ثقافات

عيد اسطفانوس: الزعيم

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك



&اصخت السمع أملا فى سماع صوت هتافات على باب القسم تردد اسمى، أو يستدعينى المأمور لمقابلة وفد من المحامين أو أى مظهر احتجاج يدل على أننى هنا ضد رغبة احد_، إلا أن شيئ من ذلك لم يحدث، وبت ليلتى فى غرفة الحجز القذرة مع اللصوص والبلطجية وأظن أننى لن أنسى تلك الليلة ما حييت.
&فى الصباح جلنا فى شوارع المدينه بعربة الترحيلات للعرض على النيابة، الصقت وجهى بقضبان الشباك ربما أجد أثرا لما حدث بالامس لكن لاشئ،فالناس متجهون لاعمالهم ورائحة الاطعمة فى الشارع والمقاهى تتهيا لاستقبال روادها وإمرأه تفرد سجادة على سور البلكونه بملابس النوم،حتى الشارع الذى قبض على فيه وسط المظاهرة الحاشدة بدا هادئا وكأن ذلك حدث منذ سنين وليس امس سألت الشرطى المرافق عن الاجراء الروتينى المتوقع فى مثل هذه الاحوال أجاب بإقتضاب :أربعة أيام على ذمة التحقيقات،وشعرت بغصة فى حلقى وانتابنى احساس من غرر به .
&عند الظهر عُرضت على وكيل النيابة الذى لم ينظر حتى الى وجهى وأملى على السكرتير ما توقعة الشرطى، وعدنا من نفس الطريق ولم أتطلع من شباك عربة الترحيلات لكننى تطلعت أن تنتهى هذه المحنه رحمة بأبى المريض وأمى التى لو علمت ما حدث لسقطت ميته فى الحال، كانت تلك هى المرة الاولى التى تسلب منى حريتى، وهالنى الفرق الشاسع بين ما كنت اعرفه وما رأيته رأى العين، وهالنى أكثر مستوى تفكيرى الضحل الذى لم يفرق بين مظاهرات الهواه فى المدرسة الثانوية وبين مظاهرات المحترفين فى الجامعه،كانت كل مؤهلاتى في مظاهرات المدرسة صوت جهورى وبعض الهتافات التى ابتدعها فى حينها موزونه وبها بعض الموسيقى نظرا لهوايتى للشعر حتى يسهل تكرار ترديدها،ولم تخرج تلك الهتافات عن سقوط الاستعمار أو يعيش الزعيم وقد نتندر أحيانا ونهتف بسقوط المطر فى الشتاء أو يعيش السمك فى الماء، المهم أن تستمر المظاهرة حتى يسقط اليوم الدراسى بالكامل ونعود لمنازلنا، وإن كنت فى هذه الحقبه قد استمرأت دور الزعيم وأنا محمول على الاكتاف، وكانت مصر فى أواسط الستينات وكنت انا فى الثامنه عشر وكان عامى الاول فى الجامعة هو عام الهزيمة وقد تغير الوضع بزاوية حادة لكننى لم استطع استيعاب ماجرى، كان ما يجرى فى الجامعة مخططا اما فى المدرسة فكانت الامور عفوية، فى الجامعة رايت اشياء مختلفة وشعارات مختلفة وأناس مختلفين، اما فى المدرسة فكلهم اقرانى اعرفهم بالاسم والمكان، فى الجامعة سمعت شعارات غريبة بعضها آلمنى وبعضها أحزننى وفى الجامعة ذهبت البراءة والعفوية الى الجحيم . كانت المشكلة أننى لم استطع التخلص من احساس الزهو الذى كان يتملكنى وانا على اكتاف الزملاء اردد الشعارات والجميع يردد خلفى، فقد خيل الى للحظة اننى اصبحت زعيما بالفعل وفى الحقيقة كنت فقط واجهة ذا صوت جهورى وموهبة فى ابتداع الهتافات، واستغل المحترفون سذاجتى ووضعونى فى المقدمة دائما ارضاءا لغرورى وتنفيذا لمخططهم الخبيث، فى البدايه اقتصر دورى على المظاهرات الواقفة أظل أهتف وأهتف وعندما تتصاعد الامور وفى اول بادرة لاتخاذ اى اجراء من الادارة او الشرطة أنسحب بهدوء مرتديا نظارتى السوداء، فلم يكن ضمن خططى أبدا الصدام مع السلطة لاننى فى داخلى لم أكن على قناعة بكل هذه الشعارات أو معظمها على الأقل.
&فى المظاهرة الاخيرة استدعونى من المدرج على عجل ولما خرجت وجدت الجميع فى انتظارى، أعطونى راس الموضوع وتركوا لى ارتجال الهتافات فى حينه فتلك هى موهبتى التى ادخلتنى السجن، بدأنا المظاهرة وقوفا كالمعتاد ثم حمى وطيس الهتاف وجاء من حملنى على الاكتاف وفوجئت بالمظاهرة تتحرك ناحية الباب الرئيسى للكلية، وتعجبت لسلوك الحرس عندما فتحوا الابواب على مصراعيها على غير المعتاد، وعندما نظرت ورائى ولمحت كثافة وطول المظاهرة انتشيت بقوة وأعجبنى شعور الهتاف سائرا ولم أكن قد جربته من قبل،وأعجبنى أكثر مشهد الواقفين على الارصفة يتطلعون الى ــ انا الزعيم ــ وأنا أرمقهم بزهو من علٍ واتوغل فى نوعية الهتافات أكثر،وفى غمرة الاحداث ونشوتها لم ألحظ اختفاء المنظمين المعتادين لهذه التظاهرات لكنى لاحظت ان معظم الصفوف المتقدمه هم من طلبة الفرقة الاولى ولاحظت ايضا ان المظاهرة تسير فى خط سير مرسوم بعناية فقد اغلق شارع وفتح آخر حتى وجدنا انفسنا فى مواجهة انساق هائلة من الشرطة مدججين بالمعدات اللآزمة لمثل هذه الاحداث، ثم دوت صفارات عربات الشرطة من الخلف وكان الشارع قصيرا وتم حصارنا باحكام،وبدات حرارة الهتاف تزداد وكلما اقتربنا من النسق الاول من الجنود المتحفزين كنت اتوغل اكثر فى نوعية الهتافات فى محاوله لا شعورية لاكتساب الثقة وطرد الخوف،الا ان ذلك لم يستمر طويلا فسرعان ما انقض على اثنان من الجنود وفى لمح البصر كنت مكوما مقيد اليدين من الخلف فى صندوق عربة الشرطة،وبدا الهرج والمرج ولم ارى ماذا حدث بعد ذلك فى الشارع ولم يكن يعنينى ذلك فقد ترسب فى داخلى اننى الوحيد الخاسر فى هذا الموضوع، بعد ايام الحبس الاربعة والتحقيقات المتوالية والتحرى عنى وعن نشاطى السياسى المزعوم وكم المعاناه النفسية التى بدت على ملامحى، نظر الى المحقق فى اليوم الرابع نظرة فاحصة مشوبة بشيئ من الاشفاق ونطق بقرار الافراج عنى وبينما يدون الكاتب القرار احسست اننى شخصا آخر.
&استغربت امى من درجة اتساخ غيارى الداخلى ورائحة جوربى وياقة القميص وأشياء أخرى وعلى غير المعتاد لم تشأ المجادلة فى الاسباب الواهية التى عرضتها كسبب لغيابى طيلة هذه المده إلا أن المرأه ظلت صامته واظن انها كانت تحس معاناتى كام بينما اتحاشى انا عينى ابى فقد بدا لى أنه يعرف أننى أكذب،عدت الى الكلية وفى المحاضرة الاولى بدا صوت همهمات يتصاعد خارج المدرج وبعض هتافات متناثرة اختلطت مع صوت المحاضر وتداخل معها رجع صوت وكيل النيابة (أربعة أيام على ذمة التحقيق )مع صوت زميل يهمس فى أذنى (انهم فى انتظارك ) عندئذ سرى فى جسدى كله شعور نشوة الزعامة العارم،وكمن يمشى نائما اتجهت الى باب المدرج.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف