ثقافات

حسن محمد إدريس: عيون ومقهى ضامر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

القصة الحائزة على المركز الثاني في الدورة الرابعة لمسابقة جائزة (محمد سعيد ناود) للقصة القصيرة 2018م

"أن تحب وتخسر أفضل ألف مرة من ألا تحب إطلاقاَ"&( لويس أَرغوان)


تُحمص قلوب الرواد مع حبات البن ، لتنكأ فيّ جرحاً ، وتتعثر الأحرف لتتلاشي مع بخور أنفاسها ، تتهاوي أنجم في فضاءات قلبي ، أعتصر اللذة متجرعاً كؤوس الصبر ، وهي مُتدثرة بثوب الكبرياء ، وشئ قليل من العفة . " تربال"1 يغرق في بركة هواها ، يحترق ، وهو يغرس الأمنيات مع شتلات البصل . يشتمُّها في رائحة البن ، ويراها في خضرة الحقل الممتد أمام ناظريه ، مُتوسدٌاً جمال صوتها ، وهو يحكي لها عن النيل الذي جرف أشجار النخيل التي تشبه رفيف خطواتها ، يُقدم لها قلبه هديةً ، فيما هي تُقلب القلوب في كل لمحة . وفي كل لحظة يضبط أحد المعجبين متلبساً بنظراته الفاضحة .. حتى ذاك الشيخ المتصابي يسترق السمع ، وهو يتجرع حسرته مع الحليب خالي الدسم والسكّر . وكمحاولة منها للهروب من تلك العيون المحدقة بجسدها تضغط أزرار الجوال فإذا به خارج نطاق التغطية ، ترتشف الشاي وأنا أَحاول أن أدنو منها فتبدي النفور دائماً ، غير إن عينيها تضُجان بالتوسُل لي لأغدو أكثر جرأة ؛ مثل ذاك " التربال " &المكتوي بنارها .&
في الطريق إلى مقهاها هذا الصباح، &أختلي بنفسي وطيفها.. أطراف المدينة غاصة بفتيات الشاي ، وهي منتصبة أمامي في الناحية الأخري من الشارع ، تُحدثني عيناها لأتغابي، ولكن يُراودني إحساس بأنّا نتعارف مُنذ أمد بعيد فالغنج في حديثها ، وضحكتها محفوران &في مكان ما داكن في ذاكرتي &.&
سائق سمج يتفوه بعبارات سوقية فترسل ضحكة تهكم مُتهتكة ، يحس بوخزاتها في أحشائه .
أتمتم : (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت
يا حانة مفروشة بالرمل ) .
تقاطعني
- سجمي دا ما شعر
أتأمل تلكم الحانة الشعبية في مخيلتي.. روادها يفترشون الرمل ويتوسدون حُقَقَ & & & " الصاعوط "2 ، والكؤوس تدار من علي يد (الكنج)3
تقطع علي خيالي فيما وفناجين القهوة تدار بطقوسها المتفردة ، وأنا أتمرغ في وحل أحزاني ، طاحونة تدور رحاها لتشاركني بعضاً من ألآمي ، كل الأعين ممتلئة بالرغبة. والتوجس كأنما يرمي بظلاله علي أهداب البخور العدني ، لتنبجس عيون الحكاوي من ذاك الفتي الأمدرماني ،الجالس قبالتها ؛ هي تدري ما يريد ولكنها تتجاهله ، وتتجاهل أيضاً &مساحيق العهر &التي تغطي وجوه الحاضرين .
أنسرب في حلم فأراها فرساً ضابحاً ، &وأمتطي أنا صهوتها. فيما هي حاضرة كالغائبة. هذا النهار تمر ساعاته متثاقلة ، وأحداثه متلاطمة ، شاحنة تدهس طفلة ، بغي تُحاول الإنتحار ، حريق يلتهم أحدي الحانات ، وأنا أحبو على رمل المسافة بيننا، الذي يُبطن فجيعتي .
.... وأنت تدقين مسامير نعشي على عُتمة شَعرك .
&جارتها تُبدي لنا حياءاً مصطنعاً ، وهي تقطع علينا خيوط الحكاوي ، أدير مؤشر قلبي فإذا به مُتوقف عند محطات خوفي منها عليها ؛ أنا الذي اراقب اندلاق الرغبة يظلل اللحي ، لتنطلق فيهم ألحاناً من الحرمان .
- سيدتي لك عطر شديد الغرابة يقع في بقعة ما بين قلبي وخط الإستواء ، فيه شئٌ من رائحة البن وأريج البرتقال ، أيسكُن فيّ أم أنا مسكون بجنونه ؟ .
&تحدثني عن كثرة راغبيها ، وذاك الذي يشكو لها ليالي الوحدة والحنين للديار، والنخلا ت التي جرفها النيل ، تضن عليه باللقيا ، ليهيم بشوارع المدينة الحديثة باحثاً عن راحلة تفضي به لتخوم قلبها ، فإذا بها أمامه يصطدم بجذور هواها , وهو يشتل بنات أفكاره في طين أردافها ، فيما هي تشد ستائر الخفر .
إبتسامتها مشهد سافر للدفء ، أطبع قبلة على خدها خلسة، فإذا بها تعلق اللوحة على جدار قلبها : (أو تدري يا صفي القلب !! مايلج توأمك المقهى حتى يعتريني الارتباك) تنبثق في ذهني صاحبة تلكم الحانة الأسمراوية، وهي تقول :
ــــ مشربي ، وكل ما فيه تحت أمرك يا سيدي " سنهيئ لنا كل شيء في غرفتي الخلفية الخاصة ... هو يشبهك حد التطابق &: الاسم، القامة الفارعة ، الضحكة ، واليد الممدودة للمصافحة دوماً، حتى تلكم القبلة الضائعة يحمل سمتها . غير إنه ممتنع عن إغواء تلكم النجمة) .
في ذاك الصباح الغائم أنفض عنيّ غبار حبها ، وشوارع البلدة مغتسلة بالمطر، أروي لكم قصة إنزوائي في هذه المدينة التي لست أدري أهي: المعسكر ، &أم الوادي ، &أم & & " الورنوب " 4 &التي قامت على زراعة الخُضر ، وتهريب سلع استهلاكية وبشر محبطين. نصف هذا الكأس يشطرني لنصفين ، أفتح بريدي الإلكتروني فإذا برسائلي كلها معنونة بإسمها ،أحاول أن أمسك بقصاصة أفكاري ، وأكتب على سحب من الدُخان ، ورُقعة تشبه كفني ، لأسجيها من على حبر كلماتي التي كانت أحياناً تقع على مسامعها كالشرر المتطاير من موقدها .
وهي تزرع المقهي جيئة وذهابا . أسألها
- ماذا لو جمعنا عدد خطواتك على خط مستقيم ! إلى أين ستصل بكِ ؟
&- إلى تخوم قلبك القاسي
&- ألا تشتمين رائحة الشواء؟
تجيب بإبتسامة .
وحينها أسحب قابس الكهرباء لعل موجات إرسالها تنقطع لأتوسد سراب أحلامي ، فيما هي تمدد غُيوم ذياك السراب و تقول( أنيب دوان هوك)5. ليتردد صدى صوتها بلحن بجاويّ قديم ويعم الوادي ....... (ب ا د و ن ا ... بـــــــــــــادونـــــــا .................. بادونا)6

قاص من إرتريا
&
(جائزة محمد سعيد ناود جائزة سنوية للقصة القصيرة للإرتريين والإرتريات الذين يكتبون بالعربية ، تنظمها &مكتبة أغرادت العامة على الانترنت ، التي يشرف عليها مجموعة من الكتاب الإرتريين . &منذ العام 2015 تخليداً لذكرى الروائي والكاتب الإرتري محمد سعيد ناود رائد الرواية الإرترية المكتوبة &بالعربية وصاحب أول رواية كتبت بالعربية في الأدب الإرتري الحديث ؛ رواية &" رحلة الشتاء" التي &صدرت من بيروت في السبعينات إضافة إلى مؤلفات أخرى . توفى محمد سعيد ناود في 16 سبتمبر 2010 . ترصد المسابقة جوائز مالية رمزية للفائزين الثلاثة . ويتم الإعلان عن الجائزة في يوم 16 سبتمبر من كل عام . &ضمت لجان التحكيم على مدى السنوات الماضية أسماء معروفة لكتاب سودانيين وإرتريين منهم : القاص عادل القصاص ، الروائي حامد الناظر ، والكاتب فتحي عثمان والشاعر محمد جميل أحمد وحامد ضرار)

هوامش&
1 تربال = المزارع بالعامية السودانية&
2 " الساعوط " = نوع من التباكو المحلي في السودان&
3 &الكنج : ساقي الندماء.
4 الورنوب : مقطع موسيقي بالربابة في الثقافة البجاوية.
5 أنيب دوان هوك = &أريد أن أنام باللغة البجاوية (لغة بعض سكان شرق السودان وغرب إرتريا)
6 بادونا &= لا تنام ، وهي مطلع لأغنية تراثية باللغة البجاوية&
&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف