ثقافات

جديد إيمان محمد: "غرفة مواربة" الروح تعزف سيمفونيتها

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


تكتب الشاعرة الإماراتية إيمان محمد بفيض من الصفاء الروحي فضاءات عالمها وما تتعلق به وتشتبك معه من حيوات محفوفة بمخاطر الحوار والسؤال والشك، وذلك في حضور جسد نافذ الحواس في كل ما يحيط به ويتسلل إليه من هذه الحيوات، ليجتمع الظاهر الحسي والباطن الروحاني مشكلين رؤية شعرية نابضة بالحياة، وهي تعمل ذلك دون أن تفقد خصوصية القصيدة النثرية من تلقائية وبساطة لغوية وقدرة على صهر مختلف الفنون وتوظيف كافة المفردات، تجلى ذلك في ديوانها الأولى "إن غابت السدرة وإن ابتعد البحر" وإن غلب الظاهر الحسي بعنفوان قلقه وتوتره وتساؤلاته، بأزمنته وأمكنته، بشخوصه القريبة والبعيدة، بمعارك الذات مع ذوات الماضي والحاضر، لكن ظل الباطن يرفرف أحيانا ويستقر أحيانا أخرى داخل النصوص، وربما جاء اختيارها لقصيدة& "سماء صغيرة" لتكون الأولى يؤشر إلى قربها وميلها في معالجة رؤاها للباطن الروحاني، في هذا النص اشتبك الظاهر والباطن من خلال صورة بالغة الشفافية، التقطتها الشاعرة ورسمتها باقتدار، بالون زرقاء تائهة بعد انفلاتها ربما من يد طفل، ربما هذا الطفل يقبع خلف السور يبكي ضياع سمائه / بالونته، بينما هي تبحث عن فتحة في السور لتعود:
بالونة زرقاء على الرصيف يداعبها نسيم
الصيف.. تتقافز وحيدة قرب سور مركز
التعليم الخاص.. لا طفل يلهو بها ولا الريح
ترفعها إلى عنان السماء.. هل هناك طفل
خلف السور يبكي لأنه أضاع بالونة سمائه؟
يا للسماء التي تتخلى عنك لتقبع خلف الأسوار باكيا.
بالونة زرقاء على الرصيف اللاهب خارج السور العالي
تتقافز كأنها تريد العودة إلى الداخل
قطعة من السماء تريد العودة وراء السور بعيدا عن العالم
&منفصلة عنه، وقريبا من أصابع طفل فِرح يداعب خيطها؛ خطواته المرحة وهو يجري خلفها... ذراعاه الغضتان
ممدودتان إليها كلما علت فوق رأسه.. ممدودتان إلى سماء صغيرة يقبض عليها وحده بأصابعه ويبقيها قربه دوما
يضحك قلبه كلما قذفها في الهواء وكلما عادت إليه خفيفة مبهجة.. لتتبع ظله.
بالونة زرقاء ضلت طريقها وسط صخب المدينة... تتقافز على الأسفلت اللاهب
كأنها تبحث عن فجوة في السور، لتعود إلى براءة أضاعتها أو ضّيعتها.
وفي ديوانها الجديد "غرفة مواربة" يصفو النص ويشف عن تجليات الروح المنجلية بفعل الحب، ليتوارى الظاهر الحسي تحت سطوة الباطن الروحاني ـ بعكس الديوان الأول ـ لكن دون أن يسمح هذا الظاهر للباطن المشتعل بالانفراد كاملا بالروح أو بالجسد، فنرى تجاذبات الحب صعوده الضاري وسقوطه الحارق. وهنا لا تسرف الشاعرة في تشكيل رؤاها التي هي أقرب ما تكون من الأجواء الصوفية، هناك عشق وشوق ووجد ومناجاة، هناك حالة ذكر، هناك سير وعر، هناك انفلات يطوح الروح والجسد معا. لتتمازج الألفاظ الصوفية الباطنيةالرائقة مع الألفاظ الحسية الحارقة، نعم هناك حضرة تتوسطها راقصة هائمة تتقلب أنوثتها بين رحى ألواحها المشتعلة، تكتب ما يتدفق على القلب من لغة وصور ومعاني وتجليات، تكتب ببساطة العارف بضعفه أمام تناقضات العالم دون افتعال أو انفعال أو تكلف، لذا فإن التفاعل مع نصوصها يقود إلى حالة من الوجد، تقول في قصيدة "ليس لي سواك":
عني لا تتوارى
صفوٌ يغمرني
هوى يسيرني إليك..
إني طليقة!
... باب وجدك يطلبني
أطلبه!
عيناك ما أبحث عنه
وعني..
ليس لي سواك
أبعثر أمامه خزائن فارغة
وسيرة كاملة
من خوف وضعف وتردد وسؤال
... وحماقات صغيرة
منسية ومشتعلة...
وتقول في قصيدة "وجد":
مهتاجًا أيها الوجد بداخلي
تبحث عن مخرج؟
والنوافذ الموصدة
هل تنتظرني تحت إحداها؟
مهتاجا أيها الوجد...
وأنا مثلك
أداري شيئا من عتيق القلق
وشيء مبهم يطرز الأفق...
ربما طير يسقط
أو ربما حجر يتعثر
ويتقهقر عن مساراتي...
مهتاجا أيها الوجد
والظهيرة وحدها تنحسر
عن أفكاري..
وتبقى وحدك
ثورة مكبوتة في دمي..
تملك الشاعرة حسا عاليا بقيمة اللغة وقدرتها على أن تكون حاملا لمفاتيح أسرار الحياة ومشكّلا فنيا وجماليا للمسكوت عنه والمهمش من أوجاع وأحلام وتساؤلات حائرة، لذا استخدمت قاموسا بسيطا وتلقائيا وطيعا، قاموسا ليس بعيدا عن الحياة، حياة الروح والجسد، واستبعدت الألفاظ الخشنة والوعرة التي من شأنها أن توحي بالانفعال أو التكلف، وذهبت إلى أن تشكل بنية شعرية على نفس النهج خالية من أي تعقيد أو فذلكة، جملتها واضحة لكنها متعددة الدلالة، جملة تبني مع ما بعدها نصا مدهشا لعالم يتسع فضاءه لمختلف التأويلات.
وكذلك يمكن القول مع تشكيل الصورة وبنية الرؤية الكلية للنص، هناك حواس يقظة تلتقط الصور دون أن تغفل المرور العابر لمفردات الطبيعة والمادة المشاركة في التأثير على الروح والجسد والمنعكسة على وجودهما، تقول في قصيدة "المعلق في الهواء":
أرنو إلى بيتي
من هنا...
أراه معلقا بين السماء والأرض
نافذته على البحر...
مقعد ملون في الشرفة
مكتبة بارتفاع الجدار... وكمان ينام في الزاوية
وسرير يسع كل أحلامي
في غرفة مواربة...
أنا أيضا أقف على غيمة
معلقة بين السماء والأرض
أطلّ عليّ
وألون أيامي القادمة
بلون عينيك
وأملأ بيتي على سماوات وسماوات
بحكايا لم أروها بعد
تقودني الموسيقى وبخور المعابد
وأنا أقلم شجيرات مباركة في الزوايا...
بيتي المعلق في الهواء
يرنو إليّ...
أراه من هنا بين السماء والأرض
يرقبني وحدي
في المقهى المجاور
أقرأ وجوه المارة
ولا أكتبي شيئا عن أحلامي
المعلقة...
إن اتساع الحركة هنا وحيويتها والحياة الممنوحة للبيت والمقعد والشرفة والكمان والسرير وغيره، جعلت النص أشبه بسيمفونية استطاعت الشاعرة توظيف كل العناصر كمايسترو، فتدفق التشكيل خلقا صورة مدهشة لعلاقة الداخل بالخارج. وفي مختلف نصوص هذا الديون تمكنت الشاعرة من تحقيق هذا الزخم المتوهج دراميا. ولنقرأ أيضا قصيدة "قل لي تعالي" حيث تنسج معزوفة وجودها كله بمشاركة الآخر الحب والروح والسماء والمطر والريح والنجوم واللذة والجسد، وتعزفها بليونة راقصة هائمة:
قل لي تعالي..
وشد علي سماءك القرمزية
لا تقدم لي كأسا
ولا تقل لي شعرا
ولا تنسج لي أحلاما
ولا تنتظر...
رجفة حنيني
فقط قل لي تعالي ..
قبل أن يذهب الصيف في غمامه
وتذبيل أمنيات مؤجلة...
افتح عينيك على عينايّ
اتبع بريقا خفيا في الروح
واستمع إلى خفق حمام
وجداول صغيرة تتدفق من اللامكان
مطر يهمي في غير أوقاته...
وذلك الطريق العمودي الذي ينفتح... إليك
قل لي تعالي...
قبل أن تهب ريح القيامة
وتسقط نجوما تلألأت عند النوافذ طويلا
فلم تنر دربا
ولا قلبا أشعلت...
قل لي تعالي...
وأذن عاليا
وأقم صلاة اللذة على الجسد المعتق...
أطل السجود ...
ليخشع قلبي
ويرتوي...
قل لي تعالي...
هناك إدراك بتحرر الروح وانفلاتها من أسر الزمن والمكان، وأن هذه الروح لها علاقاتها الخاصة بالوجود والخلق، وهي منطلقة غير آبهة بشيء غير ما تحلم بخلقه ليكون لها.
إن قصائد هذا الديوان الذي صدر أخيرا عن دار "أثر" السعودية بغلاف حمل لوحة للفنانة التشكيلية نجاة مكي، على الرغم من عددها البسيط، حيث لم تتجاوز 14 قصيدة، ولا يتراوح عدد صفحات أي منها الصفحتان ونصف الصفحة، إلا أن جميعها مدهشة وتشكل إضافة ثرية لتجربة إيمان محمد الشعرية.
&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف