"إيلاف" تقرأ لكم في أحدث الإصدارات العالمية
هل كُتبت الشمولية على روسيا من جديد؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الفرق بين الشمولية والاستبداد في النظرية السياسية ليس اختلافًا في الدرجة، بل في النوعية، فهل خرج الروس من الشمولية السوفياتية إلى الشمولية البوتينية الجديدة.
إيلاف من بيروت: في كتاب "أصول الشمولية"، حذّرت حنة آرندت من التطبيق اللامبالي للشمولية. لا يكمن الفرق بين الشمولية والاستبداد في النظرية السياسية في اختلاف الدرجة أو المستوى - علمًا أنّ الشمولية تقع في أعلى المقياس الصعودي للشر - بل في النوعية.
تجمع الشمولية بين نظام من الإرهاب، وحكم الحزب الواحد، والاقتصاد المخطط مركزيًا، والتحكّم بالجيش ووسائل الإعلام، والأيديولوجيا الشاملة.
يمارس مثل هذه الدول السيطرة الكاملة على حياة مواطنيها، في حين أن الدول الاستبدادية تنص على احترام قواعد معينة وتسمح بحرية محدودة، طالما أنها لا تتحدى السلطة السياسية. وفيما تقوم الشمولية بتعبئة الشعب، تولّد الاستبدادية الهمود.
الشمولية ثانيةً
يبدو أن ماشا جيسن، وهي صحافية روسية أميركية، على الرغم من اقتباسها على نطاق واسع من كتابات أرندت، لم تأخذ تحذير تلك الأخيرة على محمل الجد، فأشارت في كتابها "المستقبل هو التاريخ: كيف استحوذت الشمولية على روسيا مجددًا" The Future is History: How Totalitarianism Reclaimed Russia (ريفرهيد بوكس؛ 528 صفحة؛ 28 دولارًا) إلى أن الشمولية استحوذت مجددًا على روسيا فلاديمير بوتين.
وتبيّن بشكل فاعل كيف أعاد بوتين جهاز حقبة السوفيات في السيطرة على الشرطة، وجدد هيمنة الدولة على الإعلام والاقتصاد، وأحيا حكم الحزب الواحد. وادّعت بشكل أقل إقناعًا أن الإرهاب ربما يكون ضروريًا لإرساء أساس شمولي، ويمكن أن "تحتفظ به المؤسسات التي تحمل داخلها ذكرى الإرهاب". وقالت إن القومية المحافظة في ولاية بوتين الثالثة قد أصبحت عقيدة قوية.
مع كل القوة العاطفية الصادقة للكتاب، حجته الرئيسة تبدو غير حقيقية. فنظام بوتين شرير، كما وثقت هذه الصحيفة منذ فترة طويلة. إن القول إنه مستبد بدلًا من شمولي ليس لتبرير طرائقه أو أخطائه، بل لتأييد تقويم واضح للواقع.
يحجب الإصرار على ذكر الشمولية ملاحظات جيسن الأكثر بصيرة حول كيفية استمرار صدمة الماضي السوفياتي في تحديد شكل الروس. وباعتبارها راوية قصصية فصيحة، تتابع جيسن أربع شخصيات رئيسة وثلاثة أبطال فكريين من حقبة البيريسترويكا حتى يومنا هذا، وترسم امتداد التاريخ الروسي المعاصر من خلالهم. ويثبت هذا التكتيك فاعلية في إظهار كيف أن السياسة، مع مرور الوقت، استنزفت الأفراد الذين كانوا في البداية أكثر اهتمامًا بحياتهم الشخصية.
بشكل محبط، تتألف عينة الشخصيات كلها تقريبًا من أنواع الليبراليين والمثقفين من النخب، لكنّ جيسن تحبك حياتهم بكل بساطة في نسيج مثير، حتى لو كان قاتمًا.
سلبيون
يبلغ سردها ذروته مع ضمّ شبه جزيرة القرم، اللحظة التي اعتبرتها لحظة تبلور الشمولية الجديدة في روسيا.
في هذا السياق، كتبت: "كانت القرم أيديولوجية روسية"، وأضافت: "قامت القرم بتعبئة الأمة". وعلى الرغم من أن عمليّة ضمّ القرم، والمزيج الضار من القومية والتحفظ والأرثوذكسية الذي ترافق معها، قد وطّدا المجتمع، فقد تبيّن أن أي تعبئة هي وهمية.
ومع أن الكثير من الروس هتفوا بكل سرور لحروب الكرملين، سواءً في شرق أوكرانيا أو سورية، كما رأينا على شاشة التلفزيون، فإنهم لا يطمحون إلى أن يصبحوا شهداء من أجل القضية. (في الواقع، ذهب الكرملين إلى مدى بعيد لإخفاء الأخبار عن مقتل الجنود، على النقيض من تمجيد أبطال سقطوا خلال الحقبة السوفياتية). وفي مواجهة السكان السلبيين الهامدين، يغتاظ الكرملين الآن من الإقبال المنخفض على الانتخابات الشكلية.
في الواقع، إن السمات المميزة للحياة السياسية الروسية ليست التعبئة والتسييس، بل اللامبالاة واللا سياسة، ولا هي سيطرة الدولة التامة كما تحاول جيسن أن تبيّن. استخدم بوتين الإكراه والتخويف والعنف السياسي الانتقائي، لكنه توقّف فجأة قبل إطلاق العنان لعنف دموي. وصحيح أن الدولة تأثيرها مفرط على الاقتصاد، لكنّ الناس يملكون حرية الاستهلاك والكسب والسفر بطرائق لا يمكن تصورها تحت حكم ستالين أو هتلر أو ماو.
على الرغم من كون المجتمع المدني محاصرًا، لا يزال قادرًا على رفض النشطاء الأرثوذوكس المتطرفين في البلاد.
الأكثر حرية
يمكن العثور على مصادر بديلة للمعلومات على شبكة الإنترنت. كما إن سيطرة الدولة ليست كاملة إلى درجة تجعل المعارضة غير واردة، كما يتبيّن من آلاف الشباب الذين حضروا التجمعات الأخيرة لأليكسي نافالني، وهو من دعاة مكافحة الفساد. حتى نافالني الذي واجه الاعتقال، ورأى شقيقه سجينًا في سيبيريا، وكاد يفقد البصر بعد رشه بالمواد الحمضية، يؤكد: "على الرغم من الحد من الحريات السياسية والمدنية، فالسنوات الـ 25 الماضية تُعتبر الأكثر حرية في التاريخ الروسي".
إن التمييز بين الأنواع المختلفة من الأنظمة أمر مهم. واللغة، كما لفتت جيسن في أماكن أخرى، مهمّة. الاستخدام الضبابي يسلب المصطلحات معانيها ويشكّل التصورات.
أصبحت جيسن، التي يتابعها الكثيرون، صوتًا محترمًا عن روسيا في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب. ولاقى كتابها ترحيبًا حارًا في أميركا التي تحرص على معرفة المزيد عن بلد بوتين، وتميل إلى رؤيته بمثابة انبثاق لإمبراطورية الشر. وفيما يتعامل الجمهور الأميركي وصانعو السياسات مع تهديدات روسية، سيكون من الحكمة السعي إلى الحصول على صورة أكمل من التي يقدّمها هذا الكتاب وحده.
أعدّت "إيلاف" هذا التقرير عن "إيكونوميست". الأصل منشور على الرابط:
http://econ.st/2AYComd