموت
أجراس مكتبة نيويورك الكهربائية
أجراس البندقية
&وأجراس موسكو، ساعة الباب الأحمر التي كانت تُعلمُني بالوقت وأنا في مكتبٍ
&وذكرياتي
&القطار يدوّي في مفارق الطرق
&القطار يجري دون أنْ يلوي على شيء
&الحاكي يلثغ بلحن سَيْرٍ غجري
&والعالم، كساعة حائط الحي اليهودي في براغ، يدور بجنون إلى الوراء.
ورّقي وَردةَ الرّياح
إذ أخذتِ الأعاصيرُ الهائجة تُدمْدم
والقطارات تجري بسرعة الريح على سكك شبكات متشابكة
&لُعبُ حبلٍ شيطانيّة
بعضُ القطارات لا تتلاقى أبداً
والبعضُ الآخر يضيع في الطريق
فأسيادُ المحطة بالُهم في لُعبة الشطرنج
النّرد
البلياردو
الكارامبولا
البارابولا
الخطّ الحديدي هندسةٌ جديدة
&سَرْقوسة
&أرخميدس
&والجنود الذين ذبحوه
&القوادس الحربية ذات المجاديف
&والبوارج
&والآلات المذهلة التي اخترَعها
&وكلّ مذابح
&التاريخ القديم
&التاريخ الحديث
&الزوابع
&الغرقى
&حتّى التيتانيك التي قرأتُ عنها في الجريدة
&عديدٌ من الصُّور والتداعيات التي لا أتمكّن من تطويرها في أشعاري
&لأنني ما أزال شاعراً جد رديء
&لأنَّ الكونَ يغمرُني
&لأنني تقاعستُ عن تأمين نفسي ضد حوادث السّكك الحديديّة
&لأنني لا أعرف المضي حتّى النّهاية
&وأشعرُ بالخوف.
خائفٌ
لا أعرف المضي حتّى النّهاية.
كان بوسعي أنْ أرسم لوحات جنونية مثل صديقي شاغال
&لكنني لم أدوّن ملاحظات أثناء الرّحلة
"اعذروني على عدم درايتي
"اعذروني لأنّي لم أعد أعرف أصول لعبة النَّظْم القديمة"
على حد تعبير غييوم أبولينير
&فكلّ ما لهُ علاقة بالحرب يمكن الاطلاع عليه في مذكرات (الجنرال) كوروباتكين
&أو في الصّحف اليابانية فهي أيضاً موثّقة بشكلٍ فظيع
ما نفعُ أنْ أوثّق نفسي
&وأنا أستسلم
&لوثبات ذاكرتي ...
اعتباراً من ايركوتسك أصبحتِ الرّحلة جد بطيئة
&وطويلةً جداً
&كنّا في القطار الأول الذي يلتف حول بُحيرة بايكال
&وقد زيّنوا القاطرة بالأعلام والمصابيح
&وتركنا المحطة على نبراتٍ حزينة من ترتيلة للقيصر.
&لو كنت رساماً لأسلت كثيراً من الأحمر، الكثيرَ من الأصفر على نهاية هذه الرحلة
&إذ أعتقد أنّنا جميعنا كنّا حمقى بعض الشيء
&وقد أشاع هذيانٌ هائلٌ الدم في وجوهِ رفاق السّفر الغاضبة.
&وحين كنّا نقترب من منغوليا
التي كانت تزمزم كالحريق
أخذ القطار يخفّف من سرعته
&وفي غمرة صريرِ العَجلات الدائم صافحَ سمعي
نشيجُ قدّاس أزلي بنبرته المهتاجة.
لقد رأيتُ
رأيتُ القطارات الصّامتة القطارات السّوداء العائدة من الشرق الأقصى والتي تمرق كالأشباح
وعيني، كالمصباح الخلفي، لا تزال تركضُ وراء هذه القطارات
وفي تايغا كان هناك مئة ألف جريح يحتضرون لعدم توافر العناية
زرتُ مستشفيات مدينة كراسنويارسك
وفي خَيلوك التقينا بقافلةٍ طويلة من جنود أصيبوا بالجنون
رأيتُ في المحاجر الصحّيّة، جروحاً واسعة، جروحاً كانت تنزف حتّى العظم
والأطراف المبتورة كانت تتراقص أو تتطاير في جو الصّراخ المنفِّر
كان أثر الحريق على كلّ الوجوه، وفي كلّ القلوب
&أصابع بلهاء كانت تنقر على كلّ النوافذ
وتحت ضغط الخوف، كانت النظرات تنفقع كالدمامل
وفي المحطّات، تمّ حرقُ العربات كلّها&
فرأيتُ
رأيتُ قطارات لها ستون قاطرة قد أَطلَقَت سيقانها للبخار تطاردها الآفاق المتهيجة جنسياً واسرابٌ من الغربان كانت تحلّقُ بكلّ يأسٍ إثرها
تختفي
في اتجاه ميناء آرثر.
في واحة تشيتا كان لدينا بضعةُ أيّام من الرّاحة
&توقفٌ لخمسة أيام حسبَ ما يشترطه ازدحامُ الطريق
&أمضيناها عند السيد لانكليفيتش الذي كان يودّ أنْ اتزوّج بنته الوحيدة.
ثم انطلق القطارُ ثانيةً.
&هذه المرّة أنا الذي وراء البيانو، كنتُ أشعر بألم حاد في أسناني.
أرى ثانيةً حين أرغب، ذلك الهدوء الداخلي، متّجر الوالد، وعيون الفتاة التي جاءت إلى فراشي مساءً
موسورغسكي
وأغنيةَ الموسيقار هوغو وولف
&ورمالَ صحراء غوبي
&وفي قرية خَيلار، قافلةً من الأبل الأبيض
يقين أنّني كنتُ في حالة سكر طوال 500 كيلو متر
&لكنني كنتُ أعزف على البيانو وهذا ما استطعتُ رؤيته
&عندما تسافر عليك أنْ تغمض عينيك
&أنْ تنام
&أه لكم وددتُ أنْ أنام
&فإنني أتعرّف على جميع البلدان بعيون مغلقة عن طريق رائحتها
&وعلى جميع القطارات من خلال ضوضائها
&القطارات الأوروبية لها أربع نوبات في حين الأسيوية خمس إلى سبع نوبات
&والقطارات الأخرى تتهادى خفيةً إنّها تهويدات
&وثَمَّ قطارات تذكّرني من خلال ضجيج عجلاتها الرّتيب بنثر ميترلينك المُمل
حلّيتُ رموز نصوص العجلات المبهمة وجمّعت بعض ما تناثر من جمالٍ عنيف
&أملكُه
&ويحثّني.
تستزيكا وخاربين
لن أذهب إلى أبعد من ذلك
&هذه آخر محطة
نزلت في خاربين لحظة اضرام النّار في مكاتب الصليب الأحمر.
آه يا باريس
بيتاً كبيراً مُدفّئاً بالجمرات المتشابكة لشوارعك
ومنازلك القديمة المنحنية منها وتتدفّأ
كما الجَدّات
والملصقات، أحمر أخضر متعددة الألوان مثل ماضيي، باختصار أصفر
الأصفر لونُ الرّوايات لون فخر فرنسا في الخارج.
&في المدن الكبيرة أُحبُّ أنْ احتكَّ بالحافلات وهي تسير
خصوصاً حافلات خط سان جيرمان مونمارتر التي تحملني إلى اقتحام التلّة
&المحركات تخور كالثيران الذهبية
&أبقارُ الغَسق تأكلُ كنيسةَ القلب الأقدس
آه باريس
يا محطةً مركزيةً رصيفَ تنزيل الإرادات ومفترقَ طرقِ المخاوف
فقط محلات الخُردَوات لا يزال على أبوابها قليلٌ من الضوء
&بَعثَتْ إلي شركةُ عربات النّوم والاكسبريس الأوروبية نشراتها الدعائيّة
أنت أجملُ كنائس العالم
&لدي أصدقاء يحيطونني كأنّهم حواجز
&خوفَ أنْ أغادر ولن أعود أبداً
&سائرُ النّساء اللواتي التقيت بهن ينتصبن في الآفاق
&بإشاراتهن الكئيبة ونظراتهن الحزينة كأعمدة الإشارة تحت المطر
&بيلا، أنياس، كاثرين ووالدة ابني في إيطاليا
&والتي في أميركا، والدة حبيبتي
صراخ سيرَيْن ثمَّة يمزّق روحي
فهناك في منشوريا بطنٌ ما يزال يرتجف كما في حالة نِفاس
أودّ
آه كم أودّ لو أنّي لم أقم برحلات
ثمَّ حبٌ كبيرٌ يعذّبني هذا المساء
أفكّرُ رغماً عنّي في الصغيرة جيهان دو فرانس.
&ففي مساء حزين كَتبتُ هذه القصيدة اكراماً لها.
جين
&العُهَيْرة
&أنا مُكتئب... أنا محزون
&سأذهب إلى (كاباريه) "الأرنب الحَرِك" لأستعيد ذكريات شبابي الضائع
&وأحتسي بضعة كؤوس
وبعدها سأعود وحيداً
باريس
مدينةُ البُرجِ الفريد، المشنقةِ الكبيرة والدولاب الشّهير.
&باريس 1913