ثقافات

إيلاف تقرأ لكم في أحدث الاصدارات العالمية

رياح سوداء ثلج أبيض: الأوراسية في خدمة أحلام بوتين

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في كتابه "رياح سوداء، ثلج أبيض: صعود القومية الروسية الجديدة"، يحلل تشارلز كلوفر الحوافز التي تدفع نظام موسكو إلى السلوك الذي يسلكه، من طريق تتبع صعود الأوراسية، أي الاعتقاد أن العرق والجغرافيا والمصير هي العوامل التي تحدد هوية روسيا الوطنية.

في حديث أدلى به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2013، في نادي فالداي الروسي للحوار في السياسة الدولية، وصف بلاده بأنها "دولة حضارية، ومشروع للحفاظ على هوية شعوب، وهوية أوراسيا التاريخية في القرن الجديد". واضاف أن إحياء الأوراسية وتكاملها فرصة ليصبح الاتحاد السوفياتي السابق مركزًا مستقلاً للتنمية الدولية. وكان بوتين استخدم مفردة "أوراسيا" من قبل، لكن ذِكرَها هنا يشير على ما يبدو إلى مقاربة جديدة. وفي عام 2014، أظهر بوتين أنه جاد في ما يقول بضمه شبه جزيرة القرم، وارسال الجنود الروس لقضاء "إجازة" في شرق أوكرانيا. 

أصول الأوراسية

تتبع الأوراسية الجديدة في الخطاب الروسي الجديد

ماذا كان بوتين يعني بمفردة "أوراسيا"؟ ومن أين يأتي "مشروعه" هذا؟ هذا هو السؤال الذي يجيب عنه تشارل كلوفر، مدير مكتب فاينانشال تايمز في موسكو بين عامي 2008 و2013، في كتابه المثير للاهتمام "رياح سوداء، ثلج أبيض: صعود القومية الروسية الجديدة"Black Wind, White Snow: The Rise of Russia’s New Nationalism (منشورات جامعة يال؛ 360 صفحة؛ 35 دولارًا؛ 25 جنيهًا استرلينيًا) الذي يشكل تاريخًا فكريًا من جهة، ويرسم صورة للروس وهم يعملون على حدود السياسة والبحث الأكاديمي والاعلام من جهة أخرى، من عشرينات القرن الماضي حتى اليوم، يقتفي الأصول التي انبثقت منها أفكار بوتين بمثابرة ووضوح. 

في أوائل عشرينيات القرن الماضي، بدأ مغتربون روس يُعيدون تأويل تاريخ روسيا وهويتها في ضوء ثورة 1917 البلشفية والحرب الأهلية الكارثيتين. وأكدوا أن الجهود الرامية إلى "أورَبة" روسيا منذ عهد بطرس الأكبر أضعفت البلد، وأن ما يشترك به الروس مع التتر والأقوام الرُحَّل في آسيا الوسطى أكثر مما يشتركون به مع الفرنسيين أو الألمان. وكان هؤلاء يسمون أنفسهم "أوراسيين". لكن المخابرات الروسية اخترقتهم، وسرعان ما فقدوا نفوذهم حتى بين المغتربين.  

نظريتان متناقضتان

تجددت النظرية في ستينيات القرن الماضي على يد ليف غوميليف (1912-1992) - نجل الشاعرين الروسيين المعروفين آنا اخماتوف ونيكولاي غوميليف - الذي أمضى سنوات عديدة في أرخبيل الغولاغ (معسكر اعتقال في سبيريا) حيث التقى بيتر سافينسكي، آخر الأحياء من أوراسيي العشرينيات. 

بفضل إلهامه، بين أسباب أخرى، وضع غوميليف نظرية معادية راديكاليًا لنظرية الماركسية عن صعود الشعوب وسقوطها. وكانت حجته أن جماعات قبلية محدَّدة كانت في فترات معينة من التاريخ مدفوعة بشكل من اشكال التضامن الاجتماعي سماه "باسيونارنوست" (passionarnost)، وهو طاقة خلاقة وشهوة للتوسع وقسوة مصحوبة بالقدرة على المكابدة والصمود في العمل من أجل قضية مشتركة. وقال إن "باسيونارنوست" هي المفتاح إلى تاريخ العالم، لا التقدم التقاني أو الأخلاقي، وان انتصار الاتحاد السوفياتي على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية أظهر أن الروس يمتلكون هذه الصفة، وأنهم أي الروس شاركوا شعوب آسيا الوسطى في إقامة حضارة مميزة من الحضارة الاوروبية.  

مع اقتراب الاتحاد السوفياتي من حافة الانهيار في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، نُشرت نظريات غوميليف وجذبت الكثير من المثقفين، وأصبحت كتبه عن أقوام السهوب الرُحَّل من أكثر الكتب مبيعًا لأسباب عدة، منها أن هذه الكتب كانت أشبه بالروايات المشوقة، حتى أن بعض الأكاديميين اتهمه بكتابة قصص خيالية.

قوة إمبراطورية من جديد

كان ألكسندر دوغين أحد الذين استوحوا منه، وهو معارض تماثل اعتراضاته على الماركسية اعتراضات غوميليف. وبحسب كلوفر، ارتبط دوغين بعلاقات مع مفكرين من اليمين الأوروبي الجديد الذين يشجبون تراث الليبرالية والدولة القومية والهيمنة الأميركية، ويذهبون إلى أن على أوروبا أن تعيد تكريس نفسها قوةً امبراطورية. 

كان تفكيرهم مستمَدًا بدوره من هالفورد ماكيندر ومنظري ألمانيا النازية الجيوسياسيين الذين كانوا يدَّعون أن الصدامات الحاسمة في الشؤون الدولية كانت بين القوى المحيطية بزعامة الولايات المتحدة وقوى أوراسيا القارية. 

تضافرت هذه التيارات كلها في كتاب دوغين "أُسس الجيوسياسة"The Foundations of Geopolitics (1997)، وأصبح عمله كتابًا مقررًا في أكاديمية الأركان العامة الروسية حيث كان دوغين نفسها محاضرًا، وما عاد معارضًا بل صار قطبًا من أقطاب مؤسسة الحكم. وأوحت الفوضى التي عمت روسيا في تسعينيات القرن الماضي لكثير من الروس بأن النمط الغربي من الديمقراطية لا يعود بالفائدة على طريقة حياتهم بل يقوضها.

وبدا أن توسع حلف الأطلسي وحملة القصف التي نفذها في صريبا في عام 1999 يؤكدان أن الغرب عدو لروسيا، وجعلا كثيرًا من الروس الذين يستخدمون عقولهم - بمن فيهم بوتين - من مريدي "نزعة أوراسية" معدَّلة. 

الطبيعة البوتينية الموقتة

لا بدّ من كلمة تحذير: يكمن اعتماد السياسيين الروس الأيديولوجيات في أنها مفيدة في مراحل معينة من حياتهم السياسية، وليس في إيمانهم يؤمنون بها. والنزعة الأوراسية التي عدّلها دوغين تفيد بوتين الذي يواجه نزاعًا في أوكرانيا مقترنًا بعقوبات غربية، ويتحدى الأنموذج "أحادي القطبية" الذي فرضته الولايات المتحدة في الشؤون الدولية. ولا يستتبع من ذلك تلقائيًا انه يريد إحياء الاتحاد السوفياتي السابق في شكل "أوراسيا". وإذا قرر لاحقًا أن على روسيا أن تعمل بصورة وثيقة مع الغرب لهزم الإرهاب الإسلامي، فإن استعارات "النزعة الأوراسية" ستغيب عن خطابه. 

تعكس مقاربة كلوفر، الرصينة والمشككة برفق، الطبيعة الموقتة لأيديولوجيا بوتين. ويتتبع كلوفر المسارات التي تتبدى فيها الأفكار الأوراسية من خلال حركات مختلفة، لكنه يمتنع في العادة عن التوصل إلى خلاصات ثابتة. وهو يفكر في كتابه بروح دوغين الذي أجرى معه مقابلة مطولة. فدوغين ما بعد حداثوي واعٍ، يعلن كثيرًا مبدأ ما ثم يعود إلى تفكيكه، كما يقدم أفكارًا "للسياسيين التكنوقراط" الذين يتلاعبون بالأيديولوجيات استجابة لمتطلبات تكتيكية.  

لكن للتقانة السياسية حدودها: في مرحلة ما، ربما يجد بوتين نفسه في موقف يمنعه من التراجع بكرامة عن خطابيته ذاتها، وحينذاك سيكون كتاب كلوفر دليلًا لا غنى عنه.
 

 

 

 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف