جمعها الباحث مصطفى الجوهري.. وصدرها الأديب عباس الجراري
"الخالصيات" يستحضر تجربة غنية للشاعر المغربي عبد اللطيف خالص
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في طباعة أنيقة، وإخراج جميل، صدر حديثًا من منشورات "جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة"، بالرباط، ديوان شعري، بعنوان "الخالصيات"، يضم بين دفتيه قصائد للشاعر الراحل عبد اللطيف أحمد خالص، مدير دار الإذاعة والتلفزيون المغربية السابق، والكاتب العام (وكيل) لوزارة التشغيل سابقًا، وهو من تصدير الأديب عباس الجراري، وجمع وتقديم الباحث مصطفى الجوهري.
إيلاف من الرباط: رغم كل المهام والمناصب الإدارية التي تحملها بتمكن ومسؤولية واقتدار، على امتداد مساره المهني، فإن الراحل خالص كان حريصًا على الاستجابة لنداء الإلهام، من خلال إنتاج رصيد من العطاء الإبداعي المتجدد، الذي يلامس مختلف أصناف القول الشعري.
وفي كلمة التصدير، استرجع الجراري الكثير من الذكريات القديمة التي جمعته بالشاعر الراحل خالص منذ عهد الصبا، حين كانا يلتقيان في اجتماعات "الشبيبة الاستقلالية"، التي كانت تعنى بتأطيرتلاميذ المرحلة الثانوية، قبل أن "يتفرق الرفقاء لمواصلة تعليمهم في الخارج، كل في اتجاه".
لقاءات في "النادي الجراري"
بعد عشر سنوات، تجدد اللقاء بين الجراري وصاحب " الخالصيات"، ابتداء من منتصف سنوات الستينيات، في الرباط، وبالضبط في مقر "النادي الجراري"، الذي كان يشكل يومئذ، ملاذًا لنخبة من العلماء والأدباء.
وأشاد &الجراري بجدية خالص وانضباطه، إذ كان لا يغيب عن أية جلسة، في النادي، على الرغم من المهام الإدارية التي كان يتحملها، وكان حريصًا على المشاركة، بعد عصر كل جمعة، في إثراء النقاش حول مختلف القضايا العلمية والأدبية، "وقد ينتهز الجلسة لإنشاد قصيدة له، أو مقطوعة، أو حتى أبيات مفردة، راغبًا في الاستماع إلى ما قد يكون عليها من ملاحظة أو توجيه".
وسجل الجراري أن صاحب الديوان كان شغوفًا في جلسات النادي بإثارة القضايا التي لا يخفي أنه يشعر "بأنها كانت نابعة من تجربته الإبداعية، وما كان يعانيه جراء الواقع الشعري والنقدي المتحامل في جملته على القصيدة العمودية بمعارك مفتعلة، سواء في المغرب أو غيره من أقطار العروبة".
دور الشعر في تهذيب الذوق
وتابع الجراري كلامه قائلًا إن "هذا الواقع زاد استفحالًا بعدما أخذ العرب يجتازون فترة من التاريخ تنذر بما يهدد وجودهم، فضلًا عن فكرهم وأدبهم ولغتهم، وهم غارقون في أزمات لها أسبابها الموضوعية الكامنة خلف التخلف الذي يعيشونه في اقتصادهم وثقافتهم وتعليمهم وسائر شؤونهم، من غير أن تكون لها علاقة بالشعر، مهما يكن مرتبطًا بالنموذج القديم المتوارث أو غيره من &الأنماط الجديدة، مع العلم أن الشعر إنما هو تعبير عفوي وتلقائي عن تلك الأزمات، والنضال لمواجهتها وما يتولد عنها من إكراهات وتحديات وتوترات، أو هكذا ينبغي أن يكون، إضافة إلى ما للشعر ــ كبقية الفنون الجميلة ــ من دور في تهذيب الذوق وتنمية الحاسة الجمالية ورفض كل قبيح ومقاومته".
لم يفت الجراري أن يعبّر، في ختام كلمته، عن مشاعر الغبطة والامتنان، ابتهاجًا بصدور الديوان، منوهًا بالجهد الذي بذله الباحث الجوهري في جمعه وتقديمه، وموجّهًَا الشكر إلى عبد الكريم بناني، رئيس جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة على نشر هذا الديوان، وفاء لروح الشاعر، واعترافًا بما كان له "من دور في الجمعية التي كان أحد أعضائها المؤسسين".
بين البحث والتنقيب والتبويب
أما الجوهري، فقد استهل تقديمه وتعريفه بالشاعر بالإشارة إلى أن من يعرف عبد اللطيف خالص يدرك أنه يحتل موقعًا في الثقافة المغربية الحديثة، فهو أديب وكاتب وشاعر وخطيب ومربٍّ وإداري محنك، ومن الذين أغنوا الساحة الثقافية المغربية منذ بداية الاستقلال، وجمعت مساهماته بين أصناف الكتابة النثرية والكتابة الشعرية المتجسدة في كتابة المقالة والبحث والدراسة والمحاضرة والقصيدة.
الأستاذ الباحث مصطفى الجوهري وبجانبه الشاعر الراحل عبد اللطيف خالص&
واستفاض الجوهري في الحديث عن الظروف التي صاحبت انكبابه على إنجاز هذا العمل، وقال إن "اشتغالي بجمع قصائد الديوان، دفعني إلى استخلاص ملحوظات هي ليس من قبيل الصعوبات، كما يتبادر إلى الذهن، لكونها ترتبط بتجربته الشعرية أولًا، وبتدوينه ثانيًا، ومن قبيلها صعوبة قراءة الرسم الخطي لبعض القصائد المبتورة في مسودتها الأولى غير الكاملة. وقصائد لاتحمل عنوانًا في أصولها، حفزتني على عنونتها تيسيرًا للقارئ ودرءًا لتكرار عناوينها".
يبدو من خلال تصفح هذا الديوان، على امتداد 300 صفحة، أن الجوهري، بذل جهدًا مكثفًا، تطلب منه الكثير من الوقت، والكثير من البحث والتنقيب والتبويب، قبل أن يخرج هذا الإصدار الشعري في شكل جميل وجذاب يغري بالقراءة والتقييم.
الجمع بين الدراسة والعمل
ورغم كل ذلك، فإن الباحث، وكما اعترف بذلك، يخامره إحساس بأن ما جمعه للشاعر لا يفي بالقصد، وأن قصائد كثيرة غابت عن هذا الديوان، الذي اختار له صاحبه الراحل خالص "عنوانًا موفقًا هو "الخالصيات" بلمحته الدالة، أولاهما: اقتران اسمه العائلي بالإبداع الشعري، وثانيهما: اقترانه بسمات الإخلاص، كما تتلاءم مع مدونة أخلاقه ومنابع تربيته، أسرة ومجتمعا وثقافة".
وكما يتضح ذلك من خلال التقديم، الذي خطه قلم الجوهري، فإن خالص سليل أسرة يرجع نسبها إلى الأندلس، وهو من مواليد مدينة الرباط، وبالضبط سنة 1935 بحي "تحت الحمام"، ووالده أحمد خالص كان تاجرًا معروفًا في شارع "السويقة"، الشريان التجاري النابض للعاصمة السياسية.
منذ صباه كان شغوفًا بالعلم والمعرفة، إذ كان بموازاة مع مختلف المراحل الدراسية، التي اجتازها بنجاح وتفوق، "يتردد على مجالس ودروس بعض فقهاء وعلماء الرباط، حيث أخذ منهم بعض المتون اللغوية والفقهية".
وفي الوقت الذي كان والده أحمد خالص يأمل أن يتجه الطفل عبد اللطيف خالص إلى جامعة القرويين في مدينة فاس، فضّل هو أن &يلتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في مدينة الرباط، التي حصل فيها على شهادة الإجازة في الأدب العربي، وبعدها شهادة استكمال الدروس، أو دبلوم الدراسات المعمقة كما تسمى اليوم.
اللافت للانتباه، أن خالص، وهو طالب جامعي، استطاع الجمع بين الوظيفة الإدارية في وزارة التربية الوطنية، وبين العمل الصحافي في يومية "العلم"، والدراسة في رحاب الجامعة.
على امتداد مساره المهني، تحمل العديد من المهام والمسؤوليات الإدارية في قطاعات متعددة ومتباينة، إلى أن عيّنه الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1974 مديرًا عامًا للإذاعة والتلفزيون "التي شهدت تطورًا ملموسًا في عهده".
وخلال انطلاق مواكب المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء سنة 1975 يروي الجوهري أن خالص كان يشرف بنفسه على إعداد البرامج الخاصة بهذا الحدث التاريخي البارز، وتحمل تجربتها بروح وطنية كبرى، قبل أن يغادر هذا المنصب إلى الكتابة العامة لوزارة التشغيل سنة 1979، وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى أن أحيل على التقاعد.
التجربة الشعرية لخالص
يجر خالص وراءه تجربة شعرية غنية بالعطاء والتنوع، باعتباره متعدد الاهتمامات، فقد كتب العديد من القصائد، وألقاها في مختلف المناسبات، وكان شاهدًا على عصره من خلال تفاعله مع القضايا والأحداث، وكذا الشخصيات التي عايشها عن كثب.
من اليمين إلى اليسار : الشاعر عبد اللطيف خالص وعباس الجراري وعبد الكريم بناني وعلال سي ناصر والحاج ابراهيم فرج ومحمد كديرة
وحسب الجوهري، فإن بداية تعاطي خالص مع الشعر، تعود إلى سن الشباب، وإلى بداية الاستقلال في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، بدعم وتشجيع من طرف بعض العلماء والشعراء، الذين أطلعهم على محاولاته الأولى، ومن بينهم محمد المختار السوسي، ومحمد علال الفاسي، وعبد الله بن العباس الجراري.
تبيّن للجوهري أثناء جمع الديوان أن أول قصيدة نظمها الشاعر كانت بعنوان "ذكرى مولد الرسول الهادي، والتي مطلعها:
ربة الشعر رددي إنشاده & & وأجيدي القريض في كل نادي&
ثمة قصائد ذات طابع ديني وجدت طريقها إلى الغناء، عبر حناجر أهل الطرب، ومن بينها قصيدة "دعاء وابتهال"، التي غناها المطرب الراحل إسماعيل أحمد، من توقيع الملحن الراحل عبد القادر الراشدي.
ورغم غزارة عطائه، فقد عرف عن الشاعر خالص تواضعه، ولطالما عبّر في أكثر من قصيدة كونه لا ينتمي إلى خانة الشعراء، مثال ذلك قوله في رثاء محمد المختار السوسي:
اليوم أفحمني القضاء فعقني & &فيك القريض وخانني تذكاري
أو في قصيدة بعنوان "كريم السجايا في سمو العناصر"، تكريمًا للشيخ محمد المكي الناصري:
فيا أيها الشيخ الرئيس تحيتي & & & أقدمها في حلة المتشـاعر
فليس مرادي أن أقول قصــيدة & & فما أنا في دنيا القريض بشاعر
وعن تلخيص مفهومه للشعر، الذي "ما فتئ يردده في كل كتاباته الأدبية شعرًا ونثرًا"، فقد كان يراه تعبيرًا عن "شعور وإلهام "، و"حياة تنساب فيه انفعالات بني الإنسان ومشاعرهم". ومن ذلك ما ردده شعرًا:
ما الشعر إلا انفعال في الحشا كامن & &يحتاج أفئدة في خفية ويــسر
ولا أريـــد قرضًا لا وراء لـه & & & يبدو التكلف في أشعاره فيزري
إنما الشعر ما رددت في خلدي & & &تحمله النفس طوعًا لا كحمل إصر
وقد توسع مقدم الديوان في بسط واستقراء مختلف خصائص شعر عبد اللطيف أحمد خالص، متوقفًا عند أسلوبه في الإبداع الشعري حيث كان يستعمل لقبه العائلي (خالص) في بعض الأبيات، ترسيخًا لاسمه العائلي، وحرصًا على وفائه وصدقه لمعارفه من الأعلام والرجال، والأمثلة على ذلك كثيرة، وهذه بعضها:&
يقول في قصيدة "زعيم المغرب الأقصى" الوطني أحمد بلافريج:
عزاء خالص يمليه خطب نقول أمامه أسفًا وداعـــا&
وفي قصيدة "رحيل مجاهد" التي يرثي فيها الزعيم علال الفاسي:
منك الرثاء عواطفا مكلومة & &من خالص يفديك في إجلال&
وفي ختام قصيدة ألقيت في تكريم الأستاذ عباس الجراري بمدينة مراكش:&
عباس إني في الحب خالص & ولدى القريض رجاله وعشائره
لكنني صغت القريض حبــًا & &ومتيمًا تـبدو عليــه مشـاعره
انطلاقًا من هذا الوفاء الذي يميّز شخصيته، تحضر في ديوان الشاعر عبد اللطيف خالص، أسماء لرجال في الوطنية والسياسة والفكر والعلم والمعرفة والتربية، كان لهم دور في حياته، وتركوا بصمة في نفسه، وتقاسم معهم "هموم الوطن والحياة والثقافة والمسؤولية، فخلدهم في شعره".
وكغيره من الشعراء، كان للعاطفة والرومانسية والعبارات المجنحة في عوالم العشق مكان في شعره، خاصة أيام الشباب، حيث الإقبال على الحياة، ويتجلى ذلك في قصائده:" وجه مليحة، وبح بالغرام، والميتم، وخفقان قلب".
ومن أجواء الديوان نقتطف هذا المطلع الشعري:
ومليحة في شرفة ترتاح & & وقفت تطل فاهتزت الأرواح &
فقوامها غصن وطرفها فاتك & وجمال وجهها في الورى لواح