ثقافات

الحشر: شذرات الحزن الأخير

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


1
هناك في قبو الأرض حيث اجتمعت الأرواح الناضجة، بعدما تخلصت من قشور الحياة المعلقة على أغصان أشجار السهوب والصحاري، بين خيوط ضوء الشمال والجنوب، حيث مشى الإنسان وحيدا من هناك نحو المنخفضات، حاملا على ظهره أكياس الملح وفي قلبه الخوف وفي عقله الإيمان.
يستريح فقط تحت أشجار شائكة وسط غابة الصبار قليلة الظل، بعد كل لحظة ولحظة، تتناثر أشواكها، لتنساب على أذنيه وأنفه، فتصيب لسانه، إلى أن يعجز عن الصياح·
فتظهر له الأشياء أمام عينيه متشابهة، إلى درجة أن العالم صار له سطح رخو مقبل على فقدان أشيائه التي يتشكّل منها، ويعود ظاهر الماضي شبحا يسكن مستقبله، يطارد أحلامه وآماله. فهو يسكن كل فوهة التي يبصر منها نفسه، ليدرك أن طريقه طويلة طول مسافات النجوم التي يهتدي بها ليلا، متشبثا ببريقها حتى يقفز إلى ما وراء حجاب الليل بمخلوقاته العمياء·

2
يستيقظ والليل ينجلي خائفا من سواده، هاربا من النور، نور النهار· النور هو ظلام الليل وظلام الليل هو ظلام النهار، صراع زمني خاضته الشمس قبل الظهور على أبنائها المشردين من حولها· الكل يتغيّر بتغيّر مواقعه، فيتغيّر المكان وتتعرج طريقه بين التلال، وبين مقابر شعوب الجليد وعظام أقزام أدغال إفريقيا وقبائل غانا. فيضع أكياس ملحه على طين ضفاف النهر، ليحمل صولجان ملك عقيم، ثم ينحني بين قدمين سوداويتين تحملان أثار حضارات الأجداد، و وشم عفريت نازل سليمان تحت ماء مآرب، فينهمر المطر ويبدأ في جمع عظام الغابة، عظام كلها جوفاء سكنتها مخلوقات الموت وأرواح غريزني وشباب قبائل روندا، فيهّم على صدره متدحرجا على جماجم صلبة مليئة بمعادن الرصاص، بعضها عملت في مصانعها قبل أن تفقد بطاقات هويتها، ويستمر النزال بين جيوش الجن ورؤساء عصابات بحر الشمال، وصناع قرار بشر الجنوب·
تتشكّل العظام بجماجمها في هياكلها القديمة، في سلاسل الحشر الأبدية وهي تمتص بياض الأرض من أرض الوهم والخيال، القدم بالقدم والذراع بالذراع والرأس خلف الرأس، وجوف العيون يمتد عبرها لهيب النار، إلى أن يلامس آخر وتد الحياة، يقوم ثم يغمى عليه·

3
فيتضاعف عليه الإغماء، منحدرا في بئر الظلام حتى يلامس صلب السواد، وهو يتخبط وسط حشرات الكهوف، بين جنبات صخور النفس، كل شيء عاد يطارده بلا توقف ولا رحمة هاربا من الموت، فيلاقيه صناع الموت. من الموت إلى أصل الموت، لحظة طرف عين قاصرة، وهو ينصت لحديث حشرات الظلام وهي تتقاسم تركة الأرض. حديث يدور بين ديدان القلب و صراصير الأذن، حول تقسيم إرث الأحياء، إرث خراب الحضارات وصناديق رمسيس الشرق، وخواتم قاصرات دلفي·
لتشترط ديدان أخذ علوم أولمب، وصراصير حروف هجاء الغانج ومستنقعات ظل التبت، لتتركا لصحاري الوسط صقيع الشتاء وعرق الصيف، تنمو على حبيبات رمالها أشجار السلاح، أزهارها تبعث برائحة البارود على شواطئ البحر الأحمر، وبذورها من رصاص، تزرع في سهول النيل ومرتفعات الأطلس إلى نهر السنغال، غابات تمد سكان الأرض الظل والعمر وعادات الإبل·

4
ويستمر متدحرجا على صدره بين شقوق صخور الكهف، إلى أن يطّلع على خفافيش الإنسان البيضاء، وهي تتوجس نبض الحياة، الحياة الراكدة بين طبقات الأرض والهواء الذي يسري في عروق السماء، فيتدفق وراء الشمس في رداء أسود اللون بدون رائحة، يلمع بدرر النجوم ، فتندثر النجوم في صحن المدينة، ويبقى الظلام وحده ، فوقه ظلام، فوقه جفن الظلام،وفوقه عويل النساء وهن معلقات على يسار التراب. وبعد غروب الشمس وطلوع نور أفق الليل يزداد عويل الأجساد، وهي تنسل منها عروق عضلات الفخذ واللسان، فتتناثر كماء حبر على قماش تاريخ الأعشاب، وتسحب على صخور الجمر، تتهشم كخبز جاف على جدار حضائر الثديات، فيستنطقها كبير الخفافيش عن سر الإنسان، وعن حق شعب في الحياة، وعن أسماء رؤساء أشقياء، وعن قائمة تجار الألم، وعن مروجي الجهل ونسيان مواقيت الحق، فيزدادون صراخا وصراخا حتى يتبخر الماء من جلودهم المطاطية، يعصرونه من مناخرهم الجافة، وهم يرددون كل ما نعرفه قد نسيناه، أنسانا إياه عبث النساء، وكؤوس المؤتمرات ونبيذ المؤامرات، اغفر لنا وأعفو عن ما سلكناه، فهي إلا غفلة من ماضي سحيق، ونحن الآن نرقد تحت رماد حوافر الخيول، وتحت مطر لعاب الكلاب، فلن نقوم مرة أخرى مقام بدء الحياة، العفو فقط يا سيد الضباب·

5
فيزجر زجرة خفيفة تفجر طبول آذانهم الصماء، حتى يسيل منها حمم الشر الدفين منذ عهد ما قبل الميلاد، وهو ينادي جميع جيوش العذاب، على أن يعطوا الكل ذي حق حقه، قبل أن يصيروا حشرات تحوم فوق مستنقعات راكدة، ترعى على حشرات البساتين الخضراء·
إنها ساعة امتلأت بزمن الليل والنهار، فيعود ويمد برأسه مرة أخرى وهو يرتجف كالزلزال، فينهمر تراب الكهف عليهم كالشهاب، فيأمر كبير الخفافيش بإحضار أثره، فيطير الحشد صوب الخوف، ليسلونه من شق الكهف حتى انقطع رأسه عن جسده، يعودون ونصفهم يحمل الجسد والنصف الأخر يحمل الرأس، فيأمرون بتثبيت رأسه على جسده إلى الخلف، ثم يأمر بفتح عينيه، ليرى طغاة الماضي على جيادهم يشقون غبار المعارك، وهم يصيحون قائلين، يجب أن لا تعيش إلى الغد، يجب أن يبتلعك ماضينا بجميع ألقابك العربية والعبرية والإغريقية، المستقبل ليس لأحد بل للسماء ، والحاضر لبحور الأرض، فلن ترى مرة أخرى زرقة البحر والسماء بعد رماد أشلاء النيران، فيعلوا صوته فوق صوت الجميع·

6
أوقفوا صور الماضي وقيدوا مجانينه في علب الصخر، واضربوا براغيث الجلود حتى تعود لاشيء من الأشياء، فأتوب وأطلب الغفران، لن أعود إلى مملكة النساء، ولن أزرع أزهار الخروع ، ولن أحفر أبار الصحراء، ولا أنزع أسنان الفك السفلي من فم كبير شيوخنا، وهو يبكي تحت أسطح المنازل الضيقة، فيوضع على عربة الصلصال ويدخلونه في فرن الفحم ثم يرمى خارج أعماق الزمن، فيجد نفسه ملقى على عشب الوادي ومطر الغيوم يملأ جفنيه، فيصحوا من إغمائه ويفتح عينيه على غيوم سوداء تجرها الرياح، فيعرف أنه على سطح الأرض مخبئا في أعماق الكون·

&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف