تعليقات على جائزة نوبل في الآداب (2018؛ 2019؛ 2020).
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
".. فعلا، الجنس محرك التاريخ"، هكذا تمتمت بيني وبين نفسي وأنا أبحث- متذكرا أنا في شهر تشرين الأول موعد الجائزة- عن اسم وجنسية المحظوظ (...) لنيل نوبل في الآداب. غير أن فضيحة جنسية أجلت الأمر إلى العام القادم.
.. لله در المترجمة التي عنوت النبأ في وكالة دولية هكذا: "تأجيل منح جائزة نوبل للأدب إثر فضيحة سوء سلوك جنسي".. لن أتسرع لقول انتقاد في حق هذه الجملة، هي إن عدتم للمقال تجدونها متناغمة مع معطياته. فعيب على المتهم الذي "أحسنت" إليه الأكاديمية السويدية- والذي أغضب المؤسسة الوصية على تنفيذ وصية صانع الديناميت- بدعم مالي لمركز ثقافي يديره أن يسيء السلوك الجنسي.. عيب! وفي السخرية السوداء شفاء لكل ظلمات، واعلموا أن عدد المشتكيات على المسيء- "المحصن" بإحدى عضوات الأكاديمية والمتهم أيضا بتسريب أسماء الفائزين- هو 18 مشتكية.. رتل طويل من الشهادات.
.. قبل سنتين ارتفع "التهليل" في الإعلام الدولي- ما انعكس محليا- بعد إعلان فوز مغن كاتب للأغاني بالجائزة، شيء جميل في ظاهره، لكن: لم قبل سنوات حين فرض شاعرنا بالأمس تفوقه الأدبي على الساحة الدولية مبرزا بما لا يدع مجالا للنقاش استحقاقه للجائزة، إذا به يمنعها لأسباب سياسية؟! وذلك أبلغ وأرفع من أي وسام أدبي لا ريب، ليبقى محفوظ وحيدا.. وأدونيس مرشحا أبديا...
.. بالمناسبة، الملك أيضا دخل في هذه المعمعة. فالخطب جلل وأول من نوعه في تاريخ الأكاديمية التي أسهها أحد أسلافه المنعمين عام 1786 وما زالت مذ ذاك تحت رعاية ملكية. حيث أبدى جلالته ترحيبه بقرار الأكاديمية الذي يبين نيتها "التركيز الآن على استعادة سمعتها". وفي هذا المقام تذكرت مقالا كان قد شفى ما في صدري من سؤال حول جدوى الأنظمة الملكية شمال المتوسط (لاسيما في إسبانيا) بعد أزيد من ألفي عام على ميلاد المسيح؟! ليكشف لي المقال وصاحبه العميد الفذ أن الجواب أبسط بكثير مما كنت أتوقع ضاربا أخماس الفرضيات في أسداسها، وهو اقتصادي بحت يمتح رأسا من قاموس "الحكامة" (شيء جنوب
المتوسط لا تراه.. لكنه يراك، فلا تبتئس!) : تكلفة إزالة الملكيات كانت ستثقل خزائن الدول، حيث ستلزمها بميزانيات في كل انتخابات. رفع القلم وجفت الصحيفة، وانزلق الباطل فكسر ساقه وحوضه ونصف عموده! قلت كل شيء.. لم أقل شيئا!
دفعني كل هذا الخضم العجيب إلى أن أتفكر في ما إن كانت الحياة في نهاية المطاف مجرد "مرض (قاتل) منقول جنسيا" كما تقول كلمات أغنية شبابية إفريقية فرنسية نقلا عن فنان من العالم الجديد؟! أرأيتم.. كل شيء بات ملتبسا، حتى تحديد الموطن. أما متهمنا، فعليه أن يقدم استقالته.. لا إداريا كما فعلت زمرة من أعضاء الأكاديمية "بسبب الاستياء من طريقة إجراء تحقيق في هذه المزاعم"! بل أن يستقيل من الحياة كما يليق بإنسان شريف.. هو مثقف.. ألم يشمل اطلاعه القانون الأخلاقي للبوشيدو؟! مثقف.. زوج لمثقفة.. شمال المتوسط حيث بخير هي الثقافة.. مدير لمركز ثقافي.. تمول مركزك الثقافي رعاية ملكية.. ثم تتحرش؟! ألا تبا لك من أخرق.
أوتعلمون أن الجائزة لم تؤجل منذ قرن إلا ربع من الزمن، والسبب يومها كان وجيها: "حرب عالمية". ليفرملها اليوم "سوء سلوك جنسي" فعلى أطروحتي التي صمدت بصرامة منطقية طيلة المقال أزكى السلام، وشكرا لإلهام المترجمة.. شكرا سيدتي.
***
آلت جائزة نوبل في الآداب السنة الماضية إلى أديبة وشاعرة بولندية، وقد تم الإعلان عن ذلك قبل أيام بعدما عصفت فضيحة جنسية بالجائزة في شقها الأدبي إبان موعدها الاعتيادي قبل سنة.
وههنا قد يكمن إشكال حول الاستحقاق، وسيطرح سؤال: هل مرد هذا الاختيار الرغبة في مواراة سوءة ذلك الأخرق صاحب الفضيحة؟! لست أدري.. ولربما يجب على الجائزة أن تخصص فئة خاصة بحماقات بني البشر، يكون هو أول من سيدفع ثمنها.. طبعا، المنطق ههنا سيقلب ما دام في الأصل مقلوبا، ففي أي استلام بعد سيطمع؟!
إذا استثنينا بريق عينيها الذي يشبه إلى حد كبير الأمل، وقصة شعرها الأحمر المميزة، وانخراطها التطوعي في مد المدد النفسي لمواطنيها، فإني لا أعرف شيئا عن الشاعرة الفائزة.. حتى إني نسيت اسمها.. لحظة.. اسمها أولغا، وهو اسم جميل أيضا.
ومما لاحظه المتتبعون لقوائم الجائزة أن نصيب النساء منها ضئيل جدا، لا في الأدب وحده، بل وفي كل الأصناف. مما يذكر هنا بمكانة المرأة "السيادية" في هذا العالم، وإن كانت قوائم الجائزة مؤشرا دالا على اختلال رهيب بين كفتي ميزان الجنسين، فسأذكركم برقم آخر أقوى وقعا ودلالة.. أوتدرون كم نسبة النساء اللواتي يصلن إلى مركز القرار السياسي الأول في
بلدانهن عبر العالم؟ إنها بين 5 بالمائة و10 بالمائة، فقط لا غير. ونحن حين نرى وجه العالم الذي نعيش فيه اليوم، يبطل العجب. فالذكورية هنا خطر حقيقي، وليست فقط صرخة أو شعارا لإحدى الناشطات الحقوقيات النسويات. إن الأمر قطعا لأكبر من ذلك. وبما أن دواليب القرار السياسي اقتصادية محضة، فمن الصادم جدا أن من أصل 80 تتويجا للجائزة في العلوم الاقتصادية تظل سيدة وحيدة هي من تمكنت قبل عشر سنوات فقط من كسر احتكار ذكوري كاد أن يكون مطلقا.. والتراجيدي في الأمر أن التتويج ذاك جاء مناصفة، فهل نعد هذا نصف مقعد؟ بينما أكثر تتويجات النساء كانت في "السلام" بمعدل بلغ 17 من 90.. وكلنا نعلم أنها أقل الأصناف مصداقية وصرامة في آن...
لم يمر علي الحدث في شقه الأدبي، أنا الشاعر، دون أن ألاحظ خطرا آخر غير الذي ذكرت: إنه خطر انحسار الشعر. فإذا استثنينا تتويج أولغا، فإن ثلاثة فقط من الشعراء توجوا بالجائزة منذ مطلع القرن، والجمع المذكر هنا إنما هو من عسف اللغة بما أن من أصل الثلاثة شاعرتان.. الأمر أشبه بإيجاد الإبرة الشهيرة وسط كل هذا القش.. طبعا مع استثناء بوب، وهو استثناء على مزاجيته وجيه. ذلك أن اللجنة في إحدى المرات القريبة قد تجاهلت كل شعراء العالم ومعهم الروائيين، وقررت ذات يوم أن تمنح الجائزة بعدا ترفيهيا.. أو استهلاكيا، كأكلة جاهزة.. ومما جاء في التعليل: "خلق تعبيرات شعرية جديدة في تقليد الأغنية الأمريكية العظيمة". حسنا، لن أعلق على نعت الأغنية الأمريكية بـ"العظيمة".. كل ما سأثبت هنا هو تناقض اللجنة الصارخ مع روح الجائزة التي يفترض منحها "لكاتب قدم خدمة كبيرة للإنسانية من خلال عمل أدبي، وأظهر مثالية قوية"، فأين الإنساني والمثالي في عمل ثقافي خاص وفي صنف مغلق؟!
إن تأملنا المتجدد في أسماء المتوجين سيجعلنا بالضرورة نستحضر أسماء ذات استحقاق أدبي صارخ في وجه سلبية اللجنة. وطبعا يحضرني في كل مرة طيف شاعرنا العربي العزيز، الذي إن قارنا قوة إنتاجه وعمقه ورؤيته الإنسانية فإن بوب يتواضع كثيرا جدا وجدا أمامه. وحتى لا يظهر في كلامي أي انحياز أو تحامل، سأكتفي بالإشارة إلى أن شاعرنا قد تجاوز سقف الإنسانية كما المثالية بكثير: بداية بـ"خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة" حيث أعاد عقارب الزمن إلى الوراء غير المرغوب في تقديمه، بينما أبدع في انعتاقه من حدود الجغرافيا والقومية المقيتة في "ليس للكردي إلا الريح". ولا أعظم من ألا يحتاج الشاعر لا إلا لغته، ولا إلا بلاده في السمو إلى رفعة الأدب الحق، ومن نافل القول هنا التذكير بانبهار الشاعر اليوناني المكافح ريتسوس بتجربة شاعرنا ناقلا إياها إلى بعد آخر. كما أن فنانا آخر مبدعا هو مارسيل، قد تكفل بنقل شعره بعناية إلى الغناء. أرأيت يا بوب كيف أني لم أتحامل عليك؟! وأن الجائزة قد نالت من شرفك وأساءت إليك، بدل أن تشرفك وتكرمك.. واعذرني في حدة اختيار الكلمات، فهي عند الشعراء لا تكون إلا كذلك.
تجاذبت مع صاحبي أخيرا أطراف الحديث حول الموضوع، فذكرت له أني في مقاربة قضية شاعرنا داخله لا يسعني بعد ما تقدم إلا التأمل طويلا جدا في وفاة شاعرنا في إحدى المستشفيات الأمريكية. بالإضافة إلى التصرفات المريبة جدا لمرافقيه حينها، وأنا هنا بطبيعة الحال لا أشك في أحد ولا أدين بدين المؤامرة. إنما سأقول ما قاله الراحل تشافيز وقد أتى
العلاج الكيماوي على كل شعره كما نال من كل قواه، حين سئل هل يتهم أحدا بالتسبب بإصابته بمرض السرطان. فما كان من الرجل وهو على بعد خطوتين من الترجل من هذه الحياة سوى أن علق على إصابته وعددا لا بأس به من رؤساء أمريكا اللاتينية المعارضين للسياسات الأمريكية بالسرطان بقوله: "أنا لا أتهم أحدا، أنا فقط أفكر بصوت عال!".
في الختام سأضيف اسما آخر رأيته اليوم ذات استحقاق أدبي في نيل الجائزة، وهو أمل. مواطن المتوج العربي الوحيد بالجائزة إلى اليوم، وعلى غرار تعليلات اللجنة أقول: لخياله الشعري المتفرد في جموحه، ولتنبيهه إيانا أن الشيطان أول من دفع ثمن حرية التعبير وأنه ليس أبدا بكل ذلك السوء الذي ما فتأت أغلب الثقافات منذ ما قبل التاريخ وإلى اليوم تصوره. أقصد طبعا "كلمات سبارتكوس الأخيرة".
***
"لصوتها الشعري الذي لا لبس فيه والذي بجماله المجرد يجعل الوجود الفردي عالميا".. "ليجعلني الله أتق!"، ولم أجد تعبيرا غير تعبيرنا الدارج هذا أشد تعبيرا تعليقا على هوية الحائزة على الجائزة الأدبية لهذا العام.
.. حسنا، مرحبا بكم مجددا في المقال السنوي الخاص بالتعليق على جائزة نوبل في الآداب، والذي جاء سابقاه في معرض يوميات السنتين الفارطتين اللتين كتبت فيهما نثرا غزيرا لعيون كيمياء تلك المدينة الساحرة، أعاد الله سحرها وحفظ لنا ما تبقى من روح الجمال المطلق في الزمن الصعب.
.. قلت إني تفاجأت قبل أيام، كما تفاجأ كل مترقبي الإعلان عن اسم المتوج أو المتوجة بهذه الجائزة. فقد قيل إن التتويج سيكون إفريقيا، أما أنا فقد ظننت أن التتويج لن يكون أصلا نظرا للظرف، وإجلالا للأرواح التي سقطت وتواصل السقوط كما الأسئلة الكبرى التي وضعتها أمامنا الأزمة الصحية "العالمية" (كما ورد في تعليل اللجنة!)، لكن.. يبدو أن ذاك ليس بشيء! فالحدث المهيمن الآن ليس حربا عالمية ثالثة حتى لا تمنح الجائزة كما في سني الأوليين، وطبعا هو لا يرقى إلى مستوى فضيحة "سوء السلوك الجنسي" التي عصفت بالجائزة وأجلت منحها قبل سنتين فقط.. "سوء السلوك الجنسي"، أراهن أن القدر لن يجود بسخرية من هذا الطراز الرفيع بعد قط!
.. آه، نسيت، في السنة الماضية أفلت بيتر من مجهري، فـ"جاز على وجه أولغا".. كم هي جميلة وبليغة تعابيرنا الدارجة، وكم هي خرقاء فكرة المفاضلة بين اللغات والثقافات خاصة الكائن الواحد "على هذه الأرض".. الوحيد الذي يحمل في جيناته "غريزة الإيذاء"! قلت، إنه أفلت، وأنا أراجع حيثيات النسخة الماضية من الجائزة عجبا من إصرار اللجنة على إصدار
نسخة سنة الجائحة، لفت انتباهي سيل مؤاخذات واعتراضات على بيتر بسبب اصطفافه "المبدئي" إلى جانب الصرب في مقابل البوشناق في اقتتالهم القومي أواخر القرن الماضي. ههنا ثمة فريقان: إنساني يحرم على الأديب شيئا شنيعا كالشد على يد القتلة، وآخر متهافت يقابل القومية المقيتة تلك بأخرى مزدوجة لا تقل عنها مقتا باسم "المثل الماضوية". وبين هذين موقف وجدتني أنحاز إليه جدا ألا وهو القائل إن الإنسان كائن يستطيع القيام بأرقى الأعمال الإبداعية، تماما كما يستطيع الإتيان بأكثر الصنائع البشرية وقاحة. ومنه، فإن أبدع وجب فصل هذا عن ذاك، لا الخلط.. وهذا ذكرني بما أثبت ذات مرة عن قيمة الإبداع الذي يأتي بمساعدة مواد منشطة أو مخدرة، فقلت إنه إبداع أيا كان، وأنه طفل له حق الحياة وحق الحماية من لظى اليتم والوصم، وإلا فما المبدعون من المتعاطين والمدمنين إلا قليل. أما التحامل، وتهافت أولئك فإنه أيضا عمل وقح.. كذلك رأيته وأنا أتابع الكلمات الموظفة في ذلك، ثم نقل النقاش من ميدان الأدب إلى السياسة، ثم إبداء رأي سلطان الشرق كسير الصولجان في الموضوع، متذكرين حينها أن الجائزة لـ"صانع الديناميت''، ولو منح منها عظمة السلام لقيل اكتست لحما طريا طيبا.. وما هكذا يصنع نقد للأمور...
إن مبدأ الفصل لأمر "صحي" جدا، لا سيما الآن، ومنح الجائزة لشاعرة أمر جيد، ظاهريا على الأقل، لكن عن أي "وجود عالمي" تتحدث اللجنة؟! عالم الشاعرة ذاك لم يعد له وجود البتة، وهو قطعا لن يعود في ظل عالم جديد "لم نعد له بعد هاجسنا" وذي تحية ثانية لمن منع الجائزة لأسباب سياسية فاستحقها مرتين، ثم لعدد غير متناه من المرات، كطبيعة البعد الإنساني في شعره الذي سمى حتى على القضية، وقد كان يحث مواطنيه على التخلي عن دوري كل من البطل والضحية. فالأول محل التحامل، والثاني يعقبه الانتقام.. "فكرة فاسدة في الدماغ"، تماما كفكرة "الحرب"، وسلام ههنا لروح شاعرنا الذي أطفأت الكهرباء نور حياته فخلد نور شعره. وبخير أذكر أديبة سيرتا إذ قالت في "امتداد الظل" أن "لا أحد يبقى ضحية للأبد"، وفي ذلك امتداد عميق للمعنى.
.. لنعد، شخصيا، في ذهني اسم كاتب وحيد أراه مستحقا استحقاقا جديرا لتتويج أدبي عالمي إن هو حاول بمنطقه القاتل الذي يستهدف "الزوايا الميتة" (كما في لغة أخرى) أن يجيب عن أسئلة "الوجود العالمي" الآن.. لا قبل سنة ولا قبل سنوات- كأن الإنسان لم يع بعد أننا على بعد خمس سنوات فقط من عمق ربع قرن في قرننا هذا، فلم نعيش بعد بأجوبة القرن العشرين؟!- وطبعا، إذا ظهر السبب بطل العجب. فالكاتب هذا يسير على منهج العزيز فيودور ميخايلوفيتش، نبي الأدب الذي لم تزل بعض الأوساط الأدبية إلى اليوم تراه مجرد "موهبة مرضية" ذاهلة عن فضله في إيجاد شفاء للأسقام النفسية للبشرية منذ القرن التاسع عشر وإلى اليوم، أقصد منهج التحليل النفسي الذي استخلص سيغموند الكثير من خلاصاته من الأعمال الأدبية لهذا الأديب. ذاك الأدب، وتلك مهمة الأديب. أما التركيز في الأدب على الجوانب الجمالية، فليس ثمة في الوجود طائر يحلق بجناح واحدة.
أعود لأقول إن مرشحي باستطاعته كسب هذا الرهان الذي لا يمكن للأدب أن يتجاهله اليوم، ومن أواخر سخرية القدر- الذي مل السخرية منا فسلم المفاتيح للجائحة وتركنا ورحل- أن نصه الذي استمتعت أيما استمتاع باستخلاصه وإعادة تركيبه كان آخر شيء أقرأه قبل أن تعم
الجائحة.. أقول نصه، لأنه كان سيناريو لعمل متلفز، فما كان يهمني أداء الممثلين ولا الإخراج بقدر ما استأثر النص ذاك باهتمامي لأهمية تفاصيله، وطبعا سر قلبي أن أقرأ لكاتب تمثل منهج نبينا على خير ما يكون الاقتداء.. طبعا فيما يخص النثر فإني بدوري على منهجه لن أحيد، منهج إنساني جميل بسيط عميق وبه حدائق غناء شعرية.
.. ماذا عن العرب؟!
.. كعادتهم، بين موغل في غبار الماضوية، وآخر يصنع صنما للسرد يعبده في ظل زمن الصناعات والعودة أخيرا إلى الإنسان. وطبعا، وجدت أدونيس كالعادة مرشحا أبديا.. غير أن اسمه سرعان ما طاش من القائمة المطولة حين جد الجد! وطبعا، العرب- لا الكتاب باللغة العربية- بعيدون جدا عن روح الأدب، وكيف يفهم الأدب من يقول بموت القصيدة؟! وكي لا يكون الأمر تحاملا، اختاروا برنامجا أدبيا عربيا، وآخر بلغة أخرى، ثم قارنوا بين الاثنين.. وكفى.
صحيح أن الحروب والأزمات مواضيع مكررة في الأدب عبر العصور، لكن سبل تقديم بحث- وكل أدب بحث- تنقسم قسمين اثنين: إما موضوع جديد تماما دون سابق، أو تناول لموضوع شائع كما لم يتم تناوله من قبل. ونحن الآن في فترة معاصرة حاسمة. فحين ظن الإنسان المعاصر أنه انتصر، أسقط في يده على حين غرة، وها هو ذا بعد سابق يقينيته يغرق اليوم كل يوم في مستنقع "اللاأدرية القهرية" كما قال الصديق ديفيد. فإن كان العلم بجلالة قدره ما زاد عن أن قال: لا أدري! فإن الأدب لم يقل كلمته بعد، وذا ما كان يجب على لجنة أدبية لجائزة عالمية أن تتفطن له. أما التصرف "كأن شيئا لم يكن" فهذا يدرج رأسا ضمن الجانب الوقح للكائن البشري، وأزيد فأقول إنه لربما لم تأت الجائحة إلا لهذا!
القراءة أمر مهم، لكن ماذا عن الكتابة؟! أظنها من دون شك الأهم، على أن قراءة لا تؤثر إيجابا في صاحبها.. ليست بتلك! اختصارا للوقت والكلمات.. ومن غريب الصدف، من باب تقاسم التجارب الشخصية، أني حين بدأت الكتابة بشكل يومي طيلة سنتين وبدون انقطاع، وضعت فرضيتين اثنتين:
- تمكن الكتابة صاحبها من تملك مصيره والتأثير إيجابا في المستقبل بمختلف أبعاده.
- الكتابة فعل ينازع القدر سلطته القهرية الشمولية على الإنسان فيحدث التغيير.
.. فحدث ذا وذاك، وطبعا لا معجزة تذكر في الأمر. إنه سر روح الأدب فحسب. لذلك فإني أحرض على الكتابة، أما أن تقرأ كثيرا دون أن يؤثر فيك وفي سلوكك شيء مما تقرأ ففيم ذاك؟! وسؤال الجدوى واحد من كثير أسئلة أغرقت بها الجائحة طاولاتنا ونحن لما نجب عما سلف...
أختم فأذكر مشهدا طريفا كنت فيه الشخصية الرئيسة، مشهد يدلل بعمق على أن الأدب حاضر في كل مكان. وما علينا سوى التقاطه التقاط الجاحظ للمعاني، وطبعا ما كل التراث هراء! فإليكم المشهد:
وقفت ذات صباح في أحد الدوائر الإدارية بالقرية، والصباح لعنة أكثر الشعراء، وبينما أعصابي لا يعوز نارها حطب وأنا واقف أنتظر توقيعا، وآمل أشياء اتضح اليوم أنها ربما لن تكون- وربما العكس.. من يدري!- إذا بي أرفع رأسي لأرى ملصقا يستفز الأعين بلونيه الأخضر والأسود، لا ثالث لهما، وعلى الملصق شخص يرتدي قناعا طبيا. تحت القناع، كتبت عبارة "إليك الطرق الجديدة لتبادل السلام"! فعدت إلى الصورة فما رأيت غير الرجل المسن خلف القناع، ومنه عدت للنص لألفي هذه الجملة: "أكواع تلتقي، وقبل تطير"! وتحت الجملة رابطان إلكترونيان على ورقة ملصقة على جدار، وإلى جوار الرابط الثاني كلمة: "مجتمع"!
.. ثمة فرق خفي بين الجائحة والوباء.
.. الكل يعلم، لكن.